Alef Logo
كشاف الوراقين
              

"عين الشرق " "إبراهيم الجبين" ... شغفٌ أم فَرْطُ اسْتِذْكار ؟

نزار غالب فليحان

خاص ألف

2018-12-01

على الرغم من اكتظاظ "عين الشرق" بالحكايات ، إلا أنه – و للوهلة الأولى - قد يلتبس أمر تصنيف النص كعمل روائي على من يشرع في قراءته ، لعل مرد الالتباس يكمن في تاريخية الحكايات و انتمائها للواقع المعاش ، ما قد يحيل النص إلى الوثيقة ربما ، و شخصانية محور أساسي في النص ، ما قد يجنح به نحو السيرة الذاتية ، و وضوح الانحياز المبدئي للكاتب إلى صفوف الشعب في مواجهة سلطة قمعية ، ما قد يجعل من النص تعبيراً واضحاً عن موقف ضدي .
لكن الكاتب في ذات الوقت لم يترك مجالاً للحيرة و اللبس من خلال نسج متقن لكل تلك الحكايات عبر تخصيص مساحات لكل حكاية تمتد من بداية النص حتى نهايته في عرض أقرب إلى السينمائي جعل من التوثيق و السيرة الذاتية و اللاحيادية عناصر قوة في النص .
في "عين الشرق" ينطلق إبراهيم الجبين من فكرة ضحالة قيمة الإبداع أمام المشهد الحقيقي المعاش ، لكنه يحاول أن يقنعنا بذات الوقت – و من وجهة نظره - أن كل إبداع قبل العام 2011 ساهم في اللحظة التي أعلنت أن ما بعد العام 2011 لا يشبه ما قبله .
يعرض إبراهيم الجبين حكايا الوطن على شكل مشاهد يشرع في عرض أحدها حتى يصل به إلى لحظة فارقة فيقطعه ليشرع في عرض مشهد آخر ، و كأنك أمام كاميرا و مخرج يتفنن في جذبك و إغراقك في ترقب يزيد متعة القراءة و التشويق ، و تأتلف هذه الحكايا من خلال الرابط الروحي الذي جمعها و من خلال دفء الأمكنة و روائح المدن التي تكاد تتلمس تفاصيلها بين حروف الرواية .
تغص الرواية بالأسماء و القصص و الأمكنة ، كلها حقيقية غير متخيلة عرضها الكاتب في معظمها بأسمائها و تواريخها و أمكنتها التي نعرفها جميعاً ، رماها الكاتب أمام عيوننا ليس فقط لكي ينجز عملاً روائياً ينسب إليه و يقربه أكثر من القارئ و يعزز تجربته الإبداعية ، بل لكي يرسم إشارات استفهام مُلِحَّة و عميقة بعد كل مشهد ، إشارات استفهام تفتح أمامنا آفاقاً عريضة للبحث و الاستقصاء و المعرفة .
يسرد إبراهيم الجبين عبر مشاهده قصة الرسام ناجي القادم من دير الزور إلى دمشق و الذي دأب على الاحتفاظ بتفاصيل البلاد من خلال قصاصات أوراق قبل أن ترمى في سلال المهملات أثناء خدمته في الشعبة الثانية ( مخابرات ) في خمسينيات القرن العشرين ، ناجي الرسام الذي أطلق النار على معارضين سوريين كثر تنفيذاً لأحكام إعدام صدرت من الشعبة ، و لعل أكثر قصاصات ناجي لفتاً للنظر ما يشير إلى أن الشاعر أدونيس كان يعمل في ذات الشعبة ، و قصة أبو القعقاع المتطرف الذي اغتيل العام 2007 ، و قصة إخاد اليهودي الذي هاجر إلى أميركا ثم عاد إلى دمشق مع اندلاع الثورة السورية العام 20 11 باحثاً عن آثار يهودية ، و قصة الحلاق البديري مؤرخ الشام ، و المحامي هائل اليوسفي الذي يقع مكتبه فوق ملهى الكروان و الذي عرض على الكاتب نص القصة الحقيقية للجاسوس الإسرائيلي ( كوهين ) للإعداد لفيلم سينمائي ، و الشاعر الكردي سليم بركات ، و المغنية فيروز ماميش اليهودية ، و اليهودي الياهو ساسون الذي أسس أول جريدة سورية تنشر الفكر القومي العربي ( جريدة الحياة ) ، و قصص من شارع الأدب و الفن و الصحافة لشخصيات بأسماء مستعارة و أخرى حقيقية ، و لعل أكثرها حميمية علاقته بالشاعر العراقي مظفر النواب ، و قصص أخرى عن شخصيات عديدة ، لكن شخصيات مثل ابن تيمية و ابن عربي و عبد القادر الجزائري شكلت محاور رئيسية و اتسعت مساحات مشاهدها ربما لاتساع دائرة الجدل حولها – من جهة أولى - و لمدى تأثيرها سواء في محيطها حين كانت أو بمريديها و جمهورها و تابعيها بعد رحيلها – من جهة ثانية - ، و كذلك يفرد إبراهيم الجبين في روايته مشاهد متخيَّلة للساعات الأخيرة في حياة رئيس البلاد .
مشاهد "عين الشرق" تتجاوز السرد و الحوار و التوثيق لتلعب دوراً حيوياً مؤثراً من خلال إطلاع القارئ على ما لم يكن على دراية به – ربما - ، أو دفعه باتجاه إعادة قراءة ما كان يعرفه من ناحية ثانية ، دوراً حيوياً مؤثراً إذْ تحرض القارئ على إدراك أهمية تفاصيل المكان و مفاصل الزمان ، حدَّ إصابته – أعني القارئ - بعدوى فرط استذكار التفاصيل "الهايبرثيميسيا" المصطلح الذي حرص الكاتب على ذكره كعنوان تفصيلي للرواية .
"عين الشرق" رواية تبدأ كي لا تنتهي ، ذاكرة الحجر و البشر ، عرض خرائط نسب ، رصد وثائق قديمة ، رسم لوحة للمكون الاجتماعي السوري ، تشريح لأمزجة السوريين و الدمشقيين على وجه الخصوص ، نبشٌ في تفاصيل دمشق ، قراءة في كل ملمح من ملامحها من قاسيونها حتى شواهد قبور أهليها ، جدلٌ بين اسْتذكار مفرط للتفاصيل و شغف لا حدود له بالمكان و الأرواح التي تسكنه فوق الأرض و تحتها على حد سواء .
و لعلك بعد أن تسدل الستار على "عين الشرق" ستفكر أول ما تفكر في قراءتها ثانية ، و إذا ما فرغت من قراءتها ، لا بد سوف تحيي ذاكرتك أو تسعى إلى ترميمها بتفاصيل إبراهيم الجبين أو ربما تعيد بناءها من جديد ، لكن من أين تبدأ ؟ من أحياء دمشق الفقيرة ؟ أم من أحيائها المحدثة التي ضُرِبَتْ حولها طوقاً يخنقها ؟ أم من أبوابها ؟ أم من سور قلعتها ؟ أو ربما يدفعك شغفك بمقاهيها لتجعلها نقطة الانطلاق ؟
بعد أن فرغتُ من قراءة "عين الشرق" كان لزاماً عليَّ أن أقرأ "يوميات يهودي من دمشق" التي سبقتها بتسع سنوات ، أثناء قراءتي تلك شعرت بأن إبراهيم الجبين كان أثناء كتابته "يوميات يهودي من دمشق" يخط في مخيلته "عين الشرق" ، و قد انتهج في "يوميات يهودي من دمشق" طريقة العرض ذاتها في "عين الشرق" ، حيث جعل المكان بتفاصيله مسرحاً للنص و بطلاً له ، في حين جعل من الشخوص - أبطال حكاياته - عاملاً مكملاً و ربما العامل الضرورة لبناء البيئة السردية و الحوارية للنص ، و كأن " يوميات يهودي من دمشق" فصلٌ في "عين الشرق" أو ربما "عي� � الشرق" هي "يوميات يهودي من دمشق" حيت اكتملت .
أنهى إبراهيم الجبين روايته "يوميات يهودي من دمشق" بالجملة التالية : ( لم تنتهِ اليوميات و لكنَّ تدوينها النهائي يكتمل الآن في مكان آخر ) ، فكانت "عين الشرق" .
تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

نصوص

06-آذار-2021

أغنيات فيروز بين قراءتها في سياقِها المسرحي وتحليقها في مخيلة المستمع ...

13-شباط-2021

"سلوى النعيمي" ذاتَ بَوْحٍ في "كتاب الأسرار" ...

06-شباط-2021

زاد الخير ... الحلم إذا استبد

29-آب-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow