Alef Logo
الغرفة 13
              

ميشيل سورا / حزب الله يتخلص من الشاهد

ألف

2017-08-12

ميشيل سورا مغامر مشى في حقول الألغام يعود اليوم من جديد

عمان- قامت مجموعة من أصدقاء الباحث الفرنسي ميشيل سورا بتجميع أبحاثه المنشورة بالفرنسية في كتاب أسموه “سوريا الدولة البربرية” وصدرت الترجمة العربية منه في هذا العام 2017 بتقديم من المفكرين الفرنسي جيل كيبل والسوري برهان غليون. وفي هذا الكتاب الهام نجد مراجعة متأنية لمرحلة غاية في الأهمية من التاريخ السياسي الاجتماعي السوري الممتد من 1979 حتى 1983، وهي فترة عرف المجتمع العربي فيها مخاضات مريرة في صراعه المباشر مع المراهقة الدموية للسلطة السياسية، مراهقة غاية في الدقة والذكاء والحنكة في قراءة المجتمع السوري، على سبيل المثال، من قبل النظام وأساليب الإحاطة به من أجل تأمين سطوة السلطة حتى أمد بعيد.

وربما لم ينصف أحد ميشيل سورا، في فترة مبكرة، سوى المخرج السوري عمر أميرالاي الذي عاجل إلى تحقيق وسد دين السوريين واللبنانيين لهذا السوسيولوغ الكبير الذي دفع حياته ثمنا للذود عن الحقيقة في سوريا، وعن مصائر ودروب الحرية في سوريا ولبنان.

فالفيلم الذي أنجزه أميرالاي في العام 1996 أي بعد عشر سنوات كاملة على قيام منظمة “الجهاد الإسلامي” التي كانت أحد الأوجه المستترة لحزب الله قبل أن يتشكل رسميا، بالإعلان عن “مقتل الجاسوس والباحث الفرنسي ميشيل سورا” حسب تعبيرهم، يعتبر شهادة نادرة من زميل زنزانة سورا في سجن الاختطاف جان بول كوفمان، واستذكارا كبيرا من مثقف سوري لذلك الرجل الذي أًرُيد له أن يغوص في غياهب النسيان.


على رقعة شطرنج العالم العربي

قبل هذا الإعلان الذي قامت به منظمة “الجهاد” بسنة واحدة في العام 1985، وصل سورا من باريس إلى بيروت، إلى منزل أسرته الصغيرة المكونة من زوجته السورية ماري معمار باشي، وابنتيه الصغيرتين حينها، عائدا بعد رحلة عمل قام بها في فرنسا وإيطاليا.

كان مقر إقامته الدائمة في بيروت بعد أن قرر أن يمضي بقية حياته في مسقط قلبه وليس في مسقط رأسه، فلقد وقع ميشيل الفتى اليافع في غرام الشرق وحبائل هواه في فترة مبكرة جدا، مذ أن ولد في بنزرت في تونس سنة 1947، وبقي فيها حتى أحداث 1961 لكنه غادرها قسرا بعد أن قامت قوات المغاوير الفرنسية بقصف واقتحام مكتب البريد بعد أن احتمى فيه عدد من المناضلين التونسيين من طالبي الاستقلال الوطني، وقتلت فيما قتلت من الأبرياء الذين أعدموا أمام ناظري سورا.

سافر سورا إلى فرنسا التي كانت تتلمس شيئا فشيئا فكرة تحول الرئيس ديغول من مناضل إلى موظف كبير ومن ثم إلى زعيم وإله، فانحاز بسرعة البرق لكل من قال لا ورفض الواقع السياسي الفرنسي المركّب وقتها، وانضم بسرعة أيضا إلى مظاهرات 1968 الشهيرة التي هزت فرنسا والعالم بأسره، حيث كانت تلك المظاهرات الطلابية الليبرالية اليسارية الاشتراكية تهز بعنف شديد سرير السكون السياسي وكرسي العجز والعجائز، مغيّرة وجه فرنسا وأوروبا مرة جديدة.

سورا كان دقيقا وحازما في نبش أصول العنف الممنهج الذي مورس في الشرق الأوسط في أواخر السبعينات ووصولا إلى أواسط الثمانينات
وربما كان الحالمون في مكان ما من تلك المظاهرات متناثرون مثل عمر أميرالاي الذي كان يحمل كاميرته الصغيرة دون فيلم منخرطا في المظاهرات ومسجلا كل شيء في رأسه، تماما كما ميشيل الذي فغر فاهه، من شدة ذهول فكرة التغيير والقدرة عليه. هناك عرف سورا أنه لا بد له من امتلاك أدوات وأساليب تتيح له سبر وفهم المجتمعات التي خرج منها والتي عاش فيها والتي نوى أن يعيش فيها.

من باريس إلى بيروت في عام 1971، حيث أقام في بيروت الكوزموبوليتانية حينها، بيروت التي كانت تشتعل رفضا وثورة وثقافة، وانتمى بحدسه السريع إلى أولئك الصادقين من الشباب في الثورة الفلسطينية وانخرط معهم في حوارات ونقاشات وجدل أكسبه فهما عميقا لآلية العمل الثوري والعمل السياسي الشعبي في مواجهة الموت.


رؤية سورا الواضحة

عرف سورا عن قرب تأثير الغرب على العالم وعلى قضاياه المصيرية وكيف يتلاعب بها مثل رقعة الشطرنج، فأدرك أن رفضه للبنية السياسية الأوروبية التي ناهضها في ثورة 1968 لم يكن عبثيا وأن الغرب لا يتعامل مع قضايا العالم الثالث بنفس الميزان الدقيق الذي يتعامل فيه مع قضاياه الداخلية.

تعلم هنالك اللغة العربية وأسهم في تعليم الشباب اللغة الفرنسية، سوريين وأردنيين ولبنانيين وفلسطينيين، تعلموا مبادئ الفرنسية في داخل أزقة المخيمات اللبنانية، ولكنه بعد عام، كان قد نزع خلاله عدة قشور من فهمه لما يجري في الشرق، أراد الذهاب أكثر في معرفة مكامن ولب الصراع المشرقي، ومكامن الدكتاتورية المتشكلة أمامه وأسباب الخنوع وآليات الإخضاع وتحديد هوية من يمسك بخيوط اللعبة من الطرف الآخر، فعمل على الذهاب إلى دمشق، وفيها أقام طويلا ودرس الماجستير في العلوم الاجتماعية.

لم تكن إقامة سورا في دمشق إقامة عادية، فقد أحب تلك المدينة حبا مختلفا وتواصل مع أهلها بشكل غير تقليدي، وهناك لاحظ كمية الخوف المتراكم فوق حبالهم الصوتية، وجبال الهمّ التي تنازع حريتهم وحقهم في التعبير عن النفس، وفيها كان في تلك اللحظة التاريخية في عام 1982 التي تحول فيها الرئيس إلى “إله”، والقائد إلى زعيم خالد تنصب له التماثيل وتلصق الصور وتغنى الأناشيد لأجله.


كان سورا موجودا هناك في سوريا في فترة الانقضاض الكبير الذي أتمه نظام البعث على جماعة الإخوان المسلمين، في صراعهم المشترك بداية، ومن ثم على سوريا شعبا وأرضا وفكرا واقتصادا وثقافة ومنهجا، وكان أيضا هناك وحيدا مدونا لانتهاكات ومجازر لا يعرفها الكثير من السوريين مثل أحداث حماة الأولى سنة 1981، وأحداث تدمر وجسر الشغور وحي المشارقة.

حينها لاحظ سورا التباين الهائل بين الشعارات الزائفة التي كانت ترفع وبين التطبيق العملي على الأرض، فأدرك الخاصية العربية الكبرى التي تمظهر العرب كظاهرة صوتية وتشلهم كحراك عملي، فأسقط على الفور شعارات الحرية والاشتراكية والوحدة والتقدمية والعلمانية والتطوير والتحديث، وأدرك ماهية كل هذا الحراك الحاصل ضد اليمين الإسلامي في سوريا أو الإسلام السياسي كما بات يعرف حاليا.

ودون الوقوع في مطبات الدفاع عن الإسلاميين، كون سورا يساري النزعة، كتب العشرات من المقالات التي نشرها في باريس تحت اسم مستعار هو جيرار ميشو في مجلة إسبري الفرنسية، هاجم فيها الطريقة الهمجية في تحويل المجتمع المدني السوري إلى معسكرات أمنية وكيف أطبق نظام البعث يده بالكامل على سوريا بحجة محاربة الإخوان الذين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، حسب تعبيره.

كان سورا يعلم علم اليقين بأن النظام السوري كان يرى من عينيه الخلفيتين أن الغرب أصم أذنيه وأعمى بصره وبصيرته عما يجري في سوريا، بحجة عدم وقوع سوريا فريسة جديدة لثورة إسلامية خمينية تعادي الغرب، وبعد تلك الالتقاطة الهامة من سورا، أطلقت يد الأسد الأب في تجريم المجتمع الذي لا يتفق معه، وبدأت تخبطات نظام جديد متشكل وغير محدد الملامح في التعامل مع مجتمع منغلق على التقاليد الاجتماعية والدينية والأعراف والسياقات المذهبية، مما أنتج صداما رهيبا بين المجتمع والنظام.


ضد المجتمع بيمينه ويساره

علمانية صورية تقاتل مجتمعا متدينا صوريا أيضا، مما جعل الاثنين يتجهان نحو التشدد أكثر، وثق سورا حينها حادثة لا تتكرر كثيرا في التاريخ وهي حادثة نزع الحجاب من على رؤوس السوريات في عام 1980، في محاولة غريبة من النظام لإرغام المجتمع على الدخول في قمقم شعاراته. ودوّن أيضا مجزرة سجن تدمر ومجزرة حماة الكبرى ووثق التركيز الكبير من النظام على دراسة ومواجهة المجتمع السوري بالتغيير البطيء والعنيف أحيانا والعسكري والسريع في أحيان أخرى.


كان سورا من قلائل الليبراليين اليساريين الغربيين الذين أدركوا أن النظام السوري في تلك الفترة كان يسبح في برزخ ما، بين الاشتراكية وبين اقتصاد العائلة، وبين ادعاء العلمانية والتحريض الطائفي الذي يضمن له الاستمرار، شاهد وأدان صمت الاتحاد السوفييتي على إبادة اليسار الشيوعي السوري وتخميد الحراك المدني السوري الليبرالي.

ولأن التاريخ يعيد نفسه بشكل ساخر ومرير فلا بد من علاقة ما بين تواجد كبار البحاثة الاجتماعيين في دمشق إبان التحولات الكبرى التي تتعرض لها عين الشرق كما تصفها رواية سورية شهيرة، فكان ابن خلدون التونسي المولد، مؤسس هذا العلم في دمشق خلال حصار تيمور لنك لها، وناله ما ناله من علاقة مع الطاغية الغازي.

وكان ميشيل سورا التونسي المولد أيضا في دمشق أيضا أثناء محاولة الأسد الأب إعادة تشكيل المجتمع السوري والدمشقي بناء على رغباته وطموحاته، تفكيك وتركيب كان له الاثنان بالمرصاد والتسجيل والتدوين والتحليل، سورا كان شاهدا على بربرية النظام وعلى توحش الشرق في أقصى درجات العنف والدم، وكتب قائلا “يكفي التلفظ باسم حماة حتى نفهم أن نهر العنف يشق طريقه من الآن وصاعدا في هذا البلد كالجرح المفتوح”.


حزب الله يتخلص من الشاهد

في عام 1985 غادر سورا بيروت إلى باريس من أجل لقاء عدد من الأصدقاء السوريين ولتداول دراسات الشرق الاجتماعية التي كانت تنبئ بالانفجار. وبعد أن قفل عائدا إلى بيروت في 21 مايو بالتحديد، تم خطفه برفقة جان ميشال كوفمان في بيروت في اليوم التالي مباشرة، على يد منظمة أسمت نفسها منظمة “الجهاد الإسلامي” وهي حركة إسلامية شيعية نفذت العديد من التفجيرات في بيروت مثل تفجير السفارة الأميركية في بيروت وتفجير مقر القوات الأميركية والفرنسية الذي أسفر عن مقتل 299 جنديا أميركيا وفرنسيا، وتبنت أيضا اغتيال السفير السعودي في بيروت واختطاف وليام بكلي الأميركي وأخيرا وليس آخرا اختطاف وإعدام الباحث الاجتماعي الفرنسي ميشيل سورا.
بلغ عدد المخطوفين الفرنسيين خلال الحرب اللبنانية أكثر من خمس رهائن، وكان الخاطف واحدا، إنها منظمة الجهاد الإسلامي التي قامت لاحقا بحل نفسها وانضوت تحت لواء حزب الله.
أعلنت المنظمة أنها أعدمت “الجاسوس والباحث الاجتماعي سورا” ونشرت صورا لجثته في الصحف، وبقيت جثة الرجل متوارية في صندوق من معدن الرصاص مدفونة في أحراش بيروت حتى عام 2005، حيث أظهرت التحقيقات والتبادل السياسي للمعلومات عن مكان دفن الجثة التي وجدت بحالة جيدة وتم نقلها إلى فرنسا واستقبل النعش استقبالا رسميا من قبرئيس الوزراء دومينيك دوفيلبان، حيث دفن في مقبرة عائلته بحسب طلب أرملته الحلبية ماري معمارباشي سورا.
تفكيك بنية العنف
المخطوفون الفرنسيون خلال الحرب اللبنانية تجاوز عددهم الخمسة، من بينهم ميشيل سورا
لم يسبق لأي باحث تفنيد وتشريح بنية أنظمة الاستبداد العربي كما فعل سورا، فذلك الرجل الذي كان دقيقا وحازما في نبش أصول العنف الممنهج الذي مورس في الشرق الأوسط في أواخر السبعينات ووصولا إلى أواسط الثمانينات، لم يكن يعلم أنه يسير في حقل من الألغام والأفخاخ كان ضحيتها هو نفسه جنبا إلى جنب مع بقية ضحايا الاستبداد المشرقي جميعا.

يوضح سورا أن حافظ الأسد “لم يهتم إطلاقا بتأسيس نظام حكم بمعنى بناء الدولة بمؤسساتها وتراتبياتها؛ بل طبَّق ما يعرف بسياسة الجَذمور وفق منطقٍ براغماتيٍّ يَدمجُ فيه التعدديات في مكان واحد مليء بالتحالفات والتناقضات المقصودة والتجاوزات”. وفي نظام الجذمور هذا لا تتبع العناصر خطا تراتبيا متواصلا مع قاعدة أو رأس، بل هو يتيح لكل عنصر أن يؤثر بكل عنصر آخر أو يتأثر به. “

فالجذمور ليس فيه مركز وبوسعه دائما أن يكسب أو يخسر عنصرا أو عدة عناصر. وهو يملك حركية جوهرية ومرونة تمنحانه إمكانية التحول والتبدل باستمرار. إذ يمكن للجذمور أن ينكسر أو ينقطع في أي مكان كان، فلن يضرّه ذلك. إنه مخلوق ذو مداخل متعددة وحجم هائل، داخله متاهة. إنها تركيبة تتعقد كلما تعمقنا داخلها، لا حصر لأبواب الدخول والخروج التي لها القدرة على أن تفتح على عوالم مختلفة. تركيبة ليس لها أصل وربما ليست لها نهاية محددة”.

ويقارن سورا حافظ الأسد بالبطل عند هيغل الذي يقول إن “القائد أعلى وأسمى من العوارض المادية للحياة المدنية”، وهو “مُلكٌ لهدَفِهِ الوحيد” أي النضال على مستويات لا تهتم بسفاسف الأمور. “ويحدث أن يعالج بعض المصالح الأخرى الخفيفة، فشخصيةٌ بهذا الحجم من المؤكد أنها ستسحق في طريقها عددا من الأزهار البريئة، وستُدمِّر بعض الأشياء”. وهنا يتساءل سورا ما هي هذه “الزهرة البريئة” التي سحقها الرئيس السوري في مسيرته المنتصرة؟ إنها حرية المواطن وكرامة الإنسان فقط.

كان سورا هو أول من دق ناقوس الانتباه لتلك الظاهرة الفريدة في بناء الدكتاتورية عبر التاريخ، وعليه فقد كان أول من صدمته تلك الحقائق وكلّفته بالتالي حياته دونما تردد من قبل حلقات الاستبداد المتصلة في ذلك الشرق الحزين، في الحقيقة لم يكن ميشيل سورا بالنسبة إليهم سوى بربري فاضح، يعبث في حدائق كريستال الاستبداد التي عمروها، ورعاها الغرب، ولم تكن تلك الكؤوس الكريستال مجهزة إلا لشرب أنخاب معبأة من نهر الدم الجارف من الجرح العربي
المفتوح حتى الآن.
_______________________________________________

ميشيل سورا باحث فرنسي تونسي وضعه حزب الله في تابوت من رصاص
الباحث ميشيل كان من قلائل الليبراليين اليساريين الغربيين الذين أدركوا أن النظام السوري كان يسبح في برزخ ما بين ادعاء العلمانية والتحريض الطائفي.
العرب فارس الذهبي [نُشر في 2017/08/05، العدد: 10713، ص(13)]







تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow