Alef Logo
كشاف الوراقين
              

كتاب : الإيضاح في علوم البلاغة ج9 المؤلف : الخطيب القزويني

ألف

خاص ألف

2017-11-25

***
( تبنى سنابكها من فوق أرؤسهم ** سقفا كواكبه البيض المباتير )

لأن كل واحد منهما وإن راعى ا لتفصيل في التشبيه فإنه اقتصر على أن أراك لمعان الأسنة والسيوف في أثناء العجاجة بخلاف بشار فإنه لم يقتصر على ذلك بل عبر عن هيئة السيوف وقد سلت من أغمادها وهي تعلو وترسب وتجيء وتذهب وهذه الزيادة زادت التفصيل تفصيلا لأنها لا تقع في النفس إلا بالنظر إلى أكثر من جهة واحدة وذلك أن للسيوف عند احتدام الحرب واختلاف الأيدي بها في الضرب اضطرابا شديدا وحركات سريعة ثم لتلك الحركات جهات مختلفة تنقسم بين الاعوجاج والاستقامة والارتفاع والانخفاض ثم هي باختلاف هذه الأمور تتلاقى ويصدم بعضها بعضا ثم أشكالها مستطيلة فنبه على هذه الدقائق بكلمة واحدة وهي قوله تهاوى لأن الكواكب إذا تهاوت اختلفت جهات حركتها ثم كان لها في التهاوي تواقع وتداخل ثم استطالت أشكالها
وكذا قول الآخر في الآذريون
( مداهن من ذهب ** فيها بقايا غالية ) أعلى وأفضل من قوله فيه
( ككأس عقيق في قرارتها مسك ** )
لأن السواد الذي في باطن الآذريونة الموضوع بإزائه الغالية والمسك فيه أمران أحدهما أنه ليس بشامل له والثاني أنه لم يستدر في قعرها بل ارتفع منه حتى أخذ شيئا من سمكها من كل الجهات وله
في منقطعه هيئة تشبه آثار الغالية في جوانب المدهن إذا كانت بقية بقيت عن الأصابع وقوله في قراراتها مسك يبين الأمر الأول ويؤمن من دخول النقص عليه كما كان يدخل لو قال فيها مسك ولم يشترط أن يكون في القرارة وأما الثاني فلا يدل عليه كما يدل قوله بقايا عالية لأن من شأن المسك الشيء اليابس إذا حصل في شيء مستدير له قعر أن يستدير في القعر ولا يرتفع في الجوانب الارتفاع الذي في سواد الآذريونة بخلاف الغالية فإنها رطبة ثم تؤخذ بالأصابع فلا بد في البقية منها أن يرتفع عن القرارة ذلك الارتفاع ثم هي لنعومتها ترق فتكون كالصبغ الذي لا يظهر له جرم وذلك أصدق للشبه والبليغ من التشبيه ما كان من هذا النوع أعني البعيد لغرابته ولأن الشيء إذا نيل بعد الطلب له والاشتياق إليه كان نيله أحلى وموقعه من النفس ألطف وبالمسرة أولى ولهذا ضرب المثل لكل ما لطف موقعه ببرد الماء على الظمأ كما قال
( وهن ينبذن من قول يصبن به ** مواقع الماء من ذي الغلة الصادي )
لا يقال عدم الظهور ضرب من التعقيد والتعقيد مذموم لأنا نقول التعقيد كما سبق له سببان سوء ترتيب الألفاظ واختلال الانتقال من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو المراد باللفظ والمراد بعد الظهور في التشبيه ما كان سببه لطف المعنى ودقته أو ترتيب بعض المعاني على بعض كما يشعر بذلك قولنا في بادىء الرأي فإن المعاني الشريفة لا بد فيها في غالب الأمر من بناء ثان على أول ورد تال إلى سابق كما في قول البحتري

( دان على أيدي العفاة ** ) البيتين
فإنك تحتاج في تعريف معنى البيت الأول إلى معرفة وجه المجاز في كونه دانيا وشاسعا ثم تعود إلى ما يعرض البيت الثاني عليك من حال البدر ثم تقابل إحدى الصورتين بالأخرى وتنظر كيف شرط في العلو الإفراط ليشاكل قوله شاسع لأن الشسوع هو الشديد من البعد ثم قابله بما يشاكله من مراعاة التناهي في القرب فقال جد قريب فهذا ونحوه هو المراد بالحاجة إلى الفكر وهل شيء أحلى من الفكر إذا صادف نهجا قويما إلى المراد
قال الجاحظ في أثناء فصل يذكر فيه ما في الفكر من الفضيلة وأين تقع لذة البهيمة بالعلوفة ولذة السبع بلطع الدم وأكل اللحم من سرور الظفر بالأعداء ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان قرعه وقد يتصرف في القريب المبتذل بما يخرجه من الابتذال إلى الغرابة وهو على وجوه منها أن يكون كقوله
( لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا ** إلا بوجه ليس فيه حياء ) وقوله
( فردت علينا الشمس والليل راغم ** بشمس لهم من جانب الخدر تطلع )
( فوالله ما أدري أأحلام نائم ** ألمت بنا أم كان في الركب يوشع )
فإن تشبيه وجوه الحسان بالشمس مبتذل لكن كل واحد من حديث الحياء في الأول والتشكيك مع ذكر يوشع عليه السلام في الثاني أخرجه من الابتذال إلى الغرابة وشبيه بالأول قول الآخر
( إن السحاب لتستحي إذا نظرت ** إلى نداك فقاسته بما فيها )

ومنها أن يكون كقوله
( عزماته مثل النجوم ثواقبا ** لو لم يكن للثاقبات أفول ) وقوله
( مها الوحش إلا أن هاتا أوانس ** قنا الخط إلا أن تلك دوابل ) وقوله
( يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا ** لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا )
( والبدر لو لم يغب والشمس لو نطقت ** والأسد لو لم تصد والبحر لو عذبا )
وهذا يسمى التشبيه المشروط ومنها أن يكون كقوله
( في طلعة البدر شيء من محاسنها ** وللقضيب نصيب من تثنيها ) وقول ابن بابك
( ألا يا رياض الحزن من أبرق الحمى ** نسيمك مسروق ووصفك منتحل )
( حكيت أبا سعد فنشرك نشره ** ولكن له صدق الهوى ولك الملل )
وقد يخرج من الابتذال بالجمع بين عدة تشبيهات كقوله
( كأنما يبسم عن لؤلؤ ** منضد أو برد أو أقاح )
كما يزداد بذلك لطفا وغرابة كقوله
( له أيطلا ظبي وساقا نعامة ** وإرخاء سرحان وتقريب تتفل ) وأما باعتبار أداته فإما مؤكد أو مرسل والمؤكد ما حذفت أداته
كقوله تعالى { وهي تمر مر السحاب } وقوله { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا } وقول الحماسي
( هم البحور عطاء حين تسألهم ** وفي اللقاء إذا تلقى بهم بهم )
إلى غير ذلك كما سبق ومنه نحو قول الشاعر
( والريح تعبث بالغصون وقد جرى ** ذهب الأصيل على لجين الماء )
وقول الآخر يصف القمر لآخر الشهر قبل السرار
( كأنما أدهم الأظلام حين نجا ** من أشهب الصبح ألقى نعل حافره )
وقول الشريف الرضي
( أرسى النسيم بواديكم ولا برحت ** حوامل المزن في أجداثكم تضع )
( ولا يزال جنين النبت ترضعه ** على قبوركم العراضة الهمع )
والمرسل ما ذكرت أداته كقوله تعالى { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } وقوله عز وجل { عرضها كعرض السماء والأرض } وقول امرىء القيس
( وتعطو برخص غير شئن كأنه ** أساريع ظبي أو مساويك إسحل )
وقول البحتري
( وإذا الأسنة خالطتها خلتها ** فيها خيال كواكب في الماء )
إلى غير ذلك كما تقدم
وأما باعتبار الغرض فإما مقبول أو مردود المقبول الوافي بإفادة الغرض كأن يكون المشبه به أعرف شيء بوجه الشبه إذا كان الغرض بيان حال المشبه من جهة وجه الشبه أو بيان المقدار ثم الطرفان في الثاني إن تساويا في وجه الشبه فالتشبيه كامل في القبول وإلا فكلما كان المشبه به أسلم من الزيادة والنقصان كان أقرب إلى الكمال أو كأن يكون المشبه به أتم شيء في وجه الشبه إذا قصد إلحاق الناقص بالكامل أن كأن يكون المشبه به مسلم الحكم معروفه عند المخاطب في وجه الشبه إذا كان الغرض بيان إمكان الوجود والمردود بخلاف ذلك أي القاصر عن إفادة الغرض
خاتمة
قد سبق في أركان التشبيه أربعة المشبه والمشبه به وأداة التشبيه ووجهه فالحاصل من مراتب التشبيه في القوة والضعف في المبالغة باعتبار ذكر أركانه كلها أو بعضها ثمان
إحداها ذكر الأربعة كقولك زيد كالأسد في الشجاعة ولا قوة لهذه المرتبة
وثانيتها ترك المشبه كقولك كالأسد في الشجاعة أي زيد وهي كالأولى في عدم القوة
وثالثتها ترك كلمة التشبيه كقولك زيد أسد في الشجاعة وفيها نوع قوة
ورابعتها ترك المشبه وكلمة التشبيه كقولك أسد في الشجاعة أي زيد وهي كالثالثة في القوة
وخامستها ترك وجه الشبه كقولك زيد كالأسد وفيها نوع قوة لعموم وجه الشبه من حيث الظاهر
وسادستها ترك المشبه ووجه التشبيه كقولك كالأسد أي زيد وهي كالخامسة
وسابعتها ترك كلمة التشبيه ووجه كقولك زيد أسد وهي أقوى الجميع
وثامنتها إفراد المشبه به بالذكر كقولك أسد أي زيد وهي كالسابعة
واعلم أن الشبه قد ينتزع من نفس التضاد لاشتراك الضدين فيه ثم ينزل منزلة التناسب بوساطة تمليح أو تهكم فيقال للجبان ما أشبهه بالأسد وللبخيل هو حاتم
القول في الحقيقة والمجاز
وقد يفيدان باللغويين الحقيقة الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح به التخاطب فقولنا المستعملة احتراز عما لم يستعمل فإن الكلمة قبل الاستعمال لا تسمى حقيقة وقولنا فيما وضعت له احتراز عن شيئين
أحدهما ما استعمل في غير ما وضعت له غلطا كما إذا أردت أن تقول لصاحبك خذ هذا الكتاب مشيرا إلى كتاب بين يديك فغلطت فقلت خذ هذا الفرس
والثاني أحد قسمي المجاز وهو ما استعمل فيما لم يكن موضوعا له لا في اصطلاح به التخاطب ولا في غيره كلفظة الأسد في الرجل الشجاع وقولنا في اصطلاح به التخاطب احتراز عن القسم الآخر من المجاز وهو ما استعمل فيما وضع له لا في اصطلاح به التخاطب كلفظ الصلاة يستعمله المخاطب يعرف الشرع في الدعاء مجازا والوضع من تعيين اللفظ للدلالة على معنى بنفسه فقولنا بنفسه احتراز من تعيين اللفظ للدلالة على معنى بقرينة أعني المجاز فإن ذلك التعيين لا يسمى وضعا ودخل المشترك في
الحد لأن عدم دلالته على أحد معنييه بلا قرينة لعارض أعني الاشتراك لا ينافي تعيينه للدلالة عليه بنفسه وذهب السكاكي إلى أن المشترك كالقرء معناه الحقيقي وهو ما لا يتجاوز معنييه كالطهر والحيض غير مجموع بينهما قال فهذا ما يدل عليه بنفسه ما دام منتسبا إلى الوضعين أما إذا خصصته بواحد إما صريحا مثل أن تقول القرء بمعنى الطهر وإما استلزاما مثل أن تقول القرء لا بمعنى الحيض فإنه حينئذ ينتصب دليلا دالا بنفسه على الطهر بالتعيين كما كان الواضع عينه بإزائه بنفسه ثم قال في موضع آخر وأما ما يظن بالمشترك من الاحتياج إلى القرينة في دلالته على ما هو معناه فقد عرفت أن منشأ هذا الظن عدم تحصيل معنى المشترك الدائر بين الوضعين وفيما ذكره نظر لأنا لا نسلم أن معناه الحقيقي ذلك وما الدليل على أنه عند الإطلاق يدل عليه
ثم قوله إذا قيل القرء بمعنى الطهر أو لا بمعنى الحيض فهو دال بنفسه على الطهر بالتعيين سهو ظاهر فإن القرينة كما تكون معنوية تكون لفظية وكل من قوله بمعنى الطهر وقوله لا بمعنى الحيض قرينة وقيل دلالة اللفظ على معناه لذاته وهو ظاهر الفساد لاقتضائه أن يمنع نقله إلى المجاز وجعله عاما ووضعه للمضادين كالجون للأسود والأبيض فإن ما بالذات لا يزول بالغير ولاختلاف اللغات باختلاف الأمم وتأوله السكاكي رحمه الله على أنه تنبيه على ما عليه أئمة علمي الاشتقاق والتصريف من أن للحروف في أنفسها خواص بها تختلف كالجهر والهمس والشدة والرخاوة والتوسط بينها وغير ذلك مستدعية أن العالم بها إذا أخذ في تعيين شيء منها لمعنى لا يهمل التناسب بينهما قضاء لحق الحكمة كالفصم بالفاء الذي هو حرف رخو لكسر الشيء من غير أن يبين والقصم بالقاف الذي هو حرف شديد لكسر الشيء حتى يبين وأن التركيبات كالفعلان والفعلي بالتحريك كالنزوان والحيدي وفعل مثل شرف وغير ذلك خواص أيضا فيلزم فيها ما يلزم في الحروف وفي ذلك نوع تأثير لأنفس الكلم في اختصاصها بالمعاني
والمجاز مفرد ومركب أما المفرد فهو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في الاصطلاح به التخاطب على وجه يصح مع قرينة عدم إرادته فقولنا المستعملة احتراز عما لا يستعمل لأن الكلمة قبل الاستعمال لا تسمى مجازا كما لا تسمى حقيقة وقولنا في اصطلاح به التخاطب ليدخل فيه نحو لفظ الصلاة إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء مجازا فإنه وإن كان مستعملا فيما وضع له في الجملة فليس بمستعمل فيما وضع له في الاصطلاح الذي به وقع التخاطب وقولنا على وجه يصح احتراز عن الغلط كما سبق وقولنا مع قرينة عدم إرادته احتراز عن الكناية كما تقدم والحقيقة لغوية وشرعية وعرفية خاصة أو عامة لأن واضعها إن كان واضع اللغة فلغوية وإن كان الشارع فشرعية وإلا فعرفية والعرفية إن تعين صاحبها نسبت إليه كقولنا كلامية ونحوية وإلا بقيت مطلقة مثال اللغوية لفظ أسد إذا استعمله المخاطب بعرف اللغة في السبع المخصوص ومثال الشرعية لفظ صلاة إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في العبادة المخصوصة ومثال العرفية الخاصة لفظ فعل إذا استعمله المخاطب بعرف النحو في الكلمة المخصوصة ومثال العرفية العامة لفظ دابة إذا استعمله المخاطب بالعرف العام في ذي الأربع وكذلك المجاز المفرد لغوي وشرعي وعرفي مثال اللغوي لفظ أسد إذا استعمله المخاطب بعرف اللغة في الرجل الشجاع ومثال الشرعي لفظ صلاة إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء ومثال العرفي الخاص لفظ فعل إذا استعمله المخاطب بعرف النحو في الحدث ومثال العرفي العام لفظ دابة إذا استعمله المخاطب بالعرفي العام في الإنسان
والحقيقة إما فعيل بمعنى مفعول من قولك حققت الشيء أحقه إذا أثبته أو فعيل بمعنى فاعل من قولك حق الشيء يحق إذا ثبت أي المثبتة أو الثابتة في موضعها الأصلي فأما التاء فقال صاحب المفتاح هي عندي للتأنيث في الوجهين لتقدير لفظ الحقيقة قبل التسمية صفة مؤنث غير مجرأة على الموصوف وهو الكلمة وفيه نظر وقيل هي لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية الصرفة كما قيل في أكيلة ونطيحة إن التاء فيهما لنقلهما من الوصفية إلى الاسمية فلذلك لا يوصف بهما فلا يقال شاة أكيلة أو نطيحة
والمجاز قيل مفعل من جاز المكان يجوزه إذا تعداه أي تعدت موضعها الأصلي وفيه نظر والظاهر أنه من قولهم جعلت كذا مجازا إلى حاجتي أي طريقا له على أن معنى جاز المكان سلكه على ما فسره الجوهري وغيره فإن المجاز طريق إلى تصور معناه واعتبار التناسب في التسمية يغاير اعتبار المعنى في الوصف كتسمية إنسان له حمرة بأحمر ووصفه بأحمر فإن الأول لترجيح الاسم على غيره حال وضعه له والثاني لصحة إطلاقه فلا يصح نقض الأول بوجود المعنى
في غير المسمى كما يلهج به بعض الضعفاء
والمجاز ضربان مرسل واستعارة لأن العلاقة المصححة إن كانت تشبيه معناه بما هو موضوع له فهو استعارة وإلا فهو مرسل وكثيرا ما تطلق الاستعارة على استعمال اسم المشبه به في المشبه فيسمى المشبه به مستعارا منه والمشبه مستعارا له واللفظ مستعارا وعلى الأول لا يشتق منه لكونه اسما للفظ لا للحدث
الضرب الأول المرسل وهو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه وما وضع له ملابسة غير التشبيه كاليد إذا استعملت في النعمة لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة ومنها تصل إلى المقصود بها ويشترط أن يكون في الكلام إشارة إلى المولى لها فلا يقال اتسعت اليد في البلد أو اقتنيت يدا كما يقال اتسعت النعمة في البلد أو اقتنيت نعمة وإنما يقال جلت يده عندي وكثرت أياديه لدي ونحو ذلك ونظير هذا قولهم في صفة راعي الإبل إن له عليها أصبعا أرادوا أن يقولوا له عليها أثر حذق فدلوا عليه بالإصبع لأنه ما من حذق في عمل يد إلا وهو مستفاد من حسن تصريف الأصابع واللطف في رفعها ووضعها كما في الخط والنقش وعلى ذلك قيل في تفسير قوله تعالى { بلى قادرين على أن نسوي بنانه } أي نجعلها كخف البعير فلا يتمكن من الأعمال اللطيفة فأرادوا بالإصبع الأثر الحسن حيث يقصد الإشارة إلى حذق في الصنعة لا مطلقا حتى يقال رأيت أصابع الدار وله أصبع حسنة وأصبع قبيحة على معنى له أثر حسن وأثر قبيح ونحو ذلك وينظر إلى هذا قولهم ضربته سوطا لأنهم عبروا
عن الضربة الواقعة بالسوط باسم السوط فجعلوا أثر السوط سوطا وتفسيرهم له بقولهم المعنى ضربته ضربة بالسوط بيان لما كان الكلام عليه في أصله ونظير قلولنا له على يد قول النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه ( أسرعكن لحوقا ويروى لحاقا بي أطولكن يدا ) وقوله أطولكن نظير ترشيح الاستعارة ولا بأس أن يسمى ترشيح المجاز والمعنى بسط اليد بالعطاء وقيل قوله أطولكن من الطول بمعنى الفضل يقال لفلان على فلان طول أي فضل فاليد على هذين الوجهين بمعنى النعمة ويحتمل أن يريد أطولكن يدا بالعطاء أي أمدكن فحذف قوله بالعطاء للعلم به وكاليد أيضا إذا استعملت في القدرة لأن أكثر ما يظهر سلطانها في اليد وبها يكون البطش والضرب والقطع والأخذ والدفع والوضع والرفع وغير ذلك من الأفعال التي تنبىء عن وجوه القدرة ومكانها وأما اليد في قول النبي صلى الله عليه وسلم ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم )
فهو استعارة والمعنى أن مثلهم مع كثرتهم في وجوب الاتفاق بينهم مثل اليد الواحدة فكما لا يتصور أن تخذل بعض أجزاء اليد بعضا وأن تختلف فيها الجهة في التصرف كذلك سبيل المؤمنين في تعاضدهم على المشركين لأن كلمة التوحيد جامعة لهم وكالرواية للمزادة مع كونها للبعير الحامل لها لحمله إياها وكالحفض في البعير مع كونه لمتاع البيت لحمله إياه وكالسماء في الغيث كقوله أصابتنا السماء لكونه من جهة المظلة وكالإكاف في قول الشاعر
( يأكلن كل ليلة إكافا ** )
أي علفا بثمن الإكاف وهذا الضرب من المجاز يقع على وجوه كثيرة
غير ما ذكرنا منها تسمية الشيء باسم جزئه كالعين في الربيئة لكون الجارحة المخصوصة هي المقصود في كون الرجل ربيئة إذا ما عداها لا يغني شيئا مع فقدها فصارت كأنها الشخص كله وعليه قوله تعالى { قم الليل إلا قليلا } أي صل ونحوه لا تقم فيد أبدا أي لا تصل وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم ما ذنبه ) أي من صلى
ومنها عكس ذلك نحو { يجعلون أصابعهم في آذانهم } أي أناملهم وعليه قولهم قطعت السارق وإنما قطعت يده
ومنها تسمية المسبب باسم السبب كقولهم رعينا الغيث أي النبات الذي سببه الغيث وعليه قوله عز وجل { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } سمى جزاء الاعتداء لأنه مسبب عن الاعتداء وقوله تعالى { ونبلو أخباركم } تجوز بالبلاء عن العرفان لأنه مسبب عنه كأنه قيل ونعرف أخباركم
وعليه قول عمرو بن كلثوم
( ألا لا يجهلن أحد علينا ** فنجهل فوق جهل الجاهلينا )
الجهل الأول حقيقة والثاني مجاز عبر به عن مكافأة الجهل وكذا قوله تعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها } تجوز بلفظ
السيئة عن الاقتصاص لأنه مسبب عنها قيل وإن عبر بها عما ساء أي أحزن لم يكن مجازا لأن الاقتصاص محزن في الحقيقة كالجناية وكذا قوله تعالى { ومكروا ومكر الله } تجوز بلفظ المكر عن عقوبته لأنه سببها قيل ويحتمل أن يكون مكر الله حقيقة لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم وهذا محقق من الله تعالى باستدراجه إياهم بنعمه مع ما أعد لهم من نقمة
ومنها تسمية السبب باسم المسبب كقولهم أمطرت السماء نباتا
وعليه قولهم كما تدين تدان أي كما تفعل تجازى
وكذا لفظ الأسنمة في قوله يصف غيثا
( أقبل في المستن من ربابه ** أسنمة الآبال في سحابه )
وكذا تفسير إنزال أزواج الأنعام في قوله تعالى { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } بإنزال الماء على وجه لأنها لا تعيش إلا بالنبات والنبات لا يقوم إلا بالماء وقد أنزل الماء فكأنه أنزلها ويؤيده ما ورد أن كل ما في الأرض من السماء ينزله الله تعالى إلى الصخرة ثم يقسمه قيل وهذا معنى قوله تعالى { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض } وقيل معناه وقضى لكم لأن قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول من السماء حيث كتب في اللوح كل كائن يكون وقيل خلقها في الجنة ثم أنزلها وكذا قوله
تعالى { وينزل لكم من السماء رزقا } أي مطرا هو سبب الرزق وقوله تعالى { إنما يأكلون في بطونهم نارا } وقولهم فلان أكل الدم أي الدية التي هي مسببة عن الدم قال
( أكلت دما إن لم أرعك بضرة ** بعيدة مهوى القرط طيبة النشر )
وقوله تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } أي أردت القراءة بقرينة الفاء مع استفاضة السنة بتقديم الاستعاذة وقوله تعالى { ونادى نوح ربه } أي أراد بقرينة فقال رب وقوله تعالى { وكم من قرية أهلكناها } أي أردنا إهلاكها بقرينة فجاءها بأسنا وكذا قوله تعالى { ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها } بقرينة { أفهم يؤمنون } وفيه دلالة واضحة على الوعيد بالإهلاك إذ لا يقع الإنكار في أفهم يؤمنون في المجاز إلا بتقدير ونحن على أن نهلكهم
ومنها تسمية الشيء باسم ما كان عليه كقوله عز وجل { وآتوا اليتامى أموالهم } أي الذين كانوا يتامى إذ لا يتم بعد البلوغ
وقوله { إنه من يأت ربه مجرما } سماه مجرما باعتبار ما كان عليه في الدنيا من الإجرام
ومنها تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه كقوله تعالى { إني أراني أعصر خمرا }
ومنها تسمية الحال باسم محله كقوله تعالى { فليدع ناديه } أي أهل ناديه ومنها عكس ذلك نحو { وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله } أي في الجنة
ومنها تسمية الشيء باسم آلته كقوله تعالى { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } أي بلغة قومه وقوله تعالى { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } أي ذكرا جميلا وثناء حسنا وكذا غير ذلك مما بين معنى اللفظ وما هو موضوع له تعلق سوى التشبيه
قال صاحب المفتاح وللتعلق بين الصارف عن فعل الشيء والداعي إلى تركه يحتمل عندي أن يكون المراد بمنعك في قوله تعالى { ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك } دعاك ولا غير صلة قرينة المجاز وكذا { ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن } قال الراغب رحمه الله قال بعض المفسرين إن معنى ما منعك ما حماك وجعلك في منعة مني في ترك السجود أي في معاقبة تركه وقد استبعد ذلك بعضهم بأن قال لو كان كذا لم يكن يجيب بأن يقول أنا خير منه فإن ذلك ليس بجواب السؤال على ذلك الوجه وإنما هو جواب من قيل له { ما منعك أن تسجد } ويمكن أن يقال في جواب ذلك إن إبليس لما كان ألزم ما لم يجد سبيلا إلى الجواب عنه إذا لم يكن له من كالىء يحرسه ويحميه عدل عما كان جوابا كما يفعل المأخوذ بكظمه في المناظرة انتهى كلامه
وقسم الشيخ صاحب المفتاح المجاز المرسل إلى خال عن الفائدة ومفيد وجعل الخالي عن الفائدة ما استعمل في أعم مما هو موضوع له كالمرسن في قول العجاج
( وفاحما ومرسنا مسرجا ** )
فإنه مستعمل في الأنف لا بقيد كونه لمرسن مع كونه موضوعا له بهذا القيد لا مطلقا وكالمشفر في نحو قولنا فلان غليظ المشافر إذا قامت قرينة على أن المراد هو الشفة لا غير وقال سمي هذا الضرب غير مفيد لقيامه مقام أحد المترادفين من نحو ليث وأسد وحبس ومنع عند المصير إلى المراد منه وأراد بالمفيد ما عدا الخالي عن الفائدة والاستعارة كما مر
والشيخ عبد القاهر رحمه الله جعل الخالي عن الفائدة ما استعمل في شيء بقيد مع كونه موضوعا لذلك الشيء بقيد آخر من غير قصد التشبيه ومثله ببعض ما مثله الشيخ صاحب المفتاح ونحوه مصرحا بأن الشفة والأنف موضوعان للعضوين المخصوصين من الإنسان فإن قصد التشبيه صار اللفظ استعارة كقولهم في مواضع الذم غليظ المشفر فإنه بمنزلة أن يقال كأن شفته في الغلظ مشفر البعير وعليه قول الفرزدق
( فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ** ولكن زنجي غليظ المشافر )
أي ولكنك زنجي كأنه جمل لا يهتدي لشرفي وكذا قول الحطيئة يخاطب الزبرقان
( قروا جارك العيمان لما جفوته ** وقلص عن برد الشراب مشافره )
فإنه وإن عنى نفسه بالجار جاز أن يقصد إلى وصف نفسه بنوع من سوء الحال ليزيد في التهكم بالزبرقان ويؤكد ما قصده من رميه بإضاعة الضيف وإسلامه للضر والبؤس وكذا قول الآخر
( سأمنعها أو سوف أجعل أمرها ** إلى ملك أظلافه لم تشقق )
الضرب الثاني من المجاز الاستعارة وهي ما كانت علاقته تشبيه معناه بما وضع له وقد تقيد بالتحقيقية لتحقق معناها حسا أو عقلا أي التي تتناول أمرا معلوما يمكن أن ينص عليه ويشار إليه إشارة حسية أو عقلية فيقال إن اللفظ نقل من مسماه الأصلي فجعل اسما له على سبيل الإعارة للمبالغة في التشبيه أما الحسي فكقولك رأيت أسدا وأنت تريد رجلا شجاعا وعليه قول زهير
( لدى أسد شاكي السلاح مقذف ** ) أي لدى رجل شجاع


نهاية الجزء العاشر
الف / خاص ألف
يتبع..

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow