Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

بلا فحوصات /إدويج دانتيكات

خاص ألف

2018-05-26

استغرق أرنولد ست ثوان ونصف ليسقط من ارتفاع خمسائة قدم. وخلال تلك الفترة، كان خيال ابنه، باريس، يلمع أمام عينيه: باريس بقميص بذة المدرسة الأحمر والخاكي وهي ثيابه يوم تخرجه. في ذلك الصباح، كانت دارلين أم باريس،تتجول في الشقة وتبدل ثيابها،كما لو أنها الموعودة بالتخرج. أغلق عينيه بإحكام والريح الحارة التي يرتطم بها تضرب وجهه، وشاهد ابنه في حفل المدرسة. وأيضا رأى نفسه، يقف بجوار دارلين التي استقر رأيها أخيرا على ثوب حريري فضفاض ملون بالأصفر. أما هو فقد ارتدى بذة سوداء يرتديها في كل المناسبات، من الأعراس وحتى الجنازات. وأحد أسباب ندرة ثيابه هو شقته المؤلفة من غرفتي نوم مزدحمتين بالأشياء. أما السبب الثاني، وهذا على الأقل بالنسبة له، شعوره بعدم الرغبة بالقيود. أن تكون على علاقة بعدد محدود من الناس أمر مقبول – مثلا الارتباط بباريس ودارلين، فهما جزء منه، مثل الدماء التي تجري في عروقه – ولكنه لم يحب أن يكبّل يديه بأشياء لا لزوم لها كالثياب والأحذية التي تجمع الغبار في الخزانات الممتلئة وكالسيارات الفاخرة التي تتطلب نفقات ثقيلة شهرية. كلا، من الأفضل أن تكون حرا.. حرا مثل هذا السقوط، والذي لم يخطط له ولم يقع اختياره عليه. فهذه السقطة نجمت عن انزلاق قدمه اليسرى من السقالة وخروج جسمه من حزام الأمان الذي تهدل أو انقطع، كما لو أن يدا حانقة جرت الحزام منه، وألقته على طرفه، ودفعته في الفضاء. ثم إن جسمه وهو يحاول استعادة بعض التوازن، صحح زاوية سقوطه، والآن يتجه برأسه مباشرة نحو الأرض. ولكنها لم تكن إسمنتية وإنما نفايات وتراب، بعد اقتلاع الأعشاب والشجيرات والورود لتمهيد الأرض وتهيئتها لتشييد فندق من ثمانية وأربعين طابقا.

كان لا يزال يسقط، ومع كل ثانية تمر تزداد سرعته. وكانت الرياح تزيد من مقاومتها له، وكل هبة هواء مثل ستار أزرق صلب عليه أن يهشمه، وكان كما لو أن الأرض ترتفع وتستقبله. وانحرف جسمه لليسار وتحته مباشرة مساحة إسمنتية – خلاطة مربوطة بشاحنة من النوع الذي يبدو بنظره دائما أشبه بسفينة فضاء.

وكان ينظر نحو شاحنة الإسمنت قبل عدة ساعات، وهو يجلس على السقالة ويتناول إفطاره. كانت دارلين تفضل أن يأكل في البيت معها ومع باريس، ولكنه كان مسرعا دائما ولا وقت لديه، باستثناء أيام السبت والأحد النادرة وإذا لم يكن لديهما عمل. وفي أيام الأسبوع، يقودها إلى مطعم للهايتيين حيث تعمل طاهية، ثم يتابع مع باريس إلى المدرسة. ولحظة وصوله لموقع البناء يكون لديه دقائق قليلة ليشتري من شاحنة الأخوة لوبيز معجنات الجوافا وكوبا من القهوة.

وكان الأخوة لوبيز مستثمرين جيدين. قبل خمس سنوات فقط، وصلوا من كوجيمار على متن زحافة مصنعة من سيارة شيفي موديل الخمسينات، وانظر أين وصلوا الآن. وذكرته حكاية زحافة الأخوة لوبيز بحكايته. فقد سمعها منهم وهم يخبرون بها كوبيا آخر، حين كان بانتظار إفطاره. ولكن حكايته مختلفة، نعم مختلفة، عما جرى لهم.

كانت دارلين الشخص الوحيد الجالس على الشاطئ في ضوء بواكير الفجر من صباح اليوم الذي ألقى نفسه فيه في وسط البحر مع تسعة رجال آخرين وأربع نساء. يومها أخبرهم القبطان أنه بوسعهم أن يسبحوا عند الضفة. كان البحر هادئا نسبيا في الصباح. وكلما اقترب أرنولد من الشاطئ، كان ينتبه للأبنية البرجية التي خلفها. لكن غرقت النساء الأربعة جميعا، لأنه لم يكن بمقدورهن السباحة. وجرفتهن في النهاية الموجة باتجاه اليابسة. كما حصل معه هو، لكنه كان حيا. وحافظ الرجال الذين كانوا على متن القارب برفقته على حياتهم، أيضا. واستلقوا على الشاطئ وحاولوا إقناع أنفسهم أنهم وصلوا إلى المرسى بغرس كعوب وأصابع أقدامهم في الرمال. أما هو فقد اكتفى، من ناحيته، بالجلوس والنظر إليها. ولم يرغب أن يقترب منها ويخيفها. وكانت رائحته كريهة، وكان متأكدا أن اللحية الخفيفة التي نمت على وجهه في الرحلة، جعلته يبدو خطيرا. نظرت إلى الخلف نحوه. وحين سمع الصافرات بدأ يتوسل.

قال: Ede m ، ساعديني. لم يكن يريد أن يقع في الأسر أو أن يضطر للعودة. وكان يرغب بالمكوث. كان بحاجة لأن يبقى. ويأمل أن يبقى معها. ربما هي شخص مجهول – أيا كان، وتصادف وجودها على الشاطئ في ذلك الصباح ويأمل أن تساعده. ولكن أسعده أنها موجودة. على نحو من الأنحاء، كما لو أنهما في موعد غرامي، خطط له إنسان لا يعرفان عنه شيئا.

انطلقت الصافرات وهنا نهضت واقتربت منه وقبضت على ذراعه، ولذلك إذا وصلت الشرطة وهما يبتعدان معا سيكونان عرضة للاعتقال أو التجاهل سوية. ومهما حصل لأحدهما بالتأكيد سيحصل للثاني – لأنه بالنسبة لكل من يراهما سيبدوان زوجا، ولكن أحدهما مبلول بالماء.

وفيما هما يقتربان من باحة السيارات، تاركين بقية الرجال خلفهما في حالة من الذهول والدوار، سمعوا صراخ بعضهم يستنجد بها، غير أنها لم تنظر للخلف. وتبع خطواتها ولم يلتفت إلى الخلف أيضا، حتى لو أن أحدهم ناداه باسمه.

وصاح أحدهم:"إلى أين تذهب، كأن زوجتك بانتظارك؟". وقال آخر:"رجاء لا تهجرنا هكذا".
وحاول كلاهما أن يتبعاه، ولكنهما سرعان ما استسلما. كانت دارين مسرعة بمسيرها، ولحق التعب بالرجلين فورا. وهو أيضا لم يكن بمقدوره اللحاق بها لو أنها لم تكن تسانده. مالت عليه وقالت بهدوء:"هيا.. لنواصل". فجمع أنفاسه وأسرع. كانت سيارتها البيضاء الصغيرة مغطاة بالخدوش وآثار الارتطام. ونسي أنه مبلول إلى أن قدّمت له منشفة كانت تلتف بها على الشاطئ. نظفها من الرمل قبل أن يمدها على مقعد الركاب الأمامي.

قالت:"إذا تريثت، سيقودونك إلى كرومي".

و لم تكن عنده فكرة ماذا وأين هي كرومي.

قالت:"إنه سجن لأمثالنا".

أمثالنا؟. ماذا تعني بأمثالنا؟. هل هذه طريقتها لتخبره أنها جاءت أيضا بالقارب، وهل تعرضت للسجن في هذه البلاد؟. كرومي؟.

أراد أن يسألها عددا من الأسئلة، وأراد أن يفهم لماذا اختارته من بين الجميع. ولماذا أنقذته دون غيره؟. على الأقل يمكن للسيارة أن تتسع لثلاثة آخرين في الخلف. ولكن كان العطش يتغلب على الفضول. كان شديد العطش كما هو الآن وهو يسقط.

لقد تعلم، وهو في عرض البحر، أن الوقت يمكن أن يتمادى إلى ما لانهاية. والريح والهواء بمقدورهما امتصاصك حتى الجفاف، ويجبرانك على رؤية ما هو غير موجود.

فقد نفدت المياه النظيفة في منتصف الرحلة من بورت دي باكس، الشاطئ الشمالي من هاييتي، وكان عليهم أن يشربوا ماء البحر أو بولهم. كان المفترض أن تنتهي الرحلة على الأكثر في يومين ولكنها استغرقت في الواقع أربعة، فالقبطان واصل تبديل مساره، ومرة بدل سرعة القارب، ليتجنب الوقوع في فخ حرس السواحل الأمريكي.

وقبل أن يطلب الماء، مدت يدها للمقعد الخلفي، وقدمت له زجاجة من دستة زجاجات. ولو لم تصل الشرطة بالهيلوكوبترات والسفن وسيارات الإسعاف والكلاب، لربما حمل بعض هذا الماء للرجال الذين تركهم وراءه على الشاطئ.

وكلاب الشرطة التي سمع نباحها، كما أخبرته، هي كلاب مطاردة. وأطلق سراحها على الشاطئ لتبحث عن الجثث التي تختفي عن الأنظار، لأنه برأي كل من نجا ووصل الشاطئ هناك خمسة آخرون ماتوا. لماذا لم يغطس في البحر لإنقاذ الآخرين؟. أو على الأقل ليجر بعض الأموات إلى اليابسة؟. كان جوعه وعطشه، والوهن في ساقيه، جعله يخاف من الغرق إذا عاد مجددا، والخوف من الوقوع في الأسر دفعه للإحساس بالجنون والأنانية.

شرب الماء بسرعة وكاد أن يختنق. فتناولت منه الزجاجة الفارغة وقدمت له غيرها. وشربها أيضا. سألته:"إلى أين أقودك؟".

وكانت هذه خدمة، تقدمها له، كما لاحظ. كانت سائقا متطوعا لإنسان من ركاب القوارب. ولاحقا، أخبرته إنها فعلت ذلك مع سبعة عشر شخصا غيره، منهم نساء وأطفال.

وتضاعف شعوره بالأسف على من تركهم وراءه، رجال ونساء لا يعرفهم إلا بأضيق الحدود وحطوا رحالهم على شاطئ بورت دي باكس، ولكنه كان يعرفهم جيدا خلال الرحلة، فقد تبادل النظرات معهم ولاحظ كيف تحترق جلودهم بالشمس وتبرز عظامهم في الليل. هؤلاء الناجون الآخرون سيواجهون حزنهم وشرطة الهجرة. ومعظمهم إن لم يكن كلهم، سيعادون لبلادهم. لكنها أنقذته من هذا المصير.

سألته:"Ou grangou جائع؟". كان الماء الذي حصل عليه منها يذيب مياه البحر المالحة في معدته. قبل أن يتمكن من الجواب، توقفت عند مطعم للأطعمة السريعة وطلبت له وجبتين. ومع أنه أول وجبة يتناولها في هذا البلد، لم يشعر بنفس السعادة في أي إفطار لاحق. تناول ستة منها، ثم تقيأ في حمام المطعم ما تناوله. وبعد أن نظف نفسه، جلس في سيارتها في الباحة، في محاولة منه ليرى كيف سيتصرف لاحقا.

قالت له:"لم أصحب أحدا معي إلى البيت".

وأمل أن هذا يعني أنها ستستثنيه، والآن بعد أن تناول طعامه وروى عطشه، وجد الفرصة ليتأملها بحذر ووجد أنها طويلة القامة ومتناسقة، ومنظرها يسعد الإنسان مثل وجهها البشوش والسار.

قالت:" يوجد ملجأ..." وبدأت تقود قبل إتمام عبارتها.

أخذته إلى ملجأ في كنيسة وقابل فيه أشخاصا مثله، أشخاصا جاؤوا بالقوارب من هاييتي والبهاما وكوبا. وتعلم الإسبانية من دومينيكي عمل لديه بصفة صبي خادم عند الحدود الشمالية من هاييتي، وكسب بعض العبارات والأمثال من كوبيين في الملجأ ساعداه في العثور على عمل في موقع البناء. وبعد أيام من الحياة في الملجأ، لعب الدومينو مع أصدقائه الجدد، وشاهد برامج التلفزيون الموضوع عند جدار في غرفة الاستجمام، وهنا شاهد أنباء قارب جنح في المياه قرب تركيا والقوقاز. وتم العثور على إثني عشر جثمانا: سبعة رجال، وخمس نساء. ولا يزال عشر أشخاص مفقودين. وتوقع أن لا يراها مجددا، ولكنها مرت على الملجأ سريعا بعد أن وجد العمل. وخرجا إلى باحة فيها مجموعة أراجيج صدئة. ونبهته الأرجوحات أن الأطفال لجأوا لهذا المكان. ولكن لحسن الحظ لا يوجد منهم أحد هنا الآن. وقبالة الأرجوحات ملعب لكرة السلة، يحمل لوحة مجموعة من البالغين والأولاد الذين يلعبون في غابة استوائية ممتلئة بنخيل جوز الهند. وقفا معا قرابة الأرجوحات.

قالت له:"لدي ابن. ومات أبوه في البحر".

ولدقيقة من الوقت، اعتقد أنها هي ووالد ابنها انفصلا قبل موت الرجل في البحر. ولكن ما أن سالت الدموع من عينيها، تأكد أنها كانت على شاطئ البحر تتذكره. وتتخيل كيف غرق في البحر بنفس الطريقة التي غرق بها من جاء مع أرنولد.

سألها:"كيف نجوت؟".

قالت:"كان علي سحب ابننا من المياه".

سألها:"وما هو اسم ابنك؟".

قالت:"باريس". وقبل أن يعلق أضافت:"كان أبوه يحلم أن يذهب إلى باريس ذات يوم".

ثم تخيل والد الصبي، شابا مثله، لم يهرب من البؤس فقط ولكنه استجاب لنداء الصافرات في مدينة بعيدة يشعر بالانتماء لها. كان أرنولد يتخيل الحياة في ميامي منذ صباه. ومعظم من يعرف في بورت دي باكس ذهبوا إلى البهاما بالقارب، والقليل منهم تابع إلى ميامي. كان يشعر بالحنين القوي لميامي مثلما شعر والد باريس بالعاطفة الملحة لزيارة عاصمة فرنسا. وما لم يتوقع أن يشاهده في ميامي، هو الحكايات اليائسة من هذا النوع. ولم يفهم أنه يوجد عائلات متشردة تنام تحت جسر على مبعدة عدة أقدام من فندق للأثرياء ساعد على بنائه. والأولاد المساكين الذين سمع بموتهم من الأخبار كانوا صدمة له، ومن قضى بإطلاق الشرطة للنار العشوائي أو سواهم، في المدارس أو في البيوت أو وهم يمشون في الشارع أو يلهون في الحدائق العامة. وبدأ الرذاذ يهطل في باحة الأرجوحات. واعتقد أن دارلين ستسرع إلى الداخل واستعد ليتبعها، ولكنها لم تتحرك.

سألها:"أين ابنك الآن؟".

"لدي صديقة عمل ولديها صبي مثله وأحيانا ترعاه. نتبادل رعاية ابنينا".

ماذا تعني بعبارة "صبي مثله"، ابن بلا أب، ولد اختطف البحر أباه؟ أم أن ابنها يعاني من نوع من أنواع الوهن؟.

سألها:"هل هو مريض؟".

قالت:"كان أول من سقط في الماء. وربما تركت المياه ضررا برأسه".

كانت تكشف أمامه كل مشاكل حياتها ليراها. وكانت تضعه أمام خيارين: أن يهرب من المطر أو يستمر معها. ضغطت جسمها في أرجوحة وحاولت أن تدفعها للحركة. واستمع للسلاسل المعدنية وهي تصلصل فوقه. وتأرجحت للأمام والخلف لعدة دقائق، ثم ردمت حذاءها في التراب لتتوقف. وحينما ترسخت قدمها، على الأرض، مال نحوها وطبع قبلة. عادا إلى الداخل، وطلب منها أن تنتظر في الصالة المعتمة والضيقة، وتابع إلى الغرفة التي يتقاسمها مع ثلاثة آخرين، وصنع لابنها طائرة ورقية. كان هذا هو النوع الوحيد من الألعاب الذي استمتع به حين كان صغيرا. وكلما كان يجد قطعة ورق في النفايات أو على الأرض، يصنع لنفسه طائرة ورقية. وفي النهاية، أصبح خبيرا بتصنيعها. وأول طائرة صنعها من الورق لباريس كانت بيضاء فقط وبسيطة، ولكن لها أجنحة رفيعة وطويلة ويمكن السفر بها لمسافات بعيدة. وكان لها عادة أن تسجل قائمة في دفتر صغير. قائمة تضم اللوازم اليومية، وأسماء الأشخاص الذين قادتهم للملاجئ من الشاطئ، مع أنها لم تذهب إلى الشاطئ منذ أنقذته. فحرس السواحل أصبح متيقظا وعدد اللاجئين أقل.

وفي أحد الأيام قرأت له بعض السطور من دفترها. وكان اسمه الوحيد في قائمة عنوانها "أشخاص قبلتهم على الشاطئ". واغتنم الفرصة ليسألها لماذا تابعت العودة إلى الشاطئ بعد وفاة زوجها وغرقه هناك. قالت إنها تسمع نداء الاستغاثة من الذين تنقذهم قبل الغرق، كما فعلت يوم وصوله. ولكنها لم تقفز في المياه لإنقاذ أحد لأنها تعتقد أنها غير متأكدة أنها لن تغرق. أضف لذلك الشخص اليائس يمكنه استعمال رأسك كسلمة ليطفو ويهرب من الأمواج، كما أن لديها ابنا عليها تربيته. ولكن كان لا بد من العودة للشاطئ فهو القبر الذي دفن فيه زوجها، وهو مكان مهجور لا يشاركها فيه أحد. والإنسانة التي كانت قبل الحادثة، برفقة ابنها وزوجها، أي أسرة من ثلاثة، ركبت بالقارب وهربت من هاييتي، لكن الآن تلك الإنسانة ضاعت أيضا في مياه البحر. كان الوصول لليابسة أصعب من السقوط على الأرض. فسقوطه الحر انتهى بارتطام جسمه بخلاطة الإسمنت كأنه يضرب على طبل. لكن البحر خلاطة مظلمة مليئة بكل شيء، وكل لحظة كان وجهه يبرز من الأسفل رطبا، معذبا بالرمل والحصى، وعليه الاحتفاظ بفمه مغلقا، في محاولة للتنفس بأنفه، والتخلص من المزيج المغبر الذي اضطر جسمه لاستنشاقه. وتظاهر أنه يسبح ويحاول التجديف، كما فعل حينما توقف القارب في عرض المحيط وتوجب عليه أن يسبح للشاطئ. وجاهد للتجديف بذراعيه، ولكنه لم يتمكن من تحريك ذراعيه أو ساقيه. ومع ذلك، كان جسمه بحركة مستمرة، لأن الخلاطة تابعت الدوران. ووصل للعتلة، وكانت في مكان مستقر نسبيا، في بيت أو معبد أو مكان مقدس، يمكن أن تسميه poto mitan، المطهر. واستعمل ما تبقى من قواه لدفع جسمه نحو العتلة وتطويقها بذراعيه. وكان عليه أن يصمد قليلا قبل أن يندفع باتجاه آخر. وانتابه الشعور بانعدام الوزن، أصبح أقل وزنا مما كان عليه أثناء السقوط. وكانت عظامه تذوب، ودمه يتبخر، والآن أصبح مثل ورقة أو شيء نفوذ – غربال، أو الدانتيلا البيضاء التي تعشقها دارلين. ولم يكن عليه أن ينتبه للهدير المتبادل والرنين الناجم عن الخلاطة. ولم يلاحظ أن هناك خيوطا من الدم تلوث الإسمنت، أو أنه لا يتألم. ثم توقفت الخلاطة عن الدوران وسمع صوت السكون، والذي حل محله الصياح والشخير ونداء "آه يا ربي". ثم سمع الصافرات، والتي أعادته إلى الشاطئ، نحو الرمال الرمادية ووجه دارلين الهادئ، وبذتها الحمراء الرياضية، وقميص باريس الأحمر، وقيئه الملون بالبرتقالي والأخضر في حمام مطعم الوجبات السريعة.

ومن حيث كان يستلقي في الخلاطة الإسمنتية، شاهد طائرة تمر في السماء الزرقاء. وحين ذاك فهم أنه يموت، وأن موته يقدم له شكلا من أشكال الحرية لم يستمتع بها من قبل. واستمر ذلك بغض النظر عما يره أمامه. وما يفكر به ويريده، باستثناء أنه كان يريد أن لا يموت. وتمنى أن يأتي شيء له أجنحة ويقتلعه من خلاطة الإسمنت، وها هو الشيء في السماء الآن، وله شكل طائرة. كان هو ودارلين يوفران النقود لمرافقة باريس برحلة في الطائرة. ويمكنها أن تكون رحلة أو خاتما. فهما عمليا متزوجان. وباريس هو الخاتم. وقد أحبا بعضهما بعضا وكلاهما يحبه. فهو ابنهما. وأراد أن يرى دارلين وباريس مجددا. لمرة واحدة فقط. ورغب أن يرى وجهيهما. وأن يقبض على أيديهما. وأن يقبلهما بطريقة مختلفة طالما قبلهما بها، هي على شفتيها وهو على جبينه، كما حصل حينما كان صبيا صغيرا.

كانت الطائرة تنزلق من مجال النظر، وسمع صوته يصفر، ويقول Quédate Rete la انتظر.. كان يريد أن يخبر الطائرة أن تنتظر، أو أن تستمر صور دارلين وباريس في رأسه. ولكن الوجه الوردي المنتفخ للملاحظ كان يسد السماء وسمع الرجل الخشن يقول: لا تخش يا فرنانديز. لن أذهب. النجدة في الطريق يا صاحبي".

آه، نعم، الأوراق التي استعملها لضمان عمله تذكر أن اسمه إرنستو فرنانديز من سانتياغو دي كوبا. ولا أحد في هذا المكان، وحتى الهايتيين، يعلمون اسمه الحقيقي. إنهم يعلمون أنه ليس "كوبيا كوبيا" كما يدعي، ولكن باعتبار أنه يتكلم الإسبانية اعتقدوا أنه عاش في كوبا لردح من الزمن وحصل على هذا الاسم منها. وهو لا يعلم كم سيستمر نصف وعيه، وأنه بمقدوره أن يفكر ويتذكر، ولذلك رغب أن يتابع بالتحرك، ليرى كم من الوقت سيصمد. ماذا لو استطاع أن يطفو ويغادر الخلاطة الإسمنتية؟. وماذا لو أنه سافر من المدينة وزار الشخصين اللذين أحبهما؟. كان يريد أن يلتقي بهما، وإن كانت المشاهدة مستسحيلة، فليشعرا به. لم يكن مقتنعا كيف سيتحقق ذلك. ربما سيحسان به كريح حارة أو نسمة باردة. وربما شيء بالقرب منهما سيرتجف. أو أن يسقط إطار صورة، أو تتحطم كأس زجاجية. هل يمكنهما رؤية خياله في زاوية عيونهما، وأن يستنشقان رائحته النفاذة التي تفوح مع العرق بعد الإجهاد بالعمل، أو يسمعان أغنيته المفضلة؟. ربما تقشعر راحتاهما؟. أو يحسان برعشة قبلاته؟ أو أن يظهر في أحلامهما؟. وسيكون باريس أكثر عرضة لتلقي الإشارات منه. فالولد فعلا قد أصبح عرضة "للمساته". وكان عقله قد غاب قليلا في مكان ما بين البحر والشاطئ.

وانتبه أرنولد لضيق الوقت باستمرار، ولم يعد لديه فرصة لتذكر طفولته في بورت دي باكس. ومع ذلك كان يحبذ نسيان تلك الفترة. لم يتعرف على والديه، ولا يعلم من هما. وتلقى تربيته كصبي خادم في أحد البيوت، فقد تخلى عنه أهله قبل أن يراهم. ولكنه يعرف فقط أنه لا يحمل دماء ولا لقب المرأة التي كبر في بيتها. ولم تكن لديه علاقة وراثية بابنيها، وكان يغسل لهما ثيابهما ويكويها. ويصحبهما إلى المدرسة، ويطهو من أجلهما. مع أنهما أكبر منه بعدة سنوات. هل كان أبواه ميتين. لم تخبره المرأة التي ربته أبدا، ولكن كانت تقول، كلما أخطأ في طهو طعامها، أو لم ينظف بيتها بشكل لائق، إنه عديم الفائدة ولا يستحق أن يكون له أبوان.

ولكنه هرب منها ومن ابنيها بأسرع فرصة ممكنة، وانتقل إلى الحدود، وهناك نام في مستودع وكان يحمل أكياسا من الدقيق والسكر والأرز لتجار وباعة متجولين هايتيين. وأخبرته إحدى العاملات عن قارب مغادر إلى ميامي. وكما قالت كان أخوها هو القبطان، فمنحها ما لديه من نقود مدخرة وكان يفكر بالعودة في وقت لاحق ليشمت من مالكته المتعجرفة وابنيها ويغيظهم بتحسن أوضاعه.

بعد أن أصبح برفقة دارلين، رافقته إلى عيادة المهاجرين المجانية في شمال ميامي، وأخبرته أنها تنتظر أوراقه. كانت قد انتهت للتو من الشهادة الثانوية في هاييتي عندما حملت باريس. وكان والد باريس هو أستاذها في الصف في لاتيبوينت وتشاركا، كما قالت، حبا ميؤوسا منه. كانت تحب عائلتها وبلدها وترغب بالحياة في لاتيبوينت. وأرادت أن تعيش فيها حتى الموت. وكان لديها هي ووالد باريس ما يكفي من وسائل الحياة. فقد ورثاها من عائلتيهما. ولكن حينما أخبرها والد باريس أنه مزمع على السفر إلى ميامي بالقارب، لم تتردد في أن تكون وراءه. قالت لأرنولد:"كانت الفكرة جنونية. اعتقدت أنه لا يمكن الحياة دونه. وأنه يمكن أن أتوقف عن التنفس إن ابتعد عني. ولا سيما أننا أنجبنا هذا الولد معا". وعندما وصلا إلى ميامي، هي وباريس من غادر المياه. وبعد المكوث لفترة وجيزة في المستشفى استقرا في ملجأ للنساء. يقول عنه محامي عيادة المهاجرين "مكان إنساني". نفس المحامي أخبر أرنولد أنه دخل البلاد "دون فحوص". ويعني، أنه لم يمثل أمام أي موظف هجرة يوم وصوله إلى الولايات المتحدة، وهذا يعني تقنيا، إنه غير موجود على هذه الأرض. قال أرنولد:"أريد أن أقابل دارلين". فقد أصبح لديه إحساس أفضل بوضعه. أما ما لم يعرفه هل توجد حدود للرغبات التي بإمكانهم تحقيقها له.

وفجأة، وجد نفسه في مطبخ المطعم في ليتل هاييتي حيث تعمل دارلين. كانت الغرفة صغيرة ومليئة بالبخار، والجدران ملوثة بالدهون. كانت تطهو كمية كبيرة من وجبة الذرة مع الفاصولياء الحمراء. وبجوار الإناء قدر كبير أيضا من حساء السمك. دخل إلى المطعم عددا من المرات ولكنه يتذكره بصعوبة. كانت تتعرق كثيرا ولم يكن يتصور أنه بمقدورها أن تستمر لفترة طويلة هنا. أخذت جرعة من زجاجة ماء، ثم رفعت غطاء قدر الوجبة التي تغلي. وخلال عملها كانت تترنم بأغنية بدأ هو يترنم بها. ربما شعرت بصوته الخافت يجاريها. وربما سمعت صوته. كانت الأغنية الوحيدة التي سمعها تترنم بها هي "يا لاتيبوينت". كانت تنشدها دائما بعفوية ودون تعمد. تنشدها وهي سعيدة، وحينما تكون قلقة، وحينما تكون حزينة. وها هي تغنيها الآن.

Latibonit o, yo voye pale m, yo di m Sole malad . . .

(أرسلوني لنقل الخبر،أن الروح مريضة ).

وكما يعتقد كانت الأغنية عن شمس عليلة تدور حول القرية التي ولدت فيها. ورافقها بالغناء حتى وصلت إلى: ضعف الشمس، وموتها ثم دفنها. وكانت الأغنية في رأسه دائما، وداع حزين للساعة الذهبية التي تسبق غروب الشمس. ولكنه لا يعرف شيئا عن طريقة غروب الشمس في لاتيبوينت، إنما في بورت دي باكس كانت الشمس ساحرة لحظة الغروب، تتكتل على نفسها بما يكفي لتعمي عينيك إذا نظرت لها مباشرة عند خط الأفق. والآن ليس متأكدا كم مرة وقف ساكنا في تلك اللحظات، وربما فقط لفترة نفس واحد بعد سيادة الظلام. ورافقها بالغناء بأعلى صوت ممكن، ولكن لم يصدر عنه أي صوت مسموع. واكتشف أن هذا أحد حدوده. ثم سمع صوتا من صدارة دارلين، وهو الحفيف المعتاد. وكان هذا هو صوت موبايلها. وكل ما سمعته بعد كلمة ألو تسبب لها بالانزعاج. ألقت الملعقة الخشبية التي تستعملها بهدوء في الوعاء الذي يغلي. ونفخت من بين أسنانها بيأس، وكان يبدو كأنها تصفر من بين أسنانها. وجاءت صديقتها يولا بمجموعة جديدة من الطلبيات. ولكن كانت دارلين مشتتة فسألتها يولا:

k genyen, Darline?” Sa ما المشكلة يا دارلين".

قالت: "إنه باريس".

"هل يزعجك المعلم معه مجددا؟". وكان من عادة يولا أن تتواجد كلما احتاجت لها دارلين. لدى يولا أيضا ابن يعتقد المعلمون أنه بليد. لم يعلم طول الفترة المتبقية له معها لذلك ذكر اسم باريس، وأمل أن تفهم أنه يرغب برؤية الصبي. كان هذا في استراحة الصباح في مدرسة باريس. وباريس يجلس وحيدا في زاوية بين رفين للكتب، ويصنع القوارب من أوراق قدمها له معلم المدرسة. فقد انتقل باريس وأرنولد من صناعة طائرات الورق لقوارب ورقية. وهذا العمل يساعد على شحذ انتباه باريس، ولكنه أيضا يريح أرنولد. كانت القوارب تذكره أنه نجا من الموت في البحر. كان الأولاد الآخرون يأكلون شطائرهم ويطاردون بعضهم بعضا في أرجاء غرفة الصف. وكان المعلم يهددهم بالطرد من الصف والحرمان من ميزات أخرى.

ولم يكن باريس مهتما بما حوله. وكان مدير المدرسة يخطط لعزل باريس عن البقية. ولكن دارلين رفضت. فهو لا يزعجها، ولكنه ينهمك بشؤونه الشخصية فقط. هكذا كانت تقول دارلين للمدير ولكل شخص يحاول أن يصنف باريس في عداد الإنطوائيين.

وكان أرنولد يفهم بنفسية الطفولة جيدا ولا يوافق دارلين. والمعلم لا يعرف حالة باريس. فهو لا يعلم أن والده اختفى وهو على مبعدة أقدام منه. ويبدو أن باريس في حداد دائم، مثل أمه. وبدأ باريس ينادي أرنولد بلقب بابا منذ أول لقاء. ورتبت دارلين لوجبة مشتركة بعد ساعات في المطعم الذي تعمل فيه. ولزم باريس الصمت خلال الطعام، ولكن حينما عزم أرنولد على المغادرة سأله:"هل أنت والدي؟".

قال أرنولد:"بمقدوري ذلك؟".

ابتسمت دارلين، وقفز باريس إلى أحضانه. واعتبر كلاهما جوابه هدية يقدمها. وفجأة أصبح للحياة معنى. لقد تحول إلى أب.

في غرفة صف باريس، جلس أرنولد قرب الولد، في المكان الضيق بين الكتب. وحاول أن يحضن باريس بذراعيه ولكنه لم يشعر بجسم الطفل بمقدار إحساس الطفل به. قرب رأسه من رأس باريس ووضع فمه قرب أذن الولد اليمنى وصاح ليسمعه:"باريس يا ابني، في أحد الأيام ستزور باريس. وسيكون لك عائلة وستطير بطائرة حقيقية". وانتظر إشارة تؤكد له أن الصبي سمعه أو شعر بوجوده، ولكن بلا طائل. كان باريس الآن يصنع ثامن قارب ورقي. ويطوي الورقة بالطول، ثم من الزوايا. كان هناك دائما دقيقة تتخلل صناعة القوارب حينما يفكر أرنولد أن باريس يحب أول مرحلة من طي الأوراق التي تبدو بشكل قبعة، لكنه يتابع حتى تأخذ مقدمة القارب أو الزورق الشكل المناسب. صاح في أذن الصبي:"وداعا يا باريس. من فضلك امنح أمك عاطفتك كلها وللأبد".

ثم ابتسم حينما نهض الولد وحك الأذن التي تلقى فيها الصياح، كما لو أن شيئا صغيرا مثل بعوضة طنانة، قد تجولت فيها. اختفى باريس أو ربما أرنولد هو الذي اختفى. عاد لموقع البناء. ليس جريحا ولكنه معافى، مثلما كان حينما غادر بيته في ذلك الصباح. وهو يرتدي الأفرول البرتقالي الناصع والقبعة القاسية المناسبة. هل كان الوقت يلعب به، أم أنه من يلعب بالوقت؟. هل كان شريط الشرطة الأصفر يغطي الحاضر والماضي؟.

كان الموقع مغلقا، وعدد من الرجال العاملين فيه يتململون، ويميلون من فوق الشريط ليروا عن مقربة المصورين الذين يلتقطون صور الخلاطة الإسمنتية.

واصطفت عربات الأخبار مع الهوائيات في الشارع وكان الصحافيون يجرون مقابلات مع زملائه العمال وبعض المارة، وبعضهم ادعى أنه شاهده وهو يسقط. لقد ترنح جسمه أولا حسب أقوالهم، ثم سقط فورا في الخلطة الإسمنتية.

وأصدرت شركة البناء والمقاول تصريحا تلاه العديد من الصحافيين في نشرات أخبار منتصف اليوم وفيه:"أحزننا جدا الموت المأساوي لإرنستو فرنانديز. ونقدم تعازينا لعائلته، وأصدقائه، ورفاقه في العمل. ونعمل مع المحققين الفدراليين والمحللين لتحديد أسباب الحادث المؤسف الذي وقع وتعهد بعدم تكرار حوادث من هذا النوع في المستقبل".

و توفرت أفلام فيديو مصورة بالموبايل عن سقوطه، ومأخوذة من عدة زوايا. وبعضهم صوره من الأرض. آخرون من شرفاتهم ومنصاتهم. وكان يبدو، في الكولاجات السريعة لهذه التسجيلات، أنه لا يشبه نفسه ولكن كشيء ضخم منتفخ. وكان يتحرك بسرعة ولا يمكن التعرف عليه ككائن بشري إذا لم تكن الحركة بطيئة.

وعاد الركود لسابق عهده. ذلك الشعور الخفيف بجسم يتبخر. كانت دارلين وباريس يتلاشيان، وأصبحا حنينا بعيدا، خيالا، ظلا، يتلاشى فوق الأرض.

هناك حب يبقى بعد رحيل العشاق. وبعض معاني هذه الكلمات كانت هي الصلاة التي رتلها خلال سقوطه. لدى دارلين عاشقان. وهو لديه إثنان من باريس. وسيحاول رعايتهما. وسيواصل الإنشاد مع دارلين، وسيتابع همساته في أذن باريس. وسيبذل جهده لقيادة دارلين إلى الشاطئ، بحثا عن آخرين مثله.

إدويج دانتيكات Edwidge Danticat : روائية وقاصة أمريكية من هاييتي. والترجمة عن النيويوركير.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow