Alef Logo
دراسات
              

عصر الملوكية

فراس الســواح

2019-03-30

بعد أن وصف لنا محرّر سفر القضاة الحرب الأهلية التي كادت أن تفني قبيلة بنيامين، وما آلت إليه حال القبائل من فرقة وتحلّل على الصعيد السياسي والاجتماعي والأخلاقي، ختم المحرّر سرديته بالقول: “في تلك الأيام لم يكن ملكٌ في إسرائيل. كلّ واحد عَمِل ما حَسُن في عينيه.” وهو في ذلك يُمهّد للطلب الذي تقدّم به الشعب بعد ذلك إلى النبيّ صموئيل قائلين: “فالآن اجعل لنا ملكاً يقضي لنا كسائر الشعوب.” (1صموئيل 8: 5).
وَليَ صموئيل كرسي القضاء عن عالي الكاهن في بلدة شلوة حيث مقام الربّ. وكان القضاء قد فَسُد في أيام عالي، لاسيما عندما شاخ وأوكل جزءاً من مهامّه إلى ولديه اللذين كانا يستوليان على لحوم القرابين ويتحرّشان بالنساء المجتمعات في باب خيمة الاجتماع حيث تابوت العهد. وكان صموئيل قد التحق بالكاهن عالي وهو صبيّ صغير من أجل خدمة الربّ، لأنّ والديه نذراه للربّ منذ حملت به أمّه بعد فترة طويلة من العقم. وكانت كلمة الربّ عزيزة في تلك الأيام، ولكنه خصّ بها صموئيل الصبيّ وأخبره بأنه سيقضي على بيت عالي من أجل الشرّ الذي يعلم أنّ بنيه قد أوجبوا به اللعنة على أنفسهم ولم يردعهم. وكبر صموئيل وكان الربّ معه، وعرف جميع إسرائيل أنّ صموئيل صار نبيّاً للربّ (1صموئيل: 2 – 3).
وقضى صموئيل لإسرائيل كل أيام حياته، وعندما شاخ جعل من ابنيه قاضيين أيضاً، ولكنّهما لم يسلكا في طريقه بل مالا إلى المكسب وأخذ الرشوة. فاجتمع كلّ شيوخ إسرائيل وجاؤوا إلى صموئيل وقالوا له: “هو ذا أنت قد شخت وابناك لم يسيرا في طريقك، فالآن اجعل لنا ملكاً يقضي لنا كسائر الشعوب. فساء الأمر في عيني صموئيل وصلّى إلى الربّ. فقال الربّ لصموئيل: اسمع لصوت الشعب في كلّ ما يقولون لك، لأنهم لم يرفضوك بل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم… فكلّم صموئيل الشعب الذين طلبوا منه ملكاً بجميع كلام الربّ وقال: هذا يكون قضاء الملك الذي يملك عليكم يأخذ بنيكم ويجعلهم لنفسه لمركّباته وفرسانه… ويأخذ بناتكم عطّارات وطبّاخات وخبّازات… ويأخذ من كرومكم وزيتونكم أجودها ويعطيها لعبيده… فتصرخون في ذلك اليوم من وجه ملككم الذي اخترتموه لأنفسكم فلا يستجيب لكم الربّ. فأبى الشعب أن يسمعوا لصوت صموئيل وقالوا: لا بل يكون علينا ملك… فسمع صموئيل كل كلام الشعب وتكلم به في أذني الربّ. فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوتهم وملّك عليهم ملكاً.” (1 صموئيل: 8). وكانت هذه هي المقدمات التي جاءت بشاؤل إلى الحكم كأول ملك على إسرائيل.
ولكنّ الدولة المركزية الناضجة لا تتأسّس بين عشية وضحاها. ولذلك فقد بقيت دولة شاؤل أقرب إلى المشيخة منها إلى الدولة الحقيقية. فلم يكن فيها مؤسسات للإدارة المركزية، أو بيروقراطية خبيرة ومدرّبة، أو جيش نظاميّ محترف. ولا تدلّ المكتشفات الأثرية على أن الكتابة قد استعملت بعدُ في شؤون الدولة، كما أن الضرائب لم تكن قد فُرضت بعد، ولهذا فإنّ موارد شاؤل أوّل ملوك إسرائيل لم تكن تتعدّى أملاكه الخاصة وما يأتيه من هبات وهدايا. وقد بقي شاؤل في بيته القديم في بلدته جبعة، واستعان بأفراد أسرته المقربين لملء المناصب الحساسة، مثل عمّه أبنير الذي عهد إليه بقيادة الجيش، وابنه الأكبر يوناثان وابناه الآخران يشُوي وملكيشوع.
بعد أن تلقى صموئيل أمر الربّ بتعيين ملك على الشعب، كان عليه أن ينتظر الوحي بخصوص الرجل المختار الذي سيمسحه بالزيت المقدّس ليغدو مسيحاً للربّ وملكاً على إسرائيل. وطقس المسح بالزيت المقدس استنّه يهوه لموسى في سيناء، وعلّمه كيفية تحضيره والمواد الداخلة في تركيبه، وأمره أن يمسح به الأثاث الطقسيّ لخيمة المسكن ليقدّسها، وهارون وبنيه ليقدّسهم كهنة له. ومنع على أحد أن يصنع مثله أو يضع منه على نفسه تحت طائلة الموت (الخروج 30: 22 – 33).
وكان رجل من قبيلة بنيامين جبار بأسٍ اسمه قيس بن أبيئيل، وكان له ابن اسمه شاؤل، شابّ حسن الصورة لا يوجد في بني إسرائيل أحسن منه، وكان أطول قامة من كلّ الشعب. فضلَّت له أُتنٌ فقال لابنه شاؤل أن يأخذ معه واحدا من الغلمان ويذهب للتفتيش عنها. فعبر شاؤل أرض بنيامين كلها فلم يجدها حتى وصل إلى الرامة مقرّ النبي صموئيل. فقال له الغلام: هو ذا رجل الله في هذه المدينة، فلنذهب إليه علّه يخبرنا عن الطريق الذي نسلكه. وفيما هما آتيان في وسط المدينة إذا بصموئيل خارج للقائهما وهو في طريقه ليصعد إلى المرتَفعة(). وكان الربّ قد كشف أُذُن صموئيل قائلاً: غداً في مثل الآن أرسل لك رجلاً من أرض بنيامين، فامسحه رئيساً لشعبي إسرائيل فيخلّصهم من يد الفلسطينيين. فلما رأى صموئيل شاؤل قال له الربّ: هو ذا الرجل الذي كلّمتك عنه. فتقدّم شاؤل إلى صموئيل وقال له: أطلبُ إليك، أخبرني أين بيت الرائي (= النبي)؟ فأجابه صموئيل قائلاً: أنا الرائي. اصعدا أمامي إلى المرتفعة فتأكلا معي (لأن اليوم ذبيحة للشعب على المرتفعة) ثم أطلقك صباحاً. وفي صباح اليوم التالي دعا صموئيل شاؤل وقال له: قل لغلامك أن يعبر قدامنا، وأما أنت فقف الآن فأُسمعك كلام الله. ولما عبر الغلام أخذ صموئيل قنينة الدهن المقدّس وصبّ منها على رأسه وقبّله وقال: لأنّ الربّ قد مسحك على ميراثه رئيساً().
بعد ذلك كان لا بدّ من إعلان الخبر إلى جميع القبائل، فدعاهم صموئيل إلى الربّ في بلدة المصفاة وقال لبني إسرائيل هكذا يقول الربّ إله إسرائيل: إنّي أصعدتُ بني إسرائيل من مصر وأنقذتكم من يد المصريين، وأنتم قد رفضتم اليوم إلهكم وقلتم له بل تجعل علينا ملكاً. فالآن امثلوا أمام الربّ حسب أسباطكم وألوفكم. فقدّم صموئيل جميع أسباط إسرائيل إلى الربّ فاختار سبط بنيامين، ثم قدّم سبط بنيامين حسب عشائره فأخذ عشيرة مطري، ومن عشيرة مطري أخذ شاؤل بن قيس. فوقف شاؤل بين الشعب فكان أطول قامة من كل الشعب، فقال صموئيل: أَرأيتم الذي اختاره الربّ؟ إنه ليس مثله في جميع الشعب. فهتف الجميع وقالوا: ليحيى الملك. فكلّم صموئيل الشعب بقضاء المملكة وكتبه في سفر ووضعه أمام الرب، وأطلق صموئيل جميع الشعب فذهب كل واحد إلى بيته. وقال صموئيل لشاؤل أن ينتظره بعد سبعة أيام في الجلجال لكي يأتي ويذبح ويُصعب محرقات ويُعلّمه ماذا يفعل (1 صموئيل: 9 – 10).
واختار شاؤل ثلاثة آلاف من إسرائيل فكان ألفان مع شاؤل وألف مع ابنه يوناثان. فمضى يوناثان وضرب أنصاباً للفلسطينيين كانوا قد نصبوها في جبع. فلما سمع الفلسطينيون تجمعوا لمحاربة إسرائيل، فارتعد الشعب كله. وكان شاؤل في الجلجال ينتظر مجيء صموئيل فمضت الأيام السبعة ولم يأتِ صموئيل لكي يذبح ويُصعد محرقات، فما كان من شاؤل إلا أن ذبح بنفسه وأوقد وأصعد محرقات للربّ. ولما انتهى إذا بصموئيل مقبل، فخرج شاؤل للقائه وتلقي بركاته. فقال له صموئيل: ماذا فعلت؟ فقال شاؤل: لأني رأيت أن الشعب قد تفرّق عني وأنت لم تأتِ في الميعاد والفلسطينيون متجمّعون في مخماس، فقلت الآن ينزل الفلسطينيون إليّ في الجلجال قبل أن أتضرّع لوجه الربّ فأصعدتُ محرقة. فقال صموئيل لشاؤل: لقد انحمقت. لم تحفظ وصية الربّ إلهك التي أمرك بها. لأنه الآن كان الربّ قد ثبّت مملكتك على إسرائيل إلى الأبد، أما الآن فمملكتك لا تقوم، قد انتخب الربّ لنفسه رجلاً حسب قلبه وأمره أن يترأّس على شعبه.
وهكذا حكم الربّ على مُلك شاؤل بالزوال قبل أن يبدأ، ولكن هذا الحكم كان مؤجلاً. ولسوف يدخل يهوه وشاؤل في علاقة متوترة دامت لعشرين سنة قادمة كان خلالها شاؤل يصارع ضد قدره ومصيره المشؤوم. ولكن ما طبيعة الخطيئة التي ارتكبها شاؤل؟ لقد أراد أن يفعل ما هو حسن في عينه لا ما هو حسن في عين الربّ، على ما سنرى في بقية سيرته التراجيدية.
فقد أتى شاؤل إلى الجلجال ليعدّ العدّة لصد هجوم الفلسطينيين المتوقع في أية لحظة، وانتظر وصول صموئيل في الموعد الذي حدده له، لكي يقدم ذبائح السلامة ويصعد محرقات للربّ على ما جرت عليه العادة قبل التوجّه إلى القتال، وهي مهمة يقوم بها الكاهن أو النبي. ولكن صموئيل تأخر، وكان شاؤل في ضيق وقد بدأ أتباعه بالتفرق عنه خوفاً من الفلسطينيين، فعمل ما حسُن في عينيه وباشر بنفسه تقديم الذبائح وإصعاد المحارق، متعدياً بذلك على صلاحيات صموئيل ومرتكباً خطيئة في عين الربّ، لأنّ الربّ يطلب الطاعة المطلقة بصرف النظر عن الظروف والملابسات التي قد تدعو إلى التهاون فيها. ومطلب يهوه في الطاعة المطلقة يتخذ هنا طابعاً أكثر حدة، لأن مطلب الشعب في إقامة ملك عليهم كان يحمل في عيني يهوه نوعاً من الرفض لحكمه، ولذلك فقد ذكّرهم على لسان صموئيل بالتزام طاعته هم وملكهم، لأن وجود ملك لا يعني ازدواجية السلطة، والحاكم الوحيد للشعب يبقى يهوه وليس الملك. قال لهم صموئيل: “هوذا الربّ قد جعل عليكم ملكاً إن اتقيتم الربّ وعبدتموه وسمعتم صوته ولم تعصوا قول الربّ، وكنتم أنتم والملك الذي يملك عليكم أيضاً وراء الربّ إلهكم. وإن لم تسمعوا صوت الربّ بل عصيتم قوله، تكن يد الربّ عليكم كما كانت على آبائكم.” (1 صموئيل 12: 13 – 15). ولكن ها هو الملك في ابتداء حكمه لا يصغي لصوت الربّ ويعمل ما حسن في عينيه.
إن السؤال الذي يطرح نفسه بعد ظهور بوادر هذه الازدواجية في السلطة هو: هل ما ارتأى شاؤل أنه حسن في عينه كان حسناً للشعب وفق معطيات الظرف؟ والجواب الضمني الذي تقدمه لنا ملابسات القصة هو: نعم. فقد كان شاؤل مضطراً إلى الإسراع في إقامة الطقوس والبدء بالعمليات العسكرية، ولم يكن ليخاطر بانتظار صموئيل أكثر من ذلك. ولكن ما هو حسن في عين الناس ليس بالضرورة حسناً في عين الربّ الذي اعتبر نفسه فوق معايير البشر في الخطأ والصواب وعليهم ألا يتوقعوا منه أيّ التزام أخلاقي، على ما بيّنت لنا سيرته حتى الآن. فعندما اختار إبراهيم ليعقد معه العهد ويجعله “أبا لجمهور من الأمم”، لم يفعل ذلك لأن إبراهيم كان أفضل الناس خُلقاً (على ما تكشفت عنه سيرته اللاحقة). وعندما أمره أن يذبح ابنه قرباناً له لم يكن معنياً بمحنته وهو يسوق الغلام إلى جبل الموريا ليصعده محرقة هناك، بقدر ما كان معيناً بمعرفة مدى التزامه بالطاعة المطلقة. وبعد ذلك فضل يعقوب الغشاش والمخادع على عيسو الشهم والنبيل، ولم تكن قصة خداع يعقوب لأبيه إسحاق وهو على فراش الموت إلا من تأليف يهوه وتنفيذه. ثم إنه ابتلى يعقوب في شيخوخته بابنه المفضل يوسف، وسكت على جريمة الإخوة بحق أخيهم، لكي يذهب ببني إسرائيل إلى مصر وفق خطته المدبرة سلفاً. ولذلك عندما أعلن الإخوة ليوسف في مصر عن ندمهم عما بدر منهم تجاهه، أفهمهم يوسف بأنه لا داعي لندمهم قائلاً: “ليس أنتم أرسلتموني إلى هنا بل الله.” (التكوين 45: 8). وعندما أرسل الكوارث العشر على المصريين وتوَّجها بقتل كل أبكارهم في ليلة واحدة، لم يفعل ذلك لأن المصريين قوم أشرار، ولم يحرّر بني إسرائيل لأنّهم قوم أخيار.
إن العدالة والأخلاق مفهومان غائبان عن تفكير يهوه وسلوكه، وهو جاهز دوماً لأن يدوس على حياة البشر وسعادتهم، على ما فعله ما الرجل الصالح أيوب. فقد دخل في رهان مع الشيطان عدو البشر، ليعرف ما إذا كان أيوب يتقي الربّ مجاناً أم لأنه أوسع له في ماله وماشيته ونسله. فأخذ يُنزل به الكوارث واحدة بعد أخرى ليرى هل يكفر بربّه أم يبقى على برّه. فقد سُرقت قطعانه وسقط البيت على أولاده فماتوا جميعاً، أما هو فقد ضُرب بقروح رديئة في جميع أنحاء جسده، فجلس في وسط رماد بيته المهدم يَحُكُّ جسده بقطعة حجر. وفي كل هذا لم يخطئ أيوب ولم ينسب لربّه جهالة، ولكنه كان يطلب العدل: “لا تستذنبني. أفهمني لماذا تخاصمني. أحسنٌ عندك أن تظلم، أن ترذل عمل يديك وتُشرق على مشورة الأشرار؟” (أيوب 10: 3). “أيكون الإنسان أبرّ من الله؟ أم الرجل أطهر من خالقه؟” (أيوب 4: 17). ولكنَّ من يرفع أيوب إليه شكاته ليس إلا الخصم والحكم: “إن كان من جهة قوة القوي يقول: هأنذا. وإن كان من جهة القضاء يقول: من يحاكمني. إن تبررتُ يحكم على فمي، وإن كنتُ كاملاً يستذنبني… لذلك قلتُ: الكامل والشرير هو يفنيهما.” (أيوب 9: 19 – 22). وكان الدرس الذي تعلّمه أيوب في النهاية هو أنّ رضى هذا الإله لا يُنال بالبر والإحسان وإنما بالخوف والخضوع، لأنه ظاهرة طبيعانية غير واعية لا يمكن الحكم عليها أخلاقياً، وبالتالي فإن التعامل معه لا يكون إلا بالرياء والمداهنة. ولذلك فقد نطق أيوب بالقول الذي أنهى محنته: “قد نطقتُ بعجائب فوقي لم أعرفها… بسمع الأذن قد سمعتُ عنك، والآن رأتك عيني. لذلك أُنكر مقالتي وأندم في التراب والرماد.” (أيوب 42: 3 – 6). وهكذا رضي البطل بمصيره وتوقف عن مطلبه في العدالة وتذكير الربّ بها. وبهذه الطريقة انتهت العلاقة المتوترة بين الطرفين، وأعاد الرب لأيوب صحته وأملاكه ومنّ عليه بنسل جديد. لقد ربح يهوه الرهان وخسر الشيطان، لأن الشيطان راهن على كبرياء أيوب الإنساني، ولكن أيوب على علمه بتفوقه الأخلاقي على إلهه تخلى عن هذا الكبرياء، وأظهر ليهوه ما يحب أن يراه في الإنسان، أي: عبد يهوه.
على أن العلاقة بين شاؤل ويهوه كانت أكثر حساسية وتعقيداً. فشاؤل كان ملك إسرائيل وبالتالي فإن سلوكه المنفلت عن رقابة الرب الذي يعتبر نفسه الملك الوحيد لإسرائيل، لا ينعكس عليه كفرد بل على الشعب بكامله وعلى علاقة هذه الشعب بالرب. لقد أخطأ شاؤل في عين الرب ولكنه لم يعتبر نفسه مخطئاً، ولسوف يكرر هذا الخطأ (إن جاز التعبير) على ما سنرى بعد قليل. وبدلاً من أن “يندم في التراب والرماد” على طريقة أيوب، فقد وقف عند حقه في الاختيار وفي أن يفعل ما هو حسن في عينه بصرف النظر عن العواقب المترتبة على ذلك. وعندما سمع من صموئيل قرار الربّ بنزع الملوكية عنه، لم يعلق على هذا القرار وإنما تابع القيام بمهامه كملك وأعدّ العدّة لمواجهة الفلسطينيين. وبذلك فقد اختار الدخول في صراع مع قوّة أعلى منه وخسر في النهاية. وهذا ما يعجل منه نموذجاً للبطل التراجيدي. إنه يشبه بروميثيوس التيتاني في الميثولوجيا الإغريقية، الذي سرق النار الإلهية ووهبها للبشر من أجل نقلهم من حالة الوحشية والبداءة التي كانوا عليها إلى الحضارة، ولكن كبير الآلهة زيوس الذي كان راغباً في إبقاء البشرية على جهلها وتخلفها عاقبه بأن يبقى مقيداً إلى صخرة في جبال القوقاز وسلط عليه نسراً ينهش كبده ليلاً ونهاراً وإلى ما لا نهاية. لقد كان مقيّداً أمّا روحه فكانت طليقة، ولا شيء يرغمه على الخضوع لقوة ظالمة غاشمة.
أمضى شاؤل كل حياته في حروب تحرير متواصلة، وضرب جميع أعدائه حواليه، مؤاب وعمون وآدوم وملوك صوبة، وحيثما توجّه غلب. وكانت حربه شديدة على الفلسطينيين كل أيامه (1صموئيل 14: 47 – 52). ثمّ جاءه صموئيل بأمر الربّ بمحاربة العماليق وتطبيق قاعدة التحريم عليهم والتي تقضي بإفناء كل نفس حية للعدوّ حتى مواشيه:
“هكذا يقول ربّ الجنود: إني افتقدت ما عمل عماليق بإسرائيل حين وقف له في الطريق عند صعوده من مصر. فالآن اذهب واضرب عماليق وحرّموا كلّ ما له ولا تعفُ عنهم، بل اقتل رجلاً وامرأة، طفلاً ورضيعاً، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً. فاستحضر شاؤل الشعب وعده… ثم جاء شاؤل إلى مدينة عماليق وكمن في الوادي… وضرب شاؤل عماليق من حويلة إلى شور التي قبالة مصر، وأمسك أجاج ملك عماليق حياً وحرَّم جميع الشعب بحدّ السيف. وعفا شاؤل والشعب عن أجاج وعن خيار الغنم والبقر وكل سمين والخراف، وكلّ ما كان جيّداً لم يرضوا أن يحرموها، ولكن كلّ ما كان حقيراً ومهزولاً حرموه. فكان كلام الربّ إلى صموئيل قائلاً: ندمت على أنّي قد جعلت شاؤل ملكاً لأنه مال عن اتّباعي ولم يُقم كلامي. فاغتاظ صموئيل وصرخ إلى الربّ الليل كله”. (1صموئيل 15: 1 – 11).
وهكذا نجد شاؤل ما زال مصمماً على إتيان ما هو حسن في عينيه، لقد كان يعرف مضمون قاعدة التحريم، وصموئيل تلا على مسامعه ما يتوجّب عليه فعله، ولكنه لم يجد سبباً مقنعاً لقتل جميع مواشي العماليق فحرّم الضعيف والمهزول منها وأبقى على الصحيح والسمين للإفادة منها. ولكن الأرواح التي تزهق وفق قاعدة التحريم هي قربان يُقدم إلى الربّ، والربّ قال صراحة في شريعته أنه لا يقبل لقربانه إلا كل حيوان صحيح وسليم (راجع على سبيل المثال سفر اللاويين 22: 17 – 24). ولذلك فإنه لا يجد في سلوك شاؤل إلا استهتاراً ولا مبالاة وإصراراً على معاندته، لاسيما وأنه عفا عن أجاج ملك العماليق وأتى به أسيراً، في الوقت الذي وجب أن يكون أوّل المضحّى بهم.
كما ونلاحظ في موقف صموئيل المتعاطف مع شاؤل ازدواجية خفية تجاه الربّ. فهو يحب شاؤل حبّاً جمّاً ويرى فيه الملك المثاليّ. وبإمكان المرء أن يفترض أيضاً أنه كان ميّالاً لرأي شاؤل، ولكنه على عكس شاؤل كان قريباً من الربّ ويعرف أكثر من غيره الجوانب المظلمة في شخصيته، وأن تقوى الربّ لا تكون إلا بالإذعان غير المشروط لإرادته. لقد بكى وناح طيلة الليل متوسلاً إلى الربّ لكي يعفو عنه، ولكنّ بكاءه هذا لم يكن إلا تنفيساً عن كربته، لأنه عالم في قرارة نفسه أن لا رجوع للربّ عن قراره لأن شاؤل أصابه في موطن وجعه.
وفي اليوم التالي:
“بكر صموئيل للقاء شاؤل صباحاً. فأُخبر صموئيل وقيل له إن شاؤل قد أتى إلى الكرمل وهوذا قد نصب لنفسه نَصَباً ودار وعبر إلى الجلجال. ولما جاء صموئيل إلى شاؤل:
قال له شاؤل: مبارك أنت للربّ، قد أقمتُ كلام الربّ.
فقال صموئيل: وما هو صوت الغنم هذا في أذني؟ وصوت البقر الذي أنا سامع؟
فقال شاؤل: من العمالقة قد أتوا بها، لأن الشعب قد عفا عن خيار الغنم والبقر لأجل الذبح للربّ إلهك. وأما الباقي فقد حرمناه.
فقال صموئيل: كُفَّ، فأخبرك بما تكلم به الربّ إليَّ هذه الليلة.
فقال له: تكلّم.
فقال صموئيل: أليس إذ كنتَ صغيراً في عينك صرتَ رأس أسباط إسرائيل، ومسحك الربّ ملكاً على إسرائيل… فلماذا لم تسمع لصوت الربّ بل مِلْتَ إلى الغنيمة وعملت الشرّ في عيني الربّ؟
فقال شاؤل: إنّي قد سمعت لصوت الربّ وذهبت في الطريق التي أرسلني فيها الربّ، وأتيتُ بأجاج ملك عماليق وحرّمت عماليق. فأخذ الشعب من الغنيمة غنماً وبقراً خيار الحرام لأجل الذبح للرب إلهك في الجلجال.
فقال صموئيل: هل يُسرُّ الربّ بالمحرقات والذبائح كما يُسرّ بالطاعة لكلام الربّ؟… لأنك رفضت كلام الربّ رفضك من المُلك.
فقال شاؤل: أخطأت لأنّي تعدّيت قول الربّ وكلامك، لأنّي خفت من الشعب وسمعت لصوتهم. والآن اغفر خطيئتي وارجع معي فأسجد للربّ.
فقال صموئيل: لا أرجع معك لأنك رذلت كلام الربّ فرفضك الربّ من أن تكون ملكاً على إسرائيل.
ودار صموئيل ليمضي، فأخذ شاؤل بطرف ردائه فانمزق.
فقال له صموئيل: يمزّق الربّ مملكة إسرائيل عنك ويعطيها لصاحبك الذي هو خير منك.
وقال صموئيل: قدموا إليَّ أجاج ملك عماليق. فذهب إليه أجاج فرحاً وقال أجاج (في نفسه): حقاً قد زالت مرارة الموت. فقال صموئيل: كما أثكل سيفك النساء كذلك تثكل أمك بين النساء. فقطع صموئيل أجاج أمام الربّ في الجلجال.
وذهب صموئيل إلى الرامة، وأما شاؤل فصعد إلى بيته في جبعة شاؤل. ولم يعد صموئيل لرؤية شاؤل إلى يوم موته، لأن صموئيل ناح على شاؤل، والربّ ندم لأنه ملّك شاؤل على إسرائيل”. (1صموئيل: 15).
وكما نلاحظ، فإن موقف شاؤل من الربّ بعد خطيئته الثانية قد اتسم بالبراغماتية. فبدلاً من اللامبالاة التي أظهرها في المرة الأولى نجده يظهر الندم والتوبة في المرة الثانية. ويبدو أنه أدرك مثلما أدرك أيوب أن التعامل مع هذا الإله لا يكون إلا بالرياء والمداهنة. ولكن شاؤل فشل فيما نجح فيه أيوب، لأن أيوب كان موضع اختبار منذ البداية وكان ولاؤه موضع شك، أما شاؤل فقد أظهر منذ البداية استقلالية في القرار، ثم كرس معاندته للرب في انتهاكه قاعدة التحريم أثناء الحرب على العماليق، وما من توبة زائفة يمكن أن تنقذه من مصيره الذي تقرر. ولسوف نرى فيما بعد كيف بقي كل طرف في هذه العلاقة على موقفه. فقد انتقم يهوه من شاؤل بإرساله روحاً رديئاً تلبّسه، فوقع ضحية لاكتئاب شديد (1صموئيل: 16: 14) كان يتحول في بعض الأحيان إلى نوبات جنون مؤقت (1صموئيل 18: 10). أما شاؤل فقد لجأ إلى استخارة الجانّ والتوابع بدل استخارة مشيئة الربّ (1صموئيل: 28)، ومدّ يده في إحدى المرّات وقتل خمسة وثمانين من كهنة يهوه في نوب مدينة الكهنة (1صموئيل: 22). وعندما علم أن الربّ قد مسح داود ملكاً بدلاً عنه، قاوم مشيئة الربّ هذه وحاول بكل الوسائل قتل مسيح الربّ الجديد.
وكانت يد شاؤل شديدة على الفلسطينيين وأمضى بقية حياته في الصراع معهم، إلى أن كانت معركة جلبوع حيث حُمّ عليه قضاء الربّ:
“وحارب الفلسطينيون إسرائيل، فهرب رجال إسرائيل من أمام الفلسطينيين وسقطوا قتلى في جبل جلبوع. فشد الفلسطينيون وراء شاؤل وبنيه، وضرب الفلسطينيون أبناء شاؤل: يوناثان وأبيناداب وملكيشوع. واشتدت الحرب على شاؤل فأصابه الرماة رجاء القسيّ فانجرح جداً من الرماة. فقال شاؤل لحامل سلاحه: استل سيفك واطعنّي به لئلا يأتي هؤلاء الغلف ويطعنوني ويقبحوني. فلم يشأ حامل سلاحه لأنه خاف جداً. فأخذ شاؤل السيف وسقط عليه. ولما رأى حامل سلاحه أنه قد مات شاؤل سقط هو على سيفه أيضاً ومات معه. فمات شاؤل وحامل سيفه وبنوه الثلاثة وجميع رجاله في ذلك اليوم معاً… وفي الغد لما جاء الفلسطينيون ليعرّوا القتلى وجدوا شاؤل وبنيه الثلاثة ساقطين في جبل جلبوع، فقطعوا رأسه ونزعوا سلاحه ووضعوه في بيت عشتاروت وسمروا جسده على سور بيت شان. ولما سمع سكان يابيش جلعاد بما فعل الفلسطينيون بشاؤل، قام كل ذي بأس وساروا الليل كله وأخذوا جسد شاؤل وأجساد بنيه عن سور بيت شان وجاؤوا بها إلى يابيش وأحرقوها هناك، وأخذوا عظامهم ودفنونها تحت الأثلة في يابيش وصاموا سبعة أيام.” (1صموئيل: 31).
وهنا يضع محرر سفر صموئيل الثاني هذه المرثية على لسان داود، وهي تُعد من عيون قصائد الكتاب. وفيما يلي بعض أبياتها:
الظبي يا إسرائيل مقتول على شوامخك
كيف سقط الجبابرة
لا تخبروا في جَت، لا تبشروا في أسواق أشقلون
لئلا تفرح بنات الفلسطينيين، لئلا تشمت بنات الغُلف.
يا جبال جلبوع، لا يكن عليكنّ طل ولا مطر
لأنه هناك طُرح مجنّ الجبابرة، مجن شاؤل
من دم القتلى، من شحم الجبابرة لم ترجع قوس يوناثان
وسيف شاؤل لم يرجع خائباً
يا بنات إسرائيل ابكين شاؤل
الذي ألبسكنّ القرمز ترفاً
ورصع ثيابكنّ بحلي الذهب
قد تضايقتُ عليك يا أخي يوناثان
حبك عندي كان أولى من حب النساء.
كيف تصرّعت الجبابرة وبادت آلات الحرب؟
تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

دراسات في علم الأديان المقارن: تاريخ المصحف الشريف

22-أيار-2021

هل كان موسى مصرياً

08-أيار-2021

هل كان موسى مصرياً

01-أيار-2021

الديانة الزرادشتية وميلاد الشيطان

24-نيسان-2021

في رمزية حجر الكعبة الأسود

13-شباط-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow