Alef Logo
يوميات
              

الجني الذي تقمص شخصية العنزة

خطيب بدلة

2018-08-11

كان "أبو إبراهيم البايملي" متأكداً من أن الجِنّ يعيشون بيننا نحن معشرَ الإنس على نحو غير مرئي، ولكنهم لا يَسْعَوْنَ إلى إيذائنا، لأنهم مسلمون مثلنا، والله تعالى ينهاهم عن ذلك.

بالمختصر المفيد؟ أبو إبراهيم لا يخاف من أذى الجن، ولكنه يشعر بالرهبة من وجودهم وتحركاتهم في الأماكن القريبة منا، ولا سيما إذا طلعوا له في الليل.. فلنفرض أنه كان ماشياً في مكان مُعْتِم، واصطدم بأحدهم من دون قصد، لا سمح الله، فوقتها قد (يَطِقّ عقلُه) ويصبح مجنوناً رسمياً يودعه أهلُه في مشفى "الدويرينه" للأمراض العقلية، وينسونه هناك حتى يموت.

أيامَ كانت بلدتنا "معرتمصرين" صغيرة، تعدادُ سكانها لا يتجاوز عشرين ألفاً، كان أبو إبراهيم موظفاً في شركة الكهرباء، يناوب خمسةَ عشر يوماً في الليل، ومثلها في النهار، متقاسماً أيامَ الشهر مع الموظف الآخر "أبي سالم العبدو".

الحقير أبو سالم كان يعرف بوجود نقطة الضعف المتعلقة بالجنّ لدى أبي إبراهيم، لذلك راح يُسَرِّبُ له، حينما يلتقيان في وقت التسليم الصباحي، أنه سَمِعَ مِنْ بعض أهالي البلدة أن مقر شركة الكهرباء (مَسْكُون) بإخوتنا الجِنّ، اللهم عافنا! وينصحه بأن يُبَسْمِل، إذا اصطدم بأحدهم مصادفةً، أو يقول له بصوت خفيض:

- سِرْ يا مبارك، رُحْ في سبيلك يا أخي.. أناشدك بالله ابتعد عني..

فيختفي الجني، على إثرها، ويذوب كأنه فص ملح.

يوماً بعد يوم؛ بدأ الإحساسُ بأن مقر الشركة (مَسْكُون بالجن) يتعاظم لدى أبي إبراهيم، فصار يستقبل الليلَ بتثبيت قاطع جهاز استقبال الكهرباء الموصول مع الشبكة الرئيسية بوضعية التشغيل الدائم، ويُقفل الباب المفضي إلى باحة الشركة بالمفتاح، ومن باب الاحتياط يَدُكُّ الدرباس الحديدي في الفرضة المخصصة له، ويلتصق هو في غرفة العامل القريبة من الشارع، ويترك البابَ الخارجي مفتوحاً لأجل أن يبقى على اتصال بحركة البشر القليلة، ويؤنس مسمعيه بعواء الكلاب المتواصل القادم من منطقة "القبة البيضا" على طريق كفرية، ويُشَاغِل نفسَه بغلي إبريق من الشاي الخمير على الموقد الكازي الصغير الذي يودعه تحت الدكة الحجرية ذات الغطاء الخشبي، ويبدأ بمزمزة كأس صغيرة منه ريثما ينتهي الحارس الليلي "أبو مصطو" من جولته التفقدية على بيوت الحارة القبلية ودكاكينها، ويأتي ليُمضي بقية الليلة عنده، فيسكب له الشاي، وقد اختمر، ويُجلسه على الدكة الحجرية التي مُدَّتْ فوقها بطانيتان عسكريتان عتيقتان، ويجلس قبالته على الكرسي البلاستيكي ليلاعبه بطاولة الزهر، وحينما يَمَلَّان من اللعب يُغلقان الطاولة، ويبدأ أبو مصطو بسرد حكايات من الزمان القديم، تتركزُ كلها حول شجاعته التي بلغت، في يوم ما، حَدَّ أنه ضرب "عبد الرحمن البغال" الدّرَكي الذي كان يتفنن بإيذاء أهل البلدة كفاً مخمساً جعلَ أحد أسنانه يطير على الفور، وتخلعت ثلاثُ أسنان أخرى، بدليل أنه صار يذهب بعد ذلك إلى طبيب الأسنان في حلب ليعالجها.

كانت زيارة "أبي مصطو" ترد له الروح، فهو يستأنس بوجود أي واحد (إنسي) بجواره، أضف إلى ذلك أن أبا مصطو من النوع الشجاع، مُجَالَسَتُه تشحن أبا إبراهيم بجرعة كبيرة من الاطمئنان.

وفي ذات ليلة شتائية، حصلت سلسلةٌ من الوقائع التي كادت أن توصل أبا إبراهيم إلى مشفى "الدويرينه" حقيقة لا مجازاً. فعند منتصف الليل تقريباً، ومن دون أية مقدمات، هَبَّتْ رياحٌ قوية، أدت إلى دخول تيارات هوائية محملة بالرمل وقصاصات الورق والأتربة إلى غرفة الموظف عبر الباب الذي كان أبو إبراهيم قد تركه مفتوحاً بانتظار قدوم الحارس أبي مصطو الذي تأخر هذه الليلة لأسباب غير مفهومة..

اضطر أبو إبراهيم لإغلاق الباب بسرعة، وإذا به يسمع، بعد لحظات قليلة، صوت إطلاق نار، وصراخاً، وسباباً متبادلاً بين رجلين لم يعرفهما من خلال الصوت، وبعد قليل سمع ولاويل نساء مفجوعات.. ومع الهدوء النسبي الذي أعقب هذه الهوجة شعر أبو إبراهيم بمغص قوي، فحمل العلبة التنكية الموضوعة فوق المدفأة، وأفرغ ماءَها الساخن في الإبريق البلاستيكي، وحمله وركض إلى الباب المفضي إلى باحة الشركة، وسحب الدرباس، واندفع مسرعاً نحو المرحاض الذي يتصدر الباحة..

كان المطر قد بدأ يهطل غزيراً، والرياح تعترضه، فتُجبره على تغيير مساره جاعلةً إياه يهطل على نحو دائري، وراح هذا الوضعُ الزمهريريّ يُسَرِّعُ في اندفاع أبي إبراهيم نحو المرحاض وقد أنساهُ هاجسُ التخلص من المغص خوفَهُ المزمنَ من الجن الساكنين - بحسب ما سرب له زميلُه أبو سالم - داخل فناء الشركة.. وفي هذه اللحظة العصيبة، ويا للرهبة والفظاعة، صدر ثغاء معزاة! فانتفض أبو إبراهيم واقفاً مثلما ينتفض النابض، وضرب برجله الإبريق، فانسفح الماءُ الساخنُ على كمي بنطاله، وخرج يركض باتجاه غرفة الموظف، موقعاً كُلَّ ما أتى أمامه من خردوات وأصص نباتات وكرتونات فارغة، حتى إذا ما أصبح داخل الغرفة دك الدرباس في مكانه، وقذف نفسه فوق السرير الخشبي القريب من باب الشارع، وشخص ببصره كالأموات.

مرت لحظات لم يكن يسمع خلالها سوى صوت تنفسه العسير مختلطاً مع غضب الطبيعة، وإذا بالباب الخارجي يُقرع بعصا الحراسة، ثم دخل أبو مصطو وقد تبللت ثيابُه بالمطر. حينما رآه على هذا الحال، تقدم منه وحاول أن يفهم ما به، ولكن أبا إبراهيم لم يكن قادراً على دفع حباله الصوتية باتجاه الكلام..

قال له: إهدا خاي أبو إبراهيم، إهدا. أنا هون، لا تخاف.

***

في الساعة السابعة والنصف، صباحاً، كان أبو إبراهيم غافياً على ذراع صديقه أبي مصطو الذي طمأنه، وهَدَّأَه، ووضع ماء بارداً على الأماكن التي آذاها الماء الساخن الذي انسفح على ساقيه، وبَدَّل بثيابه التي اتسخت ثياباً كان أبو إبراهيم يضعها في صندوق خشبي صغير من باب الاحتياط، وأكد له أن وجود الجن داخل الشركة إنما هو إشاعة لا أساس لها من الصحة، وحلف يميناً معظماً بأنه لولا ضرورة بقائه إلى جواره لحَمَلَ إحدى البطانيات ودخل إلى منتصف باحة الشركة ومدها ونام عليها، ووقتها يجب على الجني الذي سيقترب منه أن يقرأ الفاتحة على روحه.

في هذه الأثناء دخل أبو سالم مسرعاً، وفي يده كيس ورقي. لم يكترث للوضع المأساوي الذي وجد عليه أبا إبراهيم. قال:

- السلام عليكم. لا تواخذني أبو مصطو. لازم أفوت عَ الشركة بالأول. بدي أحط أكل للعنزة. أكيد المخلوقة جاعت!


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

في جلاء فرنسا عن سورية

08-أيار-2021

مذكرات سكرتيرة خفيفة الظل

20-آذار-2021

بعنا الجحش واشترينا الطعام بثمنه

20-شباط-2021

طرائف من عالم القطيع

31-تشرين الأول-2020

شيء من سيرة بليغ حمدي

17-تشرين الأول-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow