Alef Logo
الآن هنا
              

الديمقراطية في محنة الامتحان

بدر الدين عرودكي

2018-12-15

يمكن لتظاهرات (السترات الصفراء) التي انطلقت في مختلف مناطق فرنسا، منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، أن تقدّم بعض الدروس الدقيقة والضرورية حول الديمقراطية، بوصفها نسقًا وخبرة وممارسة، التي تواجه، خلال السنوات الأخيرة في أوروبا، بعض أخطر امتحاناتها منذ ثلاثينيات القرن الماضي التي شهدت، بواسطتها، صعود النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا. وهي دروس لا بدّ أن يقرأها جيّدًا من يحسبون، في العالم العربي عمومًا وفي سورية خصوصًا، أن النظام الديمقراطي ينحصر في أو يقتصر على صناديق الاقتراع والانتخابات الحرة؛ أو الذين يتجاهلونها باستهتار، حين يصرون على سلوك نهجهم في استغباء أنفسهم وكل من حولهم، وهم يبثون عبر وسائلهم الإعلامية المرئية صورًا متحركة تظهر الحياة الوديعة في دمشق جنبًا إلى جنب صور مماثلة تبرز النار والدخان و “عنف” الشرطة ضد المتظاهرين في شوارع باريس، في اليوم ذاته؛ أو أيضًا، وربما خصوصًا، من يتشدقون بها، ليلَ نهار، في أحاديثهم أو في كتاباتهم دون أن يمارسوها يومًا حتى ضمن دائرة أسرتهم. ذلك أن ما تعيشه ديمقراطية فرنسا اليوم من احتجاجات شعبية، آخذة في النمو وفي التطور وفي الاتساع على كل المستويات، بات من الصعوبة بمكان مقارنتها، سواء على صعيد الظروف الاقتصادية أو السياسية، مع ما عاشته خلال السنوات التي سبقت استقلال الجزائر، في نهاية خمسينيات وبداية ستينيات القرن الماضي، أو خلال ثورة الطلبة في أيار/ مايو، أو حتى في خريف عام 1995.

لم يكن العنف وسيلة المتظاهرين من أجل استقلال الجزائر أو وسيلة حركة الطلبة الثائرين ذات الطابع السياسي والاجتماعي والثقافي، بل أداة السلطة وحدها، آنئذ، لقمع المتظاهرين. أما اليوم، فهو، إلى جانب ممارسته المعتادة في التظاهرات السلمية من قبل مجموعات قليلة من المشاغبين الدخلاء على المتظاهرين من أجل السرقة والأذى، يُمارس من قبل قطاع من المحتجين الذين ساروا على أثرهم، ولم يترددوا في اللجوء إليه وسيلة لفرض مطالبهم على الحكومة، من أجل الرجوع على قراراتها في فرض الضرائب على أسعار الوقود، ثم احتجاجًا على النظام الضريبي في مجمله كما يمارس اليوم في فرنسا. سوى أن العنف الذي لا بدّ أن يستدعي عنفًا مُقابِلًا يمكن أن يتفاقم من الطرفين، وأن يضع النظام الديمقراطي نفسه على المحكِّ، تحت طائلة خطر انهياره، إن لم تتوفر شروطه الضرورية كاملة.

وإذا كان انطلاق حركة السترات الصفراء، بسبب قرار زيادة الضرائب على أسعار الوقود، انطلاقًا عفويًا اكتسب شعبيته على نطاق واسع في فرنسا بفعل وسائل التواصل الاجتماعي؛ فإنه تطور خلال أسابيع ثلاثة إلى حركة احتجاج واسعة ضد النظام الضريبي غير العادل، وانخفاض مستوى القدرة الشرائية لدى المواطن الفرنسي العادي، ورفض رفع الحد الأدنى للأجور. ولأنها كانت حركة خارج الأحزاب وخارج النقابات التقليدية، فقد حاول، بوجه خاص، كلّ واحد من حزبيْ المعارضة الشعبوييْن، في أقصى اليسار وفي أقصى اليمين، استثمار هذا الاحتجاج الواسع وتجييره لمصلحته، عبثًا. لكن ذلك لم ولن يحول دونهما ودون التسلل في صفوف الحركة التي رغم أنها لم تفرز ممثلين لها للتعبير عن مطالبها، أو لم تنتخب قيادة تعمل على صوغ مطالبها، ولم تتمكن بالتالي من التعبير عن نفسها إلا في الشارع وفي التمركز عند مداخل المدن المختلفة، باتت، ولا سيّما في تظاهرتها الأسبوعية، تشكل خطرًا تخشاه الحكومة بسبب العنف الذي رافق التجمع الذي شهدته باريس في الأول من الشهر الحالي، في شارع الشانزيليزيه. ذلك أن أفرادها الذين باتوا هدف الأجهزة الإعلامية، على اختلاف انتماءاتها وأيديولوجياتها، يتفاوتون في التعبير عن مطالبهم بل يختلفون في تحديد أولوياتهم. لكن هذا الاختلاف في تحديد الأولويات، وغياب الممثلين الذين يمكن أن يفاوضوا ممثلي الحكومة حول مطالبهم فاقم من خطر تحول هذه الحركة إلى ثورة عارمة، يمكن أن تفضي إما إلى إسقاط رئيس الجمهورية وحكومته، أي إلى انقلاب على قوانين الجمهورية الديمقراطية ذاتها، وإما إلى لجوء الرئيس والحكومة معًا، للحيلولة دون ذلك، إلى فرض حالة الطوارئ، وفي كلتا الحالتيْن إلى تعريض الديمقراطية لهزّة عنيفة قد تودي بها، إذا ما تمكن اليمين المتطرف أو ما يسمى يسار اليسار، الشعبوييْن، من الوصول إلى السلطة.

لا شكَّ أن الديمقراطية في فرنسا تجتاز اليوم امتحانًا شديد الخطورة والوضوح معًا. تحدث وزير الداخلية عن اللجوء إلى فرض حالة الطوارئ؛ ولم تكن جملة عابرة، تلك التي قالها مسؤول حكومي معلقًا على العنف الذي غلب على مظاهرة يوم الأول من كانون الأول/ ديسمبر: هم كانوا يستخدمون العنف بلا حدود؛ أما نحن، فقد كانت لدينا حدود، تلك التي تفرضها قوانين الديمقراطية. كان لدى السلطة أدواتها التقليدية: الغاز المسيل للدموع والاعتقال والإحالة إلى المحاكم. سوى أنها لا تستطيع الأمر بإطلاق النار على المتظاهرين حتى على سبيل الإنذار (كما حدث في سورية مثلًا). ولا يسعها اعتقال أحدٍ دون القيام بإحالته على القضاء أو الإفراج عنه. وفي الإعلام، تكرِّرُ السلطة يوميًا احترامَها لحق التظاهر السلمي، وتطلق الدعوات للحوار.

هنا تبدو متطلبات الممارسة الديمقراطية وشروطها الموضوعية. إذ من كان يتخيل لحظة واحدة أن رفع أسعار الوقود، عن طريق زيادة الرسوم عليها، سوف يطلق حركة احتجاج تتسع كل يوم في مطالبها، وتكتسب مزيدًا من الدعم الشعبي لها حتى لتكاد تنقلب إلى ثورة عارمة ضد نظام بأكمله؟ ومن كان يتصور أن الحكومة التي لم تكف عن الإعلان أنها لن تحيد عن خط الإصلاحات التي التزمت بها أمام الناخبين سوف تتراجع شيئًا فشيئًا، خلال ثلاثة أسابيع، حتى فقد تراجعُها، الذي تمثل في إلغاء قرار الرسوم على الوقود، كلَّ أثر على المتظاهرين الذين اعتبروه مجرد فتات يلقى إليهم، رغم أن هذا الإلغاء كان يعني فقدان الدولة ملياري يورو سنويًا؟ لا شك أن القوانين تضع الحدود والقيود مثلما تحدد الحقوق والواجبات. لكنها تتطلب أيضًا ما يتجاوز ذلك، ولا سيما عند الأزمات غير المتوقعة التي توشك أن تودي بكل شيء عند استفحالها. فالخبرة التي يتمتع بها الحاكم، ومعارفه، وقدرته على الإحاطة بالمشكلة، وعلى اتخاذ القرار المناسب في اللحظة المناسبة، لا تفرضها القوانين طبعًا، لكن غيابها لا بدَّ أن يحمل الناخبين على سحب الثقة ممن انتخبوه، وعلى المطالبة برحيله ما دام عاجزًا لسبب أو لآخر عن القيام بما انتخب لأجله أو على أن يتوقعوا استقالته.

هو ذا المعنى الذي يبدو أنه يشع من حركة السترات الصفراء: ما لم تستطع الحكومة الحالية، بدءًا برئيس الجمهورية، الخروج من هذا المأزق الذي وضعتها فيه هذه الحركة الشعبية الواسعة، فلن يكون عليها إلا الرحيل، لا استجابة، بالضرورة، للمطلب الأقصى لجماهير المتظاهرين، بل لفشلها في أداء المهمة التي انتخبت لأجلها. وهو ما قد يعني نهاية الديمقراطية في فرنسا، ولا سيما إذا ما أدى ذلك إلى وصول اليمين المتطرف أو اليسار المتطرف إلى السلطة.

وربما كان دانييل كوهن بنديت، أحد أشهر ممثلي حركة الطلبة في أيار/ مايو 1968، على حق، حين قال في تحليله لظاهرة السترات الصفراء: “كنا نقاوم ضد جنرال في السلطة. أما أصحاب السترات الصفراء اليوم فهم يطالبون بجنرال كي يستلم السلطة!”.
تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

في تحية يوسف إدريس… خمسون عامًا

22-شباط-2020

الكاتب مشروع قانون / حوار مع يوسف إدريس

25-كانون الثاني-2020

/إيران: هل اقتربت الساعة؟

30-تشرين الثاني-2019

أوهام “الانتصار” وحقيقة الهزيمة

26-تشرين الأول-2019

المسرح، والسياسة، والتأريخ أبو خليل القباني الدمشقي

03-آب-2019

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow