Alef Logo
ضفـاف
              

التوت – فارلام شالاموف

ألف

2018-12-22

قال فادييف:"انتظر قليلا، سأتكلم معه بنفسي". ثم اقترب مني ووجه نحو رأسي طرف بندقيته. كنت مستلقيا على الثلج، وذراعاي حول عمود كان على كتفي ولكن أسقطته. ولم يكن بوسعي رفعه أو العودة لمكاني بين رتل الرجال الذي ينحدر على سفوح الجبل.

كل رجل وضع على كتفيه عمودا. "قطعة من خشب الوقود"، بعضها كبير بالحجم، وبعضها أصغر. وكلهم كانوا يتعجلون العودة إلى البيت باكرا، السجناء والحراس، كل منهم كان يرغب بالطعام والنوم. وكلهم كانوا قانطين تماما من يوم الشتاء الذي لا ينتهي. وهناك، كنت أستلقي على الثلج.

كان فادييف يستعمل دائما الصيغ المهذبة في كلامه مع السجناء.

قال:"اسمع أيها العجوز، لا أستطيع أن أفهم أن عملاقا مثلك لا يمكنه حمل قطعة خشب صغيرة بهذا الحجم، يمكن أن تقول إنها عصا. من الواضح أنك شرير أيها الفاشي. حينما تكون أمنا الارض في حرب ضد الأعداء، عليك أن تتحرك وتضغط على نفسك لأداء الواجب".

قال:"أنا لست فاشيا. بل رجلا مريضا وجائعا. أنت هو الفاشي. اقرأ في الصحف كيف يقتل الفاشيون العجائز. لا تنس أن تروي للبنت التي تزمع على الزواج منها ماذا فعلت في كوليما".

لم أهتم. لم أكن أحتمل هؤلاء الأشخاص بوجناتهم الوردية، والمتعافين، وجيدي التغذية وذوي القيافة المتعالية. ثم لم أكن خائفا. تكورت على نفسي لحماية بطني، ولكن بفعل الغريزة التي ورثتها عن أسلافي منذ العصر الحجري: لم أكن أخشى أن يضربني أحد في بطني. ثم ركلني فادييف بالبوط على ظهري. وفجأة انتشر الوجع بأوصالي. ولم أشعر بالألم. إذا مت، سيكون هذا أفضل لي.

ثم قلبني على قفاي بمقدمة حذائه وقال:"اسمع. كنت أعمل مع أشخاص مثلك لبعض الوقت، وأنا أعرف نوعك".

وجاء حارس آخر يدعى سيروشابكا. وقال:"حسنا، أرني وجهك لأتذكرك. كم أنت فظيع وبشع. غدا سأطلق عليك النار شخصيا. هل فهمتني؟".

نهضت وبصقت الدم المالح واللعاب وقلت:"فهمت".

سحبت العمود على الأرض بينما رفاقي السجناء يسخرون مني بعويل صاخب، وكانوا يزعقون ويشتمون. ولبثوا جامدين طوال الوقت الذي أتلقى فيه الضربات.

في اليوم التالي قادنا سيروشابكا للعمل في غابة تعرضت للنهب في الشتاء الماضي. وكان علينا جمع أي شيء يمكن حرقه في المواقد الحديدية للتدفئة في هذا الشتاء. وبما أن الغابة تحت رحمة الشتاء، كانت الجذوع عالية. اقتلعناها من الأرض باستعمال عتلات وأسلاك، ثم نشرناها وخزنّاها. علق سيروشابكا بعض الحزم للإشارة بعد أن حصل عليها من الأشجار القليلة المتبقية في مكان العمل. وبحزم القش الأصفر والرمادي أشار لمنطقة يحرّم علينا اجتيازها. ثم أشعل قائدنا نارا على مرتفع ليراها سيروشابكا - كان من المسموح للحرس فقط إشعال النار خلال ساعات العمل - وأحضر له أيضا مؤونة من حطب الوقود.

كانت الرياح تجرف الثلوج بعيدا. والعشب الميت المغطى بالجليد يسبب الانزلاق ويبدل لونه عند التلامس مع يد البشر. وكانت نباتات الجبال المنخفضة متجمدة عند التلال. وكان لتوتها الأسود البنفسجي المتجمد رائحة غريبة. وكان التوت البري أزرق رماديا، ومغطى بالجليد وناضجا. ومذاقه مر بالمقارنة مع شجيرات السفوح. كان التوت البري يتدلى من أغصان قصيرة ومستقيمة، وزرقاء براقة، ومتجعدة مثل جزادين جلدية فارغة، ولكنها تحتوي على عصارة زرقاء مسودة وداكنة لها مذاق غير معروف.

في هذا الوقت من السنة، يكون التوت المتجلد مختلفا تماما عن التوت الناضج الغني بالعصارة. ويكون مذاقه أوضح.

اعتاد رفيقي رايباكوف على جمع التوت في إناء زجاجي كلما حصلنا على استراحة لتدخين السجائر وكلما غض سيروشابكا النظر عنا. وإذا جمع رايباكوف ملء إناء، يقدم له الحارس الطباخ الخبز مقابل ذلك. وسرعان ما أصبحت تجارة رايباكوف هامة عنده.

إنما لم يكن لدي زبون مثله، لذلك كنت ألتهم التوت بنفسي، وكان لساني يضغط بتأن وحذق كل ثمرة بحلقي. وكان العطر العذب للعصير بعد أن ينبجس من مسحوق التوت يسكرني لبعض الوقت. و لم أفكر ولو مرة بمساعدة رايباكوف في جمع التوت، فهو سيرفض العرض، حتى لا يقاسمني حصته من الخبز.

وكان إناء رايباكوف الزجاجي يمتلئ ببطء، ولكن يصعب عليه مع الوقت العثور على التوت، إنما دون أن يلاحظ، اقتربنا من حدود منطقتنا. فقد كانت العلامات معلقة فوق رؤوسنا.

قلت لرايباكوف:"احذر. هيا بنا نعود أدراجنا".

كانت أمامنا هناك مروج مغطاة بالشجيرات، والتوت البري، والعنبية. وقد رأينا هذه المروج من قبل. ولم يكن يضر بنا لو أن الاشجار التي تتدلى منها حزمة العلامات على مبعدة مترين.

أشار رايباكوف لإنائه، والذي لم يمتلئ بعد، ثم للشمس، والتي كانت تغيب، وبدأ يقترب من التوت المفتون بالطبيعة.

وهنا سمعنا صوتا جافا من بارودة، ثم سقط رايبكوف على وجهه بين الأعشاب. أشار سيروشابكا ببارودته وصاح:"اتركه حيث هو، ولا تقترب". وأعاد تلقيم بارودته بصوت معدني وأطلق رصاصة أخرى. وكنا نعلم معنى الطلقة الثانية. ومثلنا كان يعلم سيروشابكا. من المفروض أن تنطلق رصاصتان: الأولى للتحذير.

استمر رايباكوف مضجعا بين الأعشاب. وظهر ضئيلا على نحو غريب. لكن السماء والجبال والنهر كانت تبدو واسعة وعظيمة: والله وحده يعلم كم من الأشخاص ماتوا في هذا الممر الذي شقته الأقدام بين الأعشاب على هذه السفوح الجبلية.

تدحرج إناء رايباكوف لمسافة ما، ولكن نجحت بالتقاطه وحمله في جيبي. ربما سيمكنني الحصول على خبز مقابل هذا التوت: فقد كنت أعلم لمصلحة من يجمع رايباكوف الثمار.

نظم سيروشابكا بهدوء كتيبتنا الصغيرة، وأحصانا، وأعطى الأوامر، وقادنا نحو مكاننا.

ولامس كتفي بطرف بارودته. فالتفت نحوه. فقال:"كنت أنوي أن أرديك أنت، ولكنك حافظت على رأسك منخفضا، أيها اللعين!".

1959


فارلام شالاموف Varlam Shalamov: كاتب سوفييتي معارض توفي في موسكو عام 1982 بعد سنوات من الاعتقال. والترجمة لفصل من روايته (قصص كوليما).


ترجمة: صالح الرزوق

































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow