Alef Logo
ابداعات
              

ربيع التنومة: الانتفاضة والسجن (فصل من رواية)

د.قصي الشيخ عسكر*

خاص ألف

2018-07-07

السندباد اختفى.

هكذا ورد في الأخبار.

يقال توارى في مكان ما بعيد عن النار..منذ اليوم الأول فر من البحر وفي ذلك الصباح الحزين كان الجنود يعودون متعبين. نحن العراقيين لم يبق لنا صاحب في هذه الدنيا فكل بلاد المعمورة تناصبنا العداء ..لدينا كلّ شيء، يقول شيوخنا كبار السنّ ويضيفون، الماء والزرع والنفط .. لغنانا وخيراتنا يبغضنا الآخرون.قد أقتنع بما أسمع..لست نائما ولم أكن سكران مثل الرامي معلمي في المدرسة الابتدائية.وأقسم بالله العلي العظيم أني لم أره منذ اليوم الأول من أيام المحنة الأربعين تلك. لكني رأيت أو خيل إلي أني أسمع ثورا أسود يصرخ لقد أكلت يوم أكل الثور الأبيض.كامل الرامي معلم درس العلوم أصبح في العام الجديد معلم القراءة،وكنا نعيش معه ايام السندباد إلى درجة أننا ظنناه حقيقة لاشك فيها حتى تلاشى البحَار وعاد الجنود المتعبون.لم تنته الحرب.في آب عام 1988 انتهت حرب وفي آب عام 1990 قامت حرب أخرى.لم يصبر العراق طويلا على سكون الموت.العالم يكرهنا.. يريد لنا الخراب.. نحن ندخل معركة أخرى نحسمها بست ساعات. صدام حسين يضم الكويت بست ساعات. ملخص لحرب دامت ثماني سنوات. بروفة...ساندوج.. الكويت ساندوج صغير.. مقدمة كتاب اسمه تحرير فلسطين.بلد مساحته أكبر ثلاث مرات من لبنان ضمه القعقاع بست ساعات.الأمر سيان..هي حكمة الله وقضاؤه وقدره.يهدي القوة لمن يشاء والضعف لمن يشاء.خلق أضعف الرجال ويستخلف أقواهم.وأنا مازلت أفتقدك ياجارنا معلمي كامل الرامي فمن عاشرك يكتشف فيك شيئا جديدا كل يوم. في هذه اللحظة وأنا أتابع مسيرة الجنود المتعبين القادمين من العشار إلى شط العرب حيث درب التنومة عنده يلتمسون الطريق الأكثر أمانا نحو بغداد أتذكرك.جنود منهكون حفاة عراة. شعث الرؤوس. ممزقو الثياب جائعون. هل كنت أنت السندباد حقا أم أنا؟ نظريتك في الحرب سقطت،كنت تقول سرا أو علنا لن تقف الحرب حتى نرى مذيع التلفزيون رشدي عبد الصاحب أصلع ذا لحية بيضاء يذيع بلاغا عن جنديين عراقي وإيراني بقيا يتقاتلانعند الحدود..ونظريتك حول السندباد مازالت قائمة.كنت الوحيد من بين المعلمين لا ترى البحر يمدّ نفسه من الخليج إلى البصرة..هل يعقل أيها الجغرافيون .. أيها المؤرخون... العلماء.. لا أحد يصدق أن دجلة والفرات يحملان مليارات الأطنان من الصخر والتراب ليسدا بحرا عميقا يتمدد من البصرة إلى الصحراء حيث الكويت...لو كان ذلك حقا لأصبحت تركيا أولى بنا..أين هي نظرية التوازن.. أنا لا أعرفها والتلاميذ يجهلونها لكنّ الأستاذ كاملا الرامي،قبل ان يدمن السكر ليل نهار،يقول مهما جرف دجلة والفرات من تراب إلى الخليج فلن تنقص الجبال ولا تنطمر المستنقعات أو البحار، هراء،أما نحن فسنظلّ مغرمين بالبحر ولن نشبع حتى نجد حربا أخرى،انتهت الحرب مع إيران ولم تنته فها هي تشب داخل الكويت.تنشطر إلى ذرات أصغر..يومها أحضر مدرس التاريخ القديم خريطة للعراق.كنت في الصف الأول المتوسط. قال انظروا كان البحر يغطي الناصرية ويقف عند النجف.نحن أهل التنومة كنا إذن بحرا.ومن قريب كان دجلة والفرات يلتقيان في القرنة. الله لقد صدَّقت الحكاية برمتها..حكاية كذبة البحر والطمي سمعناها من المعلم كامل نفسه..لم نعد تلاميذ بل طلابا ولم يعد من يعلمنا معلما بل مدرسا أما كامل الرامي فقد قال هذا مدرس حمار. إنه الشعور بالنقص.نحن نشعر بالنقص، فنتخيل أنفسنا على بحر ونصطنع السندباد.بل نجعله يصارع الموج فيصبح الناجي الوحيد..ليست هناك من حقيقة علمية تثبت أن البحر امتد في عمق العراق. وجدنا أنفسنا قادة العالم زمن هارون الرشيد، امبراطورية عظمى ولا بحر،لا ساحل لنا فاخترعنا السندباد قاهر البحار والأمواج ثم عانقنا عصر النور فلم نجد بدا من أن نجعل البحر إلينا يسعى في العمق وبعد أن يئسنا صفقنا للملك غازي وهو يعلن تبعية الكويت لنا وباركنا عبد الكريم قاسم حين عين الشيخ الصباح قائمقام لقضاء الكويت.بحثنا طويلا فوجدنا أن المنفذ يمكن أن يكون المحمرة أخفقنا فتوجهنا نحو الكويت.الله كم هي طويلة تلك الرحلة.هي عقدة النقص قلا يغرنَّك كلام ذلك المدرس الحمار!

مامعنىعقدة نقص!

في كل منا عقدة نقص.. حين تكبرون تستوعبون معناها..السندباد نفسه عقدة نقص..قصة المدرسة الابتدائية تغزو الذاكرة من جديد.الثور الأسود أي ثور هو.أكلتنا أمريكا يوم أُكِلَ الاتحاد السوفيتي. يوم أُكِلَ الشيوعيون عام 1963 ويوم أكِلَ عبد الناصر 1967 ويوم أُكِلَت إيران. آخر المطاف نحن الثور الأبيض ..لاأدري أي لون كان هذا الثور يحمل.بقي تائها في الصحراء يبحث عن منفذ ما في البحر.والماء مثل خيط من المطاط يمكن أن نمده كيف نشاء ولا ينقطع..من زمن هارون الرشيد نبحث عن منفذ بحري. مررنا بتجارب كثيرة. مططنا البحر وهاجمنا دولا:عرب المحيسن..بني كعب.. بني أسد..جاءت قواتنا تحرركم.يا أهل المحمرة هاهم جنودنا بينكم..المحمرة عراقية.أنتم العرب الخلصاء.هؤلاء مجوس..نحن عرب وهم فرس.سنة نحن وهم شيعة. البحث مازال مستمرا عن أبي لؤلؤة المنثوري.القوات العراقية فتشت الشوش..سيف سعد.. قوس الزين..قصر شيرين أين أختفى الفاتك الشرير الذي تعلقت به أدران المجرمين من عهد قابيل.الجنود العراقيون أبناء الماجدات يواصلون بحثهم.لعل الوقت فاته أن يلتحق ببلاد فارس لا أظنه في كردستان فأنا كنت صغيرا ووقفت شاهدا مع أبي وأخي عام 1958.جاء الملا مصطفى البارزاني بالبارجة من منفاه، فتدافع أهل البصرة نحوه.من يريد أن يشمه ومن يريد أن يقبله.غرق زورق، ولم يحزنوا.خرجنا نصيح: يامصطفى أهلا بك.صافحه وجهاء التنومة باسم أهل شالعرب تدافعوا إليه،وأقسم بالله العلي العظيم أني لم أر معه أي قاتل،لا أبا لؤلؤة المجوسي ولاقارون ولا أيا من الذين تبحث عنهم الحكومة ويصور اشكالهم المقيتة خيال صلاح أبي سيف الخصب. من يعرف أن وجه خالد بن الوليد أكله الجدري ووجه العلايلي جميل وسيم يدرك عقدة النقص تلك التي أدركتها حين كبرت في رجلي العرجاء والتي حدثنا من قبل عنها معلمنا كامل الرامي ونحن طلاب في السنة الأولى المتوسطة وهو يشِّبه مدرس التاريخ القديم بالحمار لأنه قال إن البصرة كانت على بحر والآن بعد أن رجعنا من إيران وأقسم السادات أن القاتل الفاتك ليس في مصر ظنناه مختبئا في الكويت في مكان ما.. الحمراء.. الفحيحيل.. الجهراء، مجرد شك..وأنا مازلت على ضفاف شط العرب أبحث عن السندباد الهارب،لم أكن لأظن شأن غيري أن هناك حربا بعد القادسية فقد بدأت التنومة تتنفس وتعود إلى هدوئها السابق.أكثر من خمس سنوات وأهلها بعيدون عنها.فارقوها ولم نفارقها..خرجنا منها بأمر عسكري ورجعنا إليه بأمر.هكذا شاءت أصوات المدافع والطائرات..أعراس وحفلات.أفراح دعا لها بالدوام البدوي راجي المزروع الذي كاد الفرح يقتله منذ زار التنومة الرئيس خلال الحرب وقصد بيته.عَمَار أيتها التنومة دائما أنت في عزٍّ وأفراح ومباركة لك خطوة الرئيس السلام يخيم على شاطئك الهارف القوام فتستعيدين أيتها اللاهثة عن رحلة شاقة طويلة أنفاسك..تسترجعين أحشاءك التي لفظتِها ذات يوم..لست الوحيدة في هذا العالم فكل ماحولك من مدن وقرى وجبال وسهول وبحار تتقاسم الفناء الهائل..الدنيا كلها تتناسخ في صورنا..الكواسج في شط العرب تنقض على الأسماك..والطيور تبتلع الدود من طين الأنهار..دود القز يفتك بأوراق اليوكالبتوس..والعناكب تستدرج الحشرات إلى بيوتها الواهنة..فمن لا يتصوّر أن الأفاعي لا تبتلع الضفادع والجرذان، والكواسر تهوي من السماء لاتخطف الأرانب في البرّ، وكم أُعجِبَ أهلُكِ بمنظر التماسيح في قرى بعيدة عنك وهي تلتف على الغزلان العطشى الهائمة إلى موارد المياه..فلم لاتكون هناك في شط العرب تماسيح كما في أعالي النيل أو استراليا وأمريكا؟ العالم مجنون يفتك بعضه ببعض..يتقاتل كل من فيه وماعليه حتى الريح تتعارك والشجر ظنناكِ تعيشين بسلامٍ أبد الآبدين حرب العراق وإيران آخر الحروب فهؤلاء الغجر انطلقوا في الشوارع يغنون من المغرب إلى الفجر..في كل مكان يغنون..في الإذاعةيغنون،والطرقات،كذبة نيسان..مفاجأة..بعد كلّ هذا الدمار المهول والخراب والقتل كلّ يعود إلى مكانه..وكالات أنباء العالم تتناقل الخبر ونحن لانصدق نشك في أن تكون لعبة ما..لا نثق إلا بمحطة لندن ولن تُخيِّب لنا أمل قطّ فقد سمعنا منها الخبر رأس كل ساعة حالما تتلاشى دقاتها العنيفة القوية التي يداعب رنينها الصافي الذائب بهسيس المذياع آذاننا:إيران وافقت! آية الله خميني يتجرع السّم!العراق مزهو بحلة من الفرح والانتصار الكبير!العراق قبل العرض..رضي وقف الحرب شرط أن يطلق هو آخر صاروخ!موت أم لعبة أطفال..أنت الأول.. أنت بدأت أنا من يختم،مع ذلك فقد انطلق مارد الغجر من مكمنه.سيظل يغني في كل مكان إلىماشاء الله إلى أن جاءت الحرب الثانية.لنعلم عندها أننا لسنا استثناء من هذا الفناء المخيف فنحن مثل غيرنا بعض من هذا العالم السادر في الهلاك والنزاع اللذين اندلعا من زمن آدم وحواء:

- كباب رائع بدينار!

- الآن عملناه... جديد!

- مازال ساخنا...


*روائي و شاعر من البصرة مقيم في إنكلترا
تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow