Alef Logo
مقالات ألف
              

احذر الشفقة

خيري الذهبي

خاص ألف

2018-09-15

حين وضع ستيفان زفايغ روايته التي تلح عليّ كثيرا في هذه الأيام , وعنونها باسم" احذر الشفقة", وكان قد هرب من النمسا التي سيطر عليها ادولف هتلر وحزبه النازي إلى أميريكا, هذا الحزب الذي أحاطه الألمان في المانيا, والنمسا, والسوديت في تشيكو سلوفاكيا, والبولونيون من أصل ألماني بالعطف الهائل, الذي كان سببه الأول الهزيمة في الحرب الأولى والتي كانت أكبر من أن يحتملها شعب فخور ناهض كالشعب الألماني, ولم يكن أحد يتوقع لألمانيا فريدريك غليوم والتي سحقت فرنسة قبل أربعين سنة ونيف, واحتلت باريس, وأسقطت الطاغية الفاسد نابوليون الثالث الذي خان الثورة الفرنسية التي هبت ضد الحكم الملكي " البوربون" ثم تحول هذا الرئيس الجمهوري أي نابوليون الذي صعد إلى منصة الرئاسة متوكئا على عطف الفرنسيين على ذكرى عمه الامبراطور الشهير نابوليون بونابرت ما لبث ان تحول إلى الطاغية الامبراطور, وصاراسمه الامبراطور نابوليون الثالث, وبدأ عهد الفساد الطويل والذي سيكتب عنه بلزاك المطولات, وسيكون المادة الأدبية التي سيغرف منها أميل زولا رواياته التي ستذكرنا عميقا بمرحلة الفساد المريرة التي عاشها الشعب السوري بعد انتصار تحالف البعث والمخابرات والفساد على سورية, فباع الجنرال علي زيود الأرض الأكثر خصوبة ربما في العالم, وأعني الغوطتين, الأرض التي اشتغل عليها وعلى إخصابها وخدمتها الإنسان السوري لأكثر من خمسة آلاف سنة, ولم يكن يعرف أن ضابطا فاسدا سيأتي يوما ويبيعها للمرتزقة والراشين من تجار البناء لتقوم عليها هذه الأبنية العشوائية التي ستشوه وجه سورية, وتجبر فلاحي الغوطة اضطرارا بعد سرقة الضباط لبردى والنبوع التي كانت تغذيه لملء مسابحهم وتبذير الثروة الأندر في سورية "الماء" وتبوير أرضهم بالتالي, فاضطروهم للمرة الأولى في حياتهم إلى ترك مهنة أجدادهم الفلاحة, والتحول إلى مهن أخرى كنجارة الموبيليا وتنجيدها إلخ إلى أن حصل الانقلاب الذي خرب سورية, وأعني الانفتاح الاقتصادي دون انفتاح سياسي أي" على الطريقة الصينية", فخربت حتى مهنهم الجديدة بسبب من هجمة البضائع الصينية والتركية الأجود صناعة والأرخص ثمنا, ولم يعد لهم من مورد رزق, فخسروا الصناعة بعد أن خسروا الزراعة, وكان السماسرة من الضباط الذين لم يعرفوا حربا خارجية انتصروا فيها من قبل بعد حرب الثمانينات المظفرة في حماة وجسر الشغور!!, فكان هؤلاء الضباط هم من أثرى من هذه التغيرات في الأقدار والحظوظ, وكان ما لابد له أن يكون, وأعني ثورة الجوع وطلب الحرية.


التقط زفايغ لحظة الضعف والشفقة على النفس التي جعلت الألمان يتخلون في سعادة عن الديموقراطية التي تركتها لهم اتفاقية السلام, وكان من مظاهر هذا التخلي صعود عريف في الجيش إلى منصة الرجل الأول في ألمانيا المكروبة كربين, كرب اتفاقية الاستسلام المذلة, وكرب صعود الجار من الدرجة الثانية والذي اعتاد المخيال الشعبي الألماني على التعامل معه في استعلاء, وأعني روسيا التي تغير اسمها باعتناقها الشيوعية إلى الاتحاد السوفييتي, وفجأة ظهرت على السطح طبقة اليونكرز"طبقة صغارالنبلاء المكرسين لنبالة الحرب وهم النسخة الألمانية من الساموراي اليابانية", فاتفقت مع طبقة الصناعيين الكبار على تسليم القيادة إلى الديماغوجي الصاعد المبشر بسمو العرق الآري, ولم يكن هذان العاملان الظاهران السبب في هذا التعاطف مع النازية فقط, بل كان أيضا الجرح الألماني العميق, جرح الشعب الذي لم ينل ما يستحق من مركز قيادي في العالم كما يعتقد بغض النظر عن نوع الحكم السياسي الذي أجبروا على العيش في ظله, وكانوا وهم المهزومون الممنوعون من التسلح الجدير بأمة صناع, دؤوب, مصممة على نيل المكانة التي تستحقها تحت الشمس يحلمون باليوم الذي يستعيدون فيه عزة الدولة الكبرى وكبرياءها, وكان رجال اليونكرز ينفخون في رماد الذلة التي فرضها الحلفاء على المهزومين الألمان, فاندفعوا يعتنقون النازية ويبذلون من أجلها ثرواتهم وشبابهم, وديموقراطيتهم.


هذا العطف المشؤوم الذي رفع هتلر إلى مرتبة الزعيم الأول ليس في ألمانيا فحسب, بل وصل الأمر إلى أن أصبح له أتباع ومناصرون في معظم أوربة المأزومة بالتغيرات الاجتماعية والحضارية والتكنولوجية الجديدة, أوربة التي ستكتب عنهاالكاتبة غيرترود شتاين وعن تلك الفترة فتسمي ذلك الجيل الأوربي بالجيل الضائع, أوربة التي لم تفق من صدمة التغيرات هذه وما نتج عنها من ظهور البروليتاريا المؤذنة بتغيرات التاريخ, ومن سهولة الاتصالات "نسبيا" التي عرفتهم بتململ المارد الأصفر في الصين, ومن إشهاره أي المارد الأصفرأنيابه في اليابان, ومن الحرب الأهلية في اسبانيا بين التروتسكيين الذين سيدلعهم التاريخ المعادي بتسميتهم بالجمهوريين فقط دون أية إشارة إلى رغبتهم الراديكالية في تغيير تاريخ بني البشر, وبين الملكيين المدعومين من الكاثوليكية في العالم كله, ثم القوى الفاشية في العالم, وسيقوم هتلر وقبل غزوه بولنده بقصف القرية التي ستصبح شهيرة" الغورنيكا" والتي سيخلدها بيكاسو بلوحته الشهيرة التي اختصرت أهوال الحرب ودمارها غير المسبوق إلى أن يصل البعث إلى الحكم فيتحف البشرية بمذبحة حلبشة في العراق, ومذبحة زملكا والغوطتين في سوريةالتي ستفوق مجازر الغورنيكا بمراحل.


اليهودي النمساوي غير الصهيوني ستيفان زفايغ , وحين أقول النمساوي فأنا أتحدث عن ابن لواحدة من أهم امبراطوريات أوربة, الامبراطورية النمساوية الهنغارية, والتي استطاعت زمن السلطان سليمان القانوني العثماني أن تصده عن أبواب فيينا, وأن تنقذ اوربة من العثمنة ومن تواصل الامبراطورية العثمانية عبر أوربة الوسطى وصولا إلى أوربة الشرقية عبر بولندة كما كان المشروع..... النمسا هذه كانت البداية للحرب العالمية الأولى, وكانت الخاسر الأكبر من هذه الحرب حيث تقزمت بعد أن كانت الامبراطورية البرية الأكبر والأولى في أوربة, وبعد كونها المشعل الحضاري لأوربة موسيقيا وفكريا وأدبيا, وشعب كهذا لابد أن يكون محتقنا بالرغبة بالثأر لاستعادة الامبراطورية التي كانت" هل يذكرنا هذا بالراغبين باستعادة الامبراطورية الفارسية "ولو على حساب الشعوب المحيطة بها متذرعة بالمذهبية والرغبة في الثأر المذهبي... والمذهب المعني عربي أساسا وهو منهم بريء, ولكن المطلوب أساسا هو استعادة الامبراطورية البارثية والساسانية ولاشيء آخر, ونعود إلى زفايغ والنمسا فقد كان صوت الحزب المنادي باستعادة المجد القديم "هتلر " كان نمسويا أيضا, فحصل على العطف الألماني في كل البلدان والأقاليم الناطقة بالألمانية والثقافة الألمانية....هذا العطف الذي مزجه هتلر بكراهية اليهود وازدراء الأعراق الأخرى حمل الآلاف من اليهود على النجاة بجلودهم بعد فوز هتلر بمنصب الفوهرر, فقد أدركوا أنها النهاية بالنسبة لهم ,فذاكرتهم حافلة بالمجازر والاضطهادات الأوربية لهم, وكان من هؤلاء الذين هربوا إلى أميريكا كاتبنا "ستيفان زفايغ".


كاتب موهوب كزفايغ ما كان له أن يقدم مطالعته للمأساة النمساوية القدرية إلا من خلال حكاية شعبية ...قصة حب وخيبة ومرارة مألوفة وعادية, ولكن زاوية الرؤية هي ما تنقلها من حكاية حب عادية لتتحول إلى حكاية مرارة غير عادية, فهناك ضابط الفرسان الجميل الواعد المرغوب من معظم الصبايا إلا أن الحظ يقذف به إلى بيت رجل ثري جدا, مثقف, محب للموسيقى وحياته أشبه بالكاملة لولا أن لديه ابنة صبية حسناء كسيحة تعزف أجمل الموسيقى ....وتتحدث عن أعظم الأفكار... إنها المرأة الحلم.... وبهدوء يكتشف الضابط الشاب أن لديها مشكلا , إنها مصابة بالشلل, ولكن الأطباء يقولون إن من الممكن لها الشفاء, وهكذا تدخل إلى حياته من باب الشفقة: لقد أشفق على هذا الجمال!و يتردد على البيت مرحبا به من الجميع يدفع كرسيها المدولب, ويستمع إلى صوتها العذب وأفكارها المثقفة , ويقع في غرامها, وما يلبث أن يتقدم للزواج منها, وليصبح العبد الخادم المرافق الدافع للكرسي يفسحها, وينشطها, ويستقيل من الجيش ليتفرغ لها, فثروتها تغنيه عن العمل .


أشفق الشعب الألماني على هتلر والنازية, فتحول إلى كبش الأضحية على مذبح النازيين الطامحين إلى إحياء الموتى من امبراطوريات كسيحة بعد انقضاء زمن الامبراطوريات كما أشفق الضابط الفارس الوسيم على الحسناء المشلولة, فتحول إلى عبد أضاع على مذبحها الكسيح شبابه وطموحه ووسامته ليلقاه الراوي وقد تحول إلى عبد لايملك إلا دفع الكرسي المدولب, وتكون كلمته الخلاصة : إياك والشفقة فقد تكون طريقك إلى الجحيم.


على الجانب السوري وكان السوريون قد استعادوا ديموقراطيتهم في الفترة التي اصطلح البعثيون على تسميتها وتحقيرها تحت اسم الانفصال رغم أنها كانت آخرفترة زاهية في تاريخ سورية, فقد استطاعت سورية فيها استعادة الديموقراطية, وحرية الصحافة, وحرية تشكيل الأحزاب, وحرية التظاهر إلى آخر حقوق الديموقراطية المعروفة , ولكن السوريين ممن لم يكن بعثيا أيضا, والذين سبق لهم أن تنازلوا عن ديموقراطيتهم سعيا وراء الحلم الانقاذي في الوحدة مع مصر, وكان أولئك الساعون وراء الوحدة إنما كانوا يسعون وراءانقاذ السوريين من شرور أنفسهم التي كان البعض يراها رأي العين نتيجة لقراءة التاريخ والجغرافية السوريين قراءة غير منحازة إلى الحاضر, وكان البعض الآخر يراها في صراع الهويات التي لم تتنازل عن أنانيتها في سبيل تحقيق الدولة الحديثة, وقد اجتمعت المجموعتان على أن التخلي عن الديموقراطية في سبيل تحقيق الوحدة مع مصر المحكومة من العسكر صفقة رابحة, فالوحدة مع الأخت الكبرى مصر مع ضياع الديموقراطية لا بأس بها إن كانت النتيجة تحقيق الوحدة, فالخيار الثاني كان الاشتباك الطائفي, أو المناطقي, أو العشائري .


أطلق البعثيون والناصريون على تلك الفترة الزاهية في تاريخ سورية اسم المرحلة الانفصالية, وكأن مرحلة البعث التي طالت حتى فاحت رائحتها قد حققت كل أشكال الوحدة مع الوطن العربي من موريتانيا وحتى الأهواز التي أصبح من الممنوع الحديث عنها في سورية في أيامنا هذه حتى لاتغضب الأم والراعية للنظام السوري المسماة ايران.


أشفق السوريون على البعثيين المداعبين لحلم الوحدة لدى السوريين , فتنازلوا لهم عن الديموقراطية التي استعيدت زمن الانفصال أملا في استعادة الوحدة, فوقعوا تحت نير تحالف البعث والمخابرات والطغمة الفاسدة, وصبروا فالوحدة وعد لابد من تنفيذه, ولكن الوحدة الوحيدة التي يسعى النظام الآن لتنفيذها هي وحدة القوس المذهبي بدءا من افغانستان وحتى البحر المتوسط, أما الوحدة العربية فلم يتحقق منها إلا المقال الشهير الذي نشره محمد حيدر, والذي يخاطب فيه المنادين العراقيين! بالوحدة, فقال: حزبان بعثيان لاحزب واحد, وبدأ عهد العداوات والاستقطابات التي مزقت الوطن العربي, وحولت المدافع والبنادق والسلاح الكيماوي إلى صدور أبناء الوطن.


وصرخ ستيفان زفايغ: احذروا الشفقة على الأحزاب الانتقامية فلو أشفقتم عليها مرة, فستتحولون إلى عبيد لاعمل لكم إلا استنزاف شبابكم وحياتكم لتحقيق أحلام لن تتحققَ!


[email protected]
تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الشخصية الروائية كما أراها

06-شباط-2021

ورنتون وايلدر همنغواي وجهان أصيلان لأميركا

28-تشرين الثاني-2020

مقتطفات فيس بوكية

22-آب-2020

شكوتك إلى الله

15-آب-2020

ثورنتون وايلدر همنغواي وجهان أصيلان لأميركا

09-أيار-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow