Alef Logo
الآن هنا
              

الثورة السورية ومسألة تصحيح المسار

يوسف سلامة

2018-11-10

بعد أن مضى على قيام الثورة السورية -ثورة الحرية والكرامة- ما يزيد عن خمس سنوات، تجد هذه الثورة اليوم نفسها في مواجهة مجموعة من المآزق، التي تُهدّد بضياع كل التضحيات المبذولة من السوريين في سبيل تحررهم، وتُحوّل دماء الشهداء ومآسي النزوح وكوارث اللجوء ودمار البنية التحتية وتعريض البلاد إلى مخاطر التقسيم، إلى شيء من العبث أو ما يشبه العبث.

الغريب في الأمر، أن معظم هذه المآزق لم يصنعها السوريون بأنفسهم، أو لنقل: إن أكثرية السوريين ما كانت تريد للأمور أن تتخذ هذه الوجهة العبثية التي نجح النظام وحلفاؤه والمتحمسون لأسلمة الثورة وعسكرتها في فرضها على مسار الأحداث، الذي أفضى إلى أن بات السوريون مواجَهين بصورتين بشعتين من الإرهاب، عز نظيرهما في التاريخ. وهما إرهاب النظام و”إرهاب الحركات الإسلامية”، ولا سيما “جبهة فتح الشام” و”تنظيم الدولة الإسلامية”.

لم يكن من الصعب على المراقب لسلوك النظام، في تعامله مع مطالب الثورة –حتى عندما لم تكن هذه المطالب قد بلغت حد الدعوة إلى إسقاط النظام بكل رموزه ومؤسساته– أن يتبين امتلاك النظام ما يكفي من الخبرة السياسية والتكتيكية؛ ليختار حلفاءه أولًا، وليصنع خصمه ثانيًا.

واختيار الحلفاء ليس بالأمر الذي يحتاج إلى كبير فطنة، وطول باع في السياسة، طالما أن المصالح يمكن أن تكون الدليل المرشد إلى اختيارهم واصطفائهم؛ وتاريخ العلاقات بين الأسد الأب ونظام ثورة الملالي في إيران، فضلًا عن العلاقات التي ربطت بينه، وبين الحكومات الروسية المتعاقبة، على اختلافها، كان عنصرًا ماثلًا في خيارات النظام، منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة. فإضافة إلى ما يربط بين النظامين: السوري والإيراني من مصالح راهنة، هناك رد الجميل الذي كان على الإيرانيين أن يقدموه للأسد الابن، مكافأة لموقف الأسد الأب، من الاصطفاف إلى جانب نظام الملالي (إبان الحرب الإيرانية – العراقية) بدلًا من السعي إلى إطفاء نار الحرب ودعوة النظامين المستبدين المتحاربين إلى وقف القتال، وتحكيم العقل، وتجنيب الشعبين المظلومين ما ابتليا به من خسائر بشرية ومادية، يصعب تعويضها عبر عشرات السنين.

غير أن النجاح الأعظم الذي حققه النظام، في تصديه للثورة السلمية، يتمثل في إنتاج الخصم الذي يريد قتاله والتصدي له، ودمغه بصفة الإرهاب التي تسوغ للنظام أن يفعل كل ما يريد، لأي تجمع سوري، بذريعة مكافحة الإرهاب؛ وهكذا كانت الخطوة الأولى في بناء الخصم الإرهابي، تتمثل في إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين، من ناحية، وخلق الشروط المواتية تمامًا، من ناحية أخرى، لأن يلعب النظام دورًا حاسمًا في أسلمة الثورة، والانتقال من الأسلمة إلى خلق الشروط الملائمة؛ لإنتاج “كيانات إرهابية” تحت مسمى الحركات الإسلامية، ما يزال أبرزها حتى اليوم (جبهة فتح الشام، وتنظيم الدولة الإسلامية).

ما لم يستطع النظام فعله، في إطار الأسلمة وإنتاج التطرف الديني والمذهبي والطائفي، تكفّل الحلفاء الإقليميون للثورة السورية بإكماله، وصياغته في أبشع صوره الممكنة، بفضل خزائن المال التي ُسمح لهؤلاء الحلفاء بفتح أبوابها وإغداق كثير من خيراتها على تلك “البنى الإرهابية”، بينما لم يُسمح لهم أن يخرجوا من مستودعات أسلحتهم، إلا الكم والكيف الذي يكفي لاستمرار المحرقة. ومهما يكن من أمر، فإن ما فكر فيه الحلفاء الإقليميون من هدية للشعب السوري لا يتجاوز أن يكون استبدال استبداد يدعي أنه دولة مدنية وعلمانية، باستبداد يجسد “أبشع التأويلات” الممكنة لأي دين في العالم، بما في ذلك الإسلام نفسه. بل يمكن القول: إن النسخة التي يمثلها الإخوان المسلمون من الإسلام، لم تكن صالحة لأن تكلف بأداء مثل هذه الأدوار “الإرهابية البشعة”؛ ومع ذلك فقد ظن بعضهم أنه يمكن لهم أن يحاولوا.

وهكذا فإن صناعة “الخصم الإرهابي الإسلامي” جعلت النظام يبدو وكأنه لا يُقاتل ثائرين مطالبين بالعدالة والحرية، بل “إرهابيين ومجرمين ينشرون التعصب والتخلف والقتل والدمار”، حيثما حلوا، بل إن هذه “الكيانات الإرهابية الإسلامية”، تريد العودة بالبشرية إلى “عصور البربرية والظلام”، وممارسة صور العسف ضد كل صور الحرية، حرية الفكر، حرية الفعل، حرية المرأة… إلخ.

وهكذا نجح النظام في خلق قاعدة أيديولوجية، بررت له قتل المدنيين وتدمير البنية التحتية في أروقة اليسار العالمي، بينما سمحت، هذه القاعدة الأيديولوجية ذاتها، للحكومات الغربية الليبرالية، بغض النظر عن جرائم النظام، من خلال منظومة قطع العلاقات الدبلوماسية في العلن، مع مواصلة كل أشكال الاتصال والتواصل مع النظام بزعم تقليدي مألوف، وهو مناهضة الإرهاب والتصدي له في أوروبا والعالم. و”صمت” اليسار العالمي والنظم الليبرالية معًا عن كل شيء يفعله النظام إلا عن ادعائهما بدعم الحرية والديمقراطية في كل مكان.

واليوم هاهم الروس والأميركيون مُتّفقون، من الناحية الاستراتيجية، مختلفون في التوقيتات والتكتيكات، حول أي الأطراف هي الأولى بالتصفية عاجلًا، وأيها يمكن إرجاء تصفيته، ولكن إلى حين، وإلى حين فحسب؛ فالأمر المتفق عليه -بالطبع- هو تصفية الخصوم، أو الخصم الإرهابي المسلح الذي سبق للنظام أن خلق كل الشروط الضرورية لوجوده، ولتحوله إلى قوة ضاربة وعابرة للقارات.

وإذا ما تم إنجاز هذه المهمة -مهمة تصفية “الكيانات الإرهابية الإسلامية” على الأرض السورية– فإن الكيان الإرهابي الأم، سيظل قائمًا وجاثمًا فوق الأرض السورية، يحكمها بالحديد والنار، وعندها ما الذي يستطيع السوريون –نظاماً ومعارضة- فعله آنذاك، وما المقدرات الفعلية التي تملكها الأجسام السياسية السورية التي تعمل، بصورة أساسية، برعاية من الدول الإقليمية، ولابد لهذه الرعاية من أن تترك أثرها السلبي الواضح في الرؤى التي تمتلكها هذه الأجسام حول الحلول السياسية الممكنة.

وإذا ما تمت تصفية هذه “الكيانات الإرهابية”، فإن النظام –من حيث المبدأ– سيستشعر نوعًا من الاستقرار والطمأنينة، بل والإنجاز، ولكن الطمأنينة والاستقرار والإنجاز ستكون مجرد أمور عارضة، بكل تأكيد، ذلك؛ لأن الحلفاء المباشرين للنظام، وغير المباشرين، سيشرعون في المطالبة بالأثمان والحصص والديون، وعلى الأرجح لن يكون النظام في موقع يسمح له بالتوفيق بين متطلبات بقائه، والاستحقاقات المتناقضة التي يتعين عليه أداؤها، ذلك؛ لأن مطالب الأطراف الخارجية متناقضة فيما بينها من ناحية، ومتعارضة، من ناحية أخرى مع ما تتوقعه كتلة المؤيدين الذين قاتلوا مع النظام، وقتل أبناؤهم وترملت نساؤهم.

كل ما قلناه يعني شيئًا واحدًا، هو أن النظام والمعارضة السياسية السورية، محكومان بأشكال تكاد تكون متماثلة من القيود التي تحد من حركتهما وقدرتهما على اتخاذ القرار الحر والمستقل؛ ولذا، فالسؤال الذي لابد من طرحه على الطرفين هو: ما العمل إذن؟

من ناحيتنا، نعتقد أنه ليس هناك إلا إجابتين على هذا السؤال، وإلا فالحرب والدمار سيستمران حتى القضاء على آخر سوري.

تتمثل الإجابة الأولى في إقامة مائدة للتفاوض بحضور الرعاة الدوليين والإقليميين للمعارضة والنظام على حد سواء، وفي هذه الحالة سيكون الخاسر هو سورية والسوريين، بكل تأكيد.

أما الإجابة الثانية الممكنة، فتتمثل في امتلاك الطرفين الجرأة –معارضة ونظامًا– على فك ارتباطاتهما السياسية مع جميع حلفائهما وإنشاء مائدة سورية – سورية؛ للتفاوض منطلقة من تصفير كل التأثيرات الخارجية، إقليمية ودولية، ورفع النتائج التي يتم التوصل إليها بين المتفاوضين، إلى مستوى الإرادة السورية الواحدة أولًا، والانتقال -من ثم- إلى منح هذه المقررات الصفة القانونية الملزمة، ليس للأطراف السورية وحدها، وإنما أيضًا للأطراف الإقليمية والدولية.

من الواضح أن هذا المقترح الأخير، يفترض يقظة أخلاقية لدى جميع السوريين، من شأنها أن تدفع بهم إلى التفكير في المآلات التي ستنتهي إليها كل عائلة سورية، وكل موطن سوري بمفرده، وهذه اليقظة الأخلاقية هي، في النهاية، ذات مضمون سياسي مؤداه: استحالة المواطنة خارج الوطن.

إننا لا نستطيع التوجه إلى النظام، الذي رفض الإنصات إلى صوت المحتجين في بداية الثورة، عندما كانت تسوية الأمور ممكنة سوريًا، والذي أبى الدخول في أي تسوية سياسية لاحقة. فهذا النظام ذو طبيعة “معنّدة”، ومنطقه منطق ثنائي مُدمّر، يعرفه كل السوريين: (الأسد أو نحرق البلد)، ومع ذلك، فقد توجهنا إليه بالنداء قبل سطور؛ ولذا، جدير بنا أن نتوجه إلى الكتلة المؤيدة من المواطنين السوريين، التي رأت في النظام بديلًا أقل سوءًا من مخاطر “الاستبداد الإسلامي”. نتوجه إلى هذه الكتلة؛ لتمارس الضغوط على هذا النظام لصياغة عقد اجتماعي جديد، يتجاوز الاستبدادين معًا، ويفتح الباب لمصالحة سورية شاملة.

كتلة المؤيدين، الذين لم تتلوث أياديهم بدماء السوريين، وكتلة المعارضين الذين لم تتلوث أياديهم وضمائرهم بقطع الرؤوس وجز الأعناق وصلب الأحياء وتجنيد الأطفال، قادرتان على إحداث فرق في المعادلة السورية، لو رُفعت القيود من فوق رؤوسهم، ولم تحل المصالح البغيضة لمختلف الأطراف بينهم وبين أن يفعلوا ما يشاؤون.

سيسيئ كثيرون الظن بما نفكر فيه، فليكن! وسيصف آخرون ما نقوله بالطوباوية، وبأنه صورة من صور نزوع المثقف إلى الحلم، فليكن أيضًا!

ليعلم الجميع أن السياسة، شأنها شأن العلم، فيها متسع عريض للخيال، وكما أن العالم لا يستطيع أن يبدع جديدًا في مجال علمه، ما لم يكن مزودًا بمخيّلة خلاقة، فكذلك هو الحال بالنسبة لرجل السياسة، فما لم يكن قادرًا على تخطي الواقع الرديء بقوة لا مخيلة، فإنه لن يكون قادرًا على بناء واقع جديد موقّت، مطابق لدرجة من درجات تحقق العقل والحرية في الوطن.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow