Alef Logo
كشاف الوراقين
              

كتاب : الإيضاح في علوم البلاغة ج8 المؤلف : الخطيب القزويني

ألف

خاص ألف

2017-11-10

الفن الثاني في علم البيان


وهو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه ودلالة اللفظ إما على ما وضع له أو على غيره والثاني إما داخل في الأول دخول السقف في مفهوم البيت أو الحيوان في مفهوم الإنسان أو خارج عنه خروج الحائط عن مفهوم السقف أو الضاحك عن مفهوم الإنسان وتسمى الأولى دلالة وضعية وكل واحدة من الأخيرتين دلالة عقلية وتختص الأولى بدلالة المطابقة والثانية بالتضمن والثالثة بدلالة الالتزام وشرط الثالثة اللزوم الذهني أعني أن يكون حصول ما وضع اللفظ له في الذهن ملزوما لحصول الخارج فيه لئلا يلزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر لكون نسبة الخارج إليه حينئذ كنسبة سائر المعاني الخارجة ولا يشترط في هذا اللزوم أن يكون مما يثبته العقل بل يكفي أن يكون مما يثبته اعتقاد المخاطب إما لعرف أو لغيره لإمكان الانتقال حينئذ من المفهوم الأصلي الخارجي وقد وقع في كلام بعض العلماء ما يشعر بالخلاف في اشتراط اللزوم الذهني في دلالة الالتزام وهو بعيد جدا وإن صح فلعل السبب فيه توهم أن المراد

باللزوم الذهني اللزوم العقلي لإمكان الفهم بدون اللزوم الذهني بهذا المعنى حينئذ كما سبق ثم إيراد المعنى الواحد على الوجه المذكور لا يتأتى بالدلالة الوضعية لأن السامع إن كان عالما بوضع الألفاظ لم يكن بعضها أوضح دلالة من بعض وإلا لم يكن كل واحد منها دالا وإنما يتأتى بالدلالات العقلية لجواز أن يكون للشيء لوازم بعضها أوضح لزوما من بعض ثم اللفظ المراد به لازم ما وضع له إن قامت قرينة على عدم إرادة ما وضع له فهو مجاز وإلا فهو كناية ثم المجاز منه الاستعارة وهي ما تبتنى على التشبيه فيتعين التعرض له فانحصر المقصود في التشبيه والمجاز والكناية وقدم التشبيه على المجاز لما ذكرنا من ابتناء الاستعارة التي هي مجاز على التشبيه وقدم المجاز على الكناية لنزول معناه من معناها منزلة الجزء من الكل.

القول في التشبيه

التشبيه الدلالة على مشاركة أمر لآخر في معنى والمراد بالتشبيه ههنا ما لم يكن على وجه الاستعارة التحقيقية ولا الاستعارة بالكناية ولا التجريد فدخل فيه ما يسمى تشبيها بلا خلاف وهو ما ذكرت فيه أداة التشبيه كقولنا زيد كالأسد أو كالأسد بحذف زيد لقيام قرينة وما يسمى تشبيها على المختار كما سيأتي وهو ما حذفت فيه أداة التشبيه وكان اسم المشبه به خبرا للمشبه أو في حكم الخبر كقولنا زيد أسد وكقوله تعالى { صم بكم عمي } أي هم ونحوه قول من يخاطب الحجاج
( أسد علي وفي الحروب نعامة ** فتحاء تنفر من صفير الصافر )
وكقولنا رأيت زيدا بحرا
وإذا قد عرفت معنى التشبيه في الاصطلاح فاعلم أنه مما اتفق العقلاء على شرف قدره وفخامة أمره في فن البلاغة وأن تعقيب المعاني به لا سيما قسم التمثيل منه يضاعف قواها في تحريك النفوس إلى المقصود بها مدحا كانت أو ذما أو افتخارا أو غير ذلك وإن أردت تحقيق هذا فانظر إلى قول البحتري


( دان على أيدي العفاة وشاسع ** عن كل ند في الندى وضريب )
( كالبدر أفرط في العلو وضوؤه ** للعصبة السارين جد قريب )
أو قول ابن لنكك
( إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجا ** رأيت صورته من أقبح الصور )
( وهبه كالشمس في حسن ألم ترنا ** نفر منها إذا مالت إلى الضرر )
أو قول ابن الرومي
( بذل الوعد للإخلال سمحا ** وأبى بعد ذاك بذل العطاء )
( فغدا كالخلاف يورق للعين ** ويأبى الإثمار كل الإباء ) أو قول أبي تمام
( وإذا أراد الله نشر فضيلة ** طويت أتاح لها لسان حسود )
( لولا اشتعال النار فيما جاورت ** ما كان يعرف طيب عرف العود ) أو قوله أيضا
( وطول مقام المرء في الحي مخلق ** لديباجتيه فاغترب تتجدد )
( فإني رأيت الشمس زيدت محبة ** إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد )
وقس حالك وأنت في البيت الأول ولم تنته إلى الثاني على حالك وأنت قد انتهيت إليه ووقفت عليه تعلم بعد ما بين حالتيك في تمكن المعنى لديك وكذا تعهد الفرق بين أن تقول الدنيا لا تدوم وتسكت وأن تذكر عقيبه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من في الدنيا ضيف وما في يده عارية والضيف مرتحل والعارية مؤداة أو تنشد قول لبيد:


( وما المال والأهلون إلا ودائع ** ولا بد يوما أن ترد الودائع )
وبين أن تقول أرى قوما لهم منظر وليس لهم مخبر وتقطع الكلام وأن تتبعه نحو قول ابن لنكك
( في شجر السرو منهم مثل ** له رواء وما له ثمر )
وانظر في جميع ذلك إلى المعنى في الحالة الثانية كيف يتزايد شرفه عليه في الحالة الأولى ولذلك أسباب منها ما يحصل للنفس من الأنس بإخراجها من خفي إلى جلي كالانتقال مما يحصل لها بالفكرة إلى ما يعلم بالفطرة أو بإخراجها مما لم تألفه إلى ما ألفته كما قيل
( ما الحب إلا للحبيب الأول ** ) أو مما تعلمه إلى ما هي به أعلم كالانتقال من المعقول إلى المحسوس فإنك قد تعبر عن المعنى بعبارة تؤديه وتبالغ نحو أن تقول وأنت تصف اليوم بالقصر يوم كأقصر ما يتصور فلا يجد السامع له من الأنس ما يجده لنحو قولهم أيام كأباهيم القطا وقول الشاعر
( ظللنا عند باب أبي نعيم ** بيوم مثل سالفة الذباب )
وكذا تقول فلان إذا هم بالشيء لم يزل ذاك عن ذكره وقصر خواطره على إمضاء عزمه فيه ولم يشغله عنه شيء فلا يصادف السامع له أريحية حتى إذا قلت إذا هم ألقى بين عينيه عزمه امتلأت نفسه سرورا وأدركته هزة لا يمكن دفعها عنه ومن الدليل على أن للإحساس من التحريك للنفس وتمكين المعنى ما ليس لغيره أنك إذا كنت أنت وصاحب لك يسعى في أمر على طرف نهر وأنت

تريد أن تقرر له أنه لا يحصل من سعيه على طائل فأدخلت يدك في الماء ثم قلت له انظر هل حصل في كفي من الماء شيء فكذلك أنت في أمرك كان لذلك ضرب من التأثير في النفس وتمكين المعنى في القلب زائد على القول المجرد ومنها الاستطراف كما سيأتي ومن فضائل التشبيه أنه يأتيك من الشيء الواحد بأشباه عدة نحو أن يعطيك من الزند بإبرائه شبه الجواد والذكي والنجح في الأمور وبإصلاده شبه البخيل والبليد والخيبة في السعي ومن القمر الكمال عن النقصان كما قال أبو تمام
( لهفي على تلك الشواهد فيهما ** لو أمهلت حتى تصير شمائلا )
( لغدا سكوتهما حجى وصباهما ** حلما وتلك الأريحية نائلا )
( ولأعقب النجم المرذ بديمة ** ولعاد ذاك الطل جودا وابلا )
( إن الهلال إذا رأيت نموه ** أيقنت أن سيصير بدرا كاملا )
والنقصان عن الكمال كقول أبي العلاء المعري
( وإن كنت تبغي العيش فابغ توسطا ** فعند التناهي يقصر المتطاول )
( توقى البدور النقص وهي أهلة ** ويدركها النقصان وهي كوامل )
وتتفرع من حالتي كماله ونقصه فروع لطيفة كقول ابن بابك في الأستاذ أبي علي وقد استوزره وأبا العباس الضبي فخر الدولة بعد وفاة ابن عباد
( وأعرت شطر الملك شطر كماله ** والبدر في شطر المسافة يكمل )


وقول أبي بكر الخوارزمي
( أراك إذا أيسرت خيمت عندنا ** مقيما وإن أعسرت زرت لماما )
( فما أنت إلا البدر إن قل ضوءه ** أغب وإن زاد الضياء أقاما )
المعنى لطيف وإن لم تساعده العبارة على ما يجب لأن الإغباب أن يتخلل بين وقتي الحضور وقت يخلو منه فإنما يصلح لأن يراد أن القمر إذا نقص نوره لم يوال الطلوع في كل ليلة بل يظهر في بعض الليالي دون بعض وليس الأمر كذلك لأنه على نقصانه يطلع كل ليلة حتى تكون السرار وكذا ينظر إلى بعده وارتفاعه وقرب ضوئه وشعاعه في نحو ما مضى من بيتي البحتري وإلى ظهوره في كل مكان كما في قول أبي الطيب
( كالبدر من حيث التفت وجدته ** يهدي إلى عينيك نورا ثاقبا )
إلى غير ذلك ثم النظر في أركان التشبيه وهي أربعة طرفاه ووجهه وأداته وفي الغرض منه وفي تقسيمه بهذه الاعتبارات أما طرفاه فهما إما حسيان كما في تشبيه الخد بالورد والقد بالرمح والفيل بالجبل في المبصرات والصوت الضعيف بالهمس في المسموعات والنكهة بالعنبر في المشمومات والريق بالخمر في المذوقات والجلد الناعم بالحرير في الملموسات وإما عقليان كما في تشبيه العلم بالحياة
وإما مختلفان
والمعقول هو المشبه كما في تشبيه المنية بالسبع أو بالعكس كما في تشبيه العطر بخلق كريم والمراد بالحسي المدرك هو أو مادته بإحدى الحواس الخمس الظاهرة

فدخل فيه الخيالي كما في قوله
( وكأن محمر الشقيق ** إذا تصوب أو تصعد )
( أعلام ياقوت نشرن ** على رماح من زبرجد ) وقوله
( كلنا باسط اليد ** نحو نيلوفر ندي )
( كدبابيس عسجد ** قضبها من زبرجد )
والمراد بالعقلي ما عدا ذلك فدخل فيه الوهمي وهو ما ليس مدركا بشيء من الحواس الخمس الظاهرة مع أنه لو أدرك لم يدرك إلا بها كما في قول امرىء القيس
( ومسنونة زرق كأنياب أغوال ** )
وعليه قوله تعالى { طلعها كأنه رؤوس الشياطين } وكذا ما يدرك بالوجدان كاللذة والألم والشبع والجوع وأما وجهه فهو المعنى الذي يشترك فيه الطرفان تحقيقا أو تخييلا والمراد بالتخييل أن لا يمكن وجوده في المشبه به إلا على تأويل كما في قول القاضي التنوخي
( وكأن النجوم بين دجاها ** سنن لاح بينهن ابتداع )
فإن وجه الشبه فيه الهيئة الحاصلة من حصول أشياء مشرقة بيض في جوانب شيء مظلم أسود فهي غير موجود في المشبه به إلا على طريق التخييل وذلك أنه لما كانت البدعة والضلالة وكل ما هو جهل

يجعل صاحبها في حكم من يمشي في الظلمة فلا يهتدي إلى الطريق ولا يفصل الشيء من غيره فلا يأمن أن يتردى في مهواة أو يعثر على عدو قاتل أو آفة مهلكة شبهت بالظلمة ولزم على عكس ذلك أن تشبه السنة والهدى وكل ما هو علم بالنور وعليهما قوله تعالى { يخرجهم من الظلمات إلى النور } وشاع ذلك حتى وصف الصنف الأول بالسواد كما في قول القائل شاهدت سواد الكفر من جبين فلان والصنف الثاني بالبياض كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم ( أتيتكم بالحنيفية بالبيضاء وذلك لتخييل أن السنن ونحوها من الجنس الذي هو إشراق أو ابيضاض في العين وأن البدعة ونحوها على خلاف ذلك فصار تشبيه النجوم ما بين الدياجي بالسنن ما بين الابتداع كتشبيه النجوم في الظلام ببياض الشيب في سواد الشباب وبالأنوار مؤتلقة بين النبات الشديد الخضرة فالتأويل فيه أن تخيل ما ليس بمتلون متلونا ويحتمل وجها آخر وهو أن يتأول بأنه أراد معنى قولهم إن سواد الظلام يزيد النجوم حسنا فإنه لما كان وقوف العاقل على عوار الباطل يزيد الحق نبلا في نفسه وحسنا في مرآة عقله جعل هذا الأصل من المعقول مثالا للمشاهد المبصر هناك غير أنه لا يخرج مع هذا عن كونه على خلاف الظاهر لأن الظاهر أن يمثل المعقول في ذلك بالمحسوس كم فعل البحتري في قوله
( وقد زادها إفراط حسن جوارها ** خلائق أصفار من المجد خيب )
( وحسن دراري الكواكب أن ترى ** طوالع في داج من الليل غيهب )


ومن التشبيه التخييلي قول أبي طالب الرقي
( ولقد ذكرتك والظلام كأنه ** يوم النوى وفؤاد من لم يعشق ) فإنه لما كانت أيام المكاره توصف بالسواد توسعا فيقال اسود النهار في عيني وأظلمت الدنيا علي وكان الغزل يدعى القسوة على من لم يعشق والقلب القاسي يوصف بالسواد توسعا تخيل يوم النوى وفؤاد من لم يعشق شيئين لهما سواد وجعلهما أعرف به وأشهر من الظلام فشبهه بهما وكذا قول ابن بابك
( وأرض كأخلاق الكرام قطعتها ** وقد كحل الليل السماك فأبصرا )
فإن الأخلاق لما كانت توصف بالسعة والضيق تشبيها لها بالأماكن الواسعة والضيقة تخيل أخلاق الكرام شيئا له سعة وجعل أصلا فيها فشبه الأرض الواسعة بها وكذا قول التنوخي
( فانهض بنار إلى فحم كأنهما ** في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا )
فإنه لما كان يقال في الحق إنه منير واضح فيستعار له صفة الأجسام المنيرة وفي الظلم خلاف ذلك تخيلهما شيئين لهما إنارة وإظلام فشبه النار والفحم مجتمعين بهما مجتمعين وكذا ما كتب به الصاحب إلى القاضي أبي الحسن وقد أهدى له الصاحب عطر القطر
( يا أيها القاضي الذي نفسي له ** مع قرب عهد لقائه مشتاقه )
( أهديت عطرا مثل طيب ثنائه ** فكأنما أهدى له أخلاقه )
فإنه لما كان الثناء يشبه بالعطر ويشتق له منه تخيله شيئا له رائحة

طيبة وشبه العطر به ليوهم أنه أصل في الطيب وأحق به منه وكذا قول الآخر
( كأن انتضاء البدر من تحت غيمه ** نجاء من البأساء بعد وقوع )
فإنه لما رأى الخلاص من شدة يشبه بخروج البدر من تحت الغيم بانحساره عنه قلب التشبيه ليرى أن صورة النجاء من البأساء لكونها مطلوبة فوق كل مطلوب أعرف من صورة انتضاء البدر من تحت غيمه وإذا علم أن وجه الشبه هو ما يشترك فيه الطرفان علم فساد جعله في قول القائل النحو في الكلام كالملح في الطعام كون القليل مصلحا والكثير مفسدا لأن القلة والكثرة إنما يتصور جريانهما في الملح وذلك بأن يجعل منه في الطعام القدر المصلح أو أكثر منه دون النحو فإنه إذا كان من حكمه رفع الفاعل ونصب المفعول مثلا فإن وجد ذلك في الكلام فقد حصل النحو فيه وانتفى الفساد عنه وصار منتفعا به في فهم المراد منه وإلا لم يحصل وكان فاسدا لا ينتفع به فالوجه فيه هو كون الاستعمال مصلحا والإهمال مفسدا لاشتراكهما في ذلك ومما يتصل بهذا ما حكي أن ابن شرف القيرواني أنشد ابن رشيق قوله
( غيري جنى وأنا المعاقب فيكم ** فكأنني سبابة المتندم )
وقال له هل سمعت هذا المعنى فقال ابن رشيق سمعته وأخذته أنت وأفسدته أما الأخذ فمن النابغة الذبياني حيث يقول
( خلفت فلم أترك لنفسك ريبة ** وهل يأثمن ذو إمة وهو طائع )
( لكلفتني ذنب امرىء وتركته ** كذا العر يكوي غيره وهو راتع )


وأما الإفساد فلأن سبابة المتندم أول شيء يتألم منه فلا يكون المعاقب غير الجاني وهذا بخلاف بيت النابغة فإن المكوى من الإبل يألم وما به عر البتة وصاحب العر لا يألم جملة وهو إما غير خارج عن حقيقة الطرفين أو خارج والأول إما تمام حقيقتهما كما في تشبيه إنسان بإنسان في كونه إنسانا أو جزؤهما كما في تشبيه بعض الحيوانات العجم بالإنسان في كونه حيوانا والثاني صفة إما حقيقية أو إضافية والحقيقة إما حسية وهي الكيفيات الجسيمة مما يدرك بالبصر من الألوان والأشكال والمقادير والحركات وما يتصل بها من الحسن والقبح وغير ذلك أو بالسمع من الأصوات القوية والضعيفة والتي بين بين أو بالذوق من أنواع الطعوم أو بالشم من أنواع الروائح أو باللمس من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والخشونة والملاسة واللين والصلابة والخفة والثقل وما ينضاف إليها وإما عقلية كالكيفيات النفسية من الذكاء والتيقظ والمعرفة والعلم والقدرة والكرم والسخاء والغضب والحلم وما جرى مجراها من الغرائز والأخلاق والإضافية كإزالة الحجاب في تشبيه الحجة بالشمس.

تقسيم أخر باعتبار آخر

ووجه الشبه إما واحد أو غير واحد والواحد إما حسي أو عقلي وغير الواحد إما بمنزلة الواحد لكونه مركبا من أمرين أو أمور أو متعدد غير مركب والمركب إما حسي أو عقلي والمتعدد إما حسي أو عقلي أو مختلف والحسي لا يكون طرفاه إلا حسيين لامتناع أن يدرك بالحس من غير الحسي شيء والعقلي طرفاه إما عقليان أو حسيان أو مختلفان لجواز أن يدرك بالعقل من الحسي شيء ولذلك يقال التشبيه بالوجه العقلي أعم من التشبيه بالوجه الحسي قال الشيخ صاحب المفتاح وههنا نكتة لا بد من التنبه لها وهي أن التحقيق في وجه الشبه يأبى أن يكون غير عقلي وذلك أنه متى كان حسيا وقد عرفت أنه يجب أن يكون موجودا في الطرفين وكل موجود فله تعين فوجه الشبه مع المشبه متعين فيمتنع أن يكون هو بعينه موجودا مع المشبه به لامتناع حصول المحسوس المعين ههنا مع كونه بعينه هناك بحكم الضرورة وبحكم التنبيه على امتناعه إن شئت وهو استلزامه إذا عدمت حمرة الخد دون حمرة الورد أو بالعكس كون الحمرة معدومة موجودة معا وهكذا في أخواتها
بل يكون مثله مع المشبه به لكن المثلين لا يكونان شيئا واحدا ووجه الشبه بين الطرفين كما عرفت واحد فيلزم أن يكون أمرا كليا مأخوذا من المثلين بتجريدهما عن التعين لكن ما هذا شأنه فهو عقلي ويمتنع أن يقال فالمراد بوجه الشبه حصول المثلين في الطرفين فإن المثلين متشابهان فمعهما وجه تشبيه فإن كان عقليا كان المرجع في وجه الشبه العقل في المال وإن كان حسيا استلزم أن يكون مع المثلين مثلان آخران وكان الكلام فيهما كالكلام فيما سواهما ويلزم التسلسل هذا لفظه ويمكن أن يقال المراد بكونه حسيا أن تكون أفراده مدركة بالحس كالسواد فإن أفراده مدركة بالبصر وإن كان هو نفسه غير مدرك به ولا بغيره من الحواس الواحد الحسي كالحمرة والخفاء وطيب الرائحة ولذة الطعم ولين الملمس في تشبيه الخد بالورد والصوت الضعيف بالهمس والنكهة بالعنبر والريق بالخمر والجلد الناعم بالحرير كما سبق والواحد العقلي كالعراء عن الفائدة في تشبيه وجود الشيء العديم النفع بعدمه وجهة الإدراك في تشبيه العلم بالحياة فيما طرفاه معقولان والجراءة في تشبيه الرجل الشجاع بالأسد ومطلق الاهتداء في تشبيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم بالنجوم فيما طرفاه محسوسان والهداية في تشبيه العلم بالنور وتحصيل ما بين الزيادة والنقصان في تشبيه العدل بالقسطاس فيما المشبه فيه معقول والمشبه به محسوس واستطابة النفس في تشبيه العطر بخلق كريم وعدم الخفاء في تشبيه النجوم بالسنن فيما المشبه فيه محسوس والمشبه به معقول قال الشيخ صاحب المفتاح وفي أكثر هذه الأمثلة في معنى وحدتها تسامح والمركب الحسي طرفاه إما مفردان كالهيئة الحاصلة

من الحمرة والشكل الكري والمقدار المخصوص في قول ذي الرمة
( وسقط كعين الديك عاورت صاحبي ** أباها وهيأنا لموقعها وكرا )
وكالهيئة الحاصلة من تقارن الصور البيض المستديرة الصغار المقادير في المرأى على كيفية مخصوصة إلى مقدار مخصوص في قول أحيحة بن الجلاح أو قيس بن الأسلت
( وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى ** كعنقود ملاحية حين نورا )
وإما مركبان كالهيئة الحاصلة من هوى أجرام مشرقة مستطيلة متناسبة المقدار متفرقة في جواب شيء مظلم في قول بشار
( كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ** وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه )
وكالهيئة الحاصلة من تفرق أجرام متلألئة مستديرة صغار المقادير في المرأى على سطح جسم أزرق صافي الزرقة في قول أبي طالب الرقي
( وكأن أجرام النجوم لوامعا ** درر نثرن على بساط أزرق )
وإما مختلفان كما في تشبيه الشاة الجبلي بحمار أبتر مشقوق الشفة والحوافر نابت على رأسه شجرتا غضا وكما مر في تشبيه الشقيق والنيلوفر
ومن بديع هذا النوع أعني المركب الحسي ما يجيء في الهيئات التي تقع عليها الحركة ويكون على وجهين أحدهما أن يقرن بالحركة غيرها من أوصاف الجسم كالشكل واللون كما في قوله
( والشمس كالمرآة في كف الأشل ** )
ومن الهيئة الحاصلة من الاستدارة مع الإشراق والحركة السريعة المتصلة وما يحصل من الإشراق بسبب تلك الحركة من التموج والاضطراب حتى يرى الشعاع كأنه يهم بأن ينبسط حتى يفيض من جوانب الدائرة ثم يبدو له فيرجع من الانبساط الذي بدا له إلى الانقباض كأنه يجتمع من الجوانب إلى الوسط فإن الشمس إذا أحد الإنسان النظر إليها ليتبين جرمها وجدها مؤدية لهذه الهيئة وكذا المرآة إذا كانت في يد الأشل ومثله قول المهلبي الوزير
( والشمس من مشرقها قد بدت ** مشرقة ليس لها حاجب )
( كأنها بوتقة أحميت ** يجول فيها ذهب ذائب )
فإن البوتقة إذا أحميت وذاب فيها الذهب تشكل بشكلها في الاستدارة وأخذ يتحرك فيها بجملته تلك الحركة العجيبة كأنه يهم بأن ينبسط حتى يفيض من جوانبها لما في طبعه من النعومة ثم يبدو له فيرجع إلى الانقباض لما بين أجزائه من شدة الاتصال والتلاحم ولذلك لا يقع فيه غليان على الصفة التي تكون في الماء ونحوه مما يتخلله الهواء وكما في قول الصنوبري
( كأن في غدرانها ** حواجبا ظلت تمط )
أراد ما يبدو في صفحة الماء من أشكال الماء كأنصاف دوائر صغار ثم تمتد امتدادا ينقص من انحنائها فينقلها من التقوس إلى الاستواء وذلك أشبه شيء بالحواجب إذا امتدت لأن الحاجب كما لا يخفي تقويسا ومدة ينقص من تقويسه والوجه الثاني أن تجرد هيئة الحركة عن كل وصف غيرها للجسم فهناك أيضا لا بد من اختلاط حركات كثيرة للجسم إلى جهات مختلفة له كأن يتحرك بعضه إلى اليمين وبعضه إلى الشمال وبعضه إلى العلو وبعضه إلى السفل فحركة الرحا والدولاب والسهم لا تركيب فيها لاتحاد الحركة وحركة المصحف في قول ابن المعتز
( وكأن البرق مصحف قار ** فانطباقا مرة وانفتاحا )
فيها تركيب لأنه يتحرك في الحالتين إلى جهتين في كل حالة إلى جهة
وكلما كان التفاوت في الجهات التي تتحرك أبعاض الجسم إليها أشد كان التركيب في هيئة المتحرك أكثر ومن لطيف ذلك قول الأعشى يصف السفينة في البحر وتقاذف الأمواج بها
( تقص السفين بجانبيه كما ** ينزو الرياح خلاله كرع )
قال الشيخ عبد القاهر الرياح الفصيل وقيل القرد والكرع ماء السماء شبه السفينه في انحدارها وارتفاعها بحركات الفصيل في نزوه فإنه يكون له حينئذ حركات متفاوته تصير لها أعضاؤه في جهات مختلفة ويكون هناك تسفل وتصعد على غير ترتيب وبحيث يدخل أحدهما في الآخر فلا يتبينه الطرف مرتفعا حتى يراه متسفلا وذلك أشبه شيء بحال السفينة وهيئة حركاتها حين تتدافعها الأمواج ومنه قول آخر
( حفت بسرو كالقيان ولحفت ** خضر الحرير على قوام معتدل )


( فكأنها والريح جاء يميلها ** تبغي التعانق ثم يمنعها الخجل )
فإن فيه تفصيلا دقيقا وذلك أنه راعى الحركتين حركة التهيؤ للدنو والعناق وحركة الرجوع إلى أصل الافتراق وأدى ما يكون في الثانية من سرعة زائدة تأدية لطيفة لأن حركة الشجرة المعتدلة في حال رجوعها إلى اعتدالها أسرع لا محالة من حركتها في حال خروجها من مكانها من الاعتدال وكذلك حركة من يدركه الخجل فيرتدع أسرع من حركة من يهم بالدنو لأن إزعاج الخوف أقوى أبدا من إزعاج الرجا
( ومما مذهبه السهل الممتنع من هذا الضرب قول امرىء القيس
( مكر مفر مقبل مدبر معا ** كجلمود صخر حطه السيل من عل )
يقول إن هذا الفرس لفرط ما فيه من لين الرأس وسرعة الانحراف ترى كفله في الحال التي ترى فيها لببه فهو كجلمود صخر دفعه السيل من مكان عال فإن الحجر بطبعه يطلب جهة السفل لأنها مركزه فكيف إذا أعانته قوة دفع السيل من عل فهو لسرعة تقلبه يرى أحد وجهيه حين يرى الآخر وكما يقع التركيب في هيئة الحركة قد يقع في هيئة السكون فمن لطيف ذلك قول أبي الطيب في صفة الكلب
( يقعي جلوس البدوي المصطلي ** )
إنما لطف من حيث كان لكل عضو من الكلب في إقعائه موقع خاص وللمجموع صورة خاصة مؤلفة من تلك المواقع

ومنه البيت الثاني من قوله الآخر في صفة مصلوب
( كأنه عاشق قد مد صفحته ** يوم الوداع إلى توديع مرتحل )
( أو قائم من نعاس فيه لوثته ** مواصل لتمطيه من الكسل )
والتفصيل فيه أنه شبهه بالمتمطي إذا واصل تمطيه مع التعرض لسببه وهو اللوثة والكسل فيه فنظر إلى هذه الجهات الثلاث ولو اقتصر على أنه كالمتمطي كان قريب التناول لأن هذا القدر يقع في نفس الرائي للمصلوب ابتداء لأنه من باب الجملة
وشبيه بهذا القول قول الآخر
( لم أر صفا مثل صف الزط ** تسعين منهم صلبوا في خط )
( من كل عال جذعه بالشط ** كأنه في جذعه المشتط )
( أخو نعاس جد في التمطي ** قد خامر النوم ولم يغط )
والفرق بين هذا والأول أن الأول صريح في الاستمرار على الهيئة والاستدامة لها دون بلوغ الصفة غاية ما يمكن أن يكون عليها والثاني بالعكس
قال الشيخ عبد القاهر وشبيه بالأول في الاستقصاء قول ابن الرومي في المصلوب أيضا
( كأن له في الجو حبلا يبوعه ** إذا ما انقضى حبل أتيح له حبل )
فقوله إذا ما انقضى حبل أتيح له حبل كقوله مواصل لتمطيه من الكسل في التنبيه على استدامة الشبه لأنه إذا كان لا يزال يبوع حبلا لم يقبض باعه ولم يرسل يده في ذلك بقاء شبه المصلوب على الاتصال
والمركب العقلي كالمنظر المطمع مع المخبر المؤيس الذي هو على عكس ما قدر في قوله تعالى { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه } شبه ما يعمله من لا يقرن الإيمان المعتبر بالأعمال التي يحسبها تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه ثم يخيب في العاقبة في أمله ويلقى خلاف ما قدر بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش يوم القيامة فيحسبه ماء فيأتيه فلا يجد ما رجاه ويجد زبانية الله عنده فيأخذونه فيعتلونه إلى جهنم فيسقونه الحميم والغساق فهو كما ترى منتزع من أمور مجموعة قرن بعضها إلى بعض وذلك أنه روعي من الكافر فعل مخصوص وهو حسبان الأعمال نافعة له وأن تكون للأعمال صورة مخصوصة وهي صورة الأعمال الصالحة التي وعد الله تعالى بالثواب عليها بشرط الإيمان به وبرسله عليهم السلام وأنها لا تفيدهم في العاقبة شيئا وأنهم يلقون فيها عكس ما أملوه وهو العذاب الأليم وكذا في جانب المشبه به وكحرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه كما في قوله تعالى { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا } فإنه أيضا منتزع من أمور مجموعة قرن بعضها إلى بعض وذلك أنه روعي من الحمار فعل مخصوص وهو الحمل وأن يكون المحمول شيئا مخصوصا وهي الأسفار التي هي أوعية العلوم وأن الحمار جاهل بما فيها وكذا في جانب المشبه.


نهاية الجزء الثامن

ألف / خاص ألف

يتبع..























تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow