Alef Logo
مقالات ألف
              

أبو حيان التوحيدي: التمرّد في الأدب

خيري الذهبي

2019-05-11

وريث الجاحظ
أبو حيان التوحيدي، وهو الجاحظي الأدب والكتابة، يعتبره الكثيرون الوريث الأكبر للجاحظ في الكتابة السردية، وفي القلق الفكري، مما جعل الباحثين يسمونه "الجاحظ الثاني" ولكن كثيرًا من الباحثين المعاصرين له لم يغفر له صداقته مع بن مسكويه المتهم بأنه واحد من كتب الكتاب الأهم في الفكر العربي "رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا".
وقد وصل الأمر ببعض المتشنجين دينيًا إلى قول "ملاحدة الإسلام ثلاثة هم التوحيدي، والمعري- أبو العلاء وابن الراوندي"، وهذا الأخير فيلسوف تخصص في الرد والمحاججة على الأديان جميعا. أما أبو العلاء المعري فيكفي لإدانته بالإلحاد أنه وضع كتاب "رسالة الغفران"، وهي درة من درر النثر العربي، وربما كانت المؤثر الأكبر على دانتي الليجيري واضع كتاب "الكوميديا الإلهية".
ووصل الأمر بخصوم التوحيدي إلى اعتقاد الكثيرين بأن التوحيدي قد شارك في كتابة الكتاب الأندر في العربية "رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا"، وهو كتاب حرص واضعوه على عدم نسبته إلى أي من الكتاب، وفي حرصهم ذاك كان الحرص يقول: "هذا الكتاب روح عصرنا، وروح عصر العقل البشري الأرسطية، وقد أيقظناها من كبوتها" ولذا فليس من كاتب متفرد له، وإنما كان أمر النسب تخمينا وملاحقة لأسلوب الكتابة والكتاب لا يشك في اسم كاتبيها، ولذا فقد تراوحت النسبة بين... الأقدمين من فلاسفة عصرهم كأرسطو، وبين معاصرين كابن مسكويه والتوحيدي.
أبو حيان التوحيدي، وهو واحد من أهم أعلام الكتابة النثرية في السرد العربي، عاش في القرن الرابع الهجري، قرن انهيار الحكم العربي وبداية الترك في حكم بغداد، أي منذ عام 310 هجري وحتى عام 414. وقد طال عذاب التوحيدي في عمره الطويل حتى قيل إنه في أخريات عمره أقدم على حرق مؤلفاته جميعا بعد أن اضطره جوعه إلى أن يأكل من أعشاب الطريق ليسكن هذا الجوع، وحين رجع إلى بيته المتواضع ورأى كتبه تنتظره وهو الشبعان أقدم على حرقها جميعًا قائلا إن جيلا يهمل أبا حيان حتى يأكل من خشاش الأرض لا يستحق أن تترك له هذه الكنوز.
وكان يمكن لتاريخ الأدب أن يخسر الكثير بخسارة الكنوز التي كتبها التوحيدي في حياته لولا أن تلك الكتب كانت منشورة، ومنسوخة، وبين أيدي النساخ ينسخونها ويعيدونها إلى الحياة، أما الكتاب الوحيد الذي فقده تاريخ الأدب فهو كتاب "أخلاق الوزيرين"، وهو كتاب كان قد وضعه لهجاء عدويه الوزيرين ابن العميد وابن عباد، فأذاع خصومه أن الكتاب منحوس وأنه ما من قارئ يقرأه أو يضعه في مكتبته إلا أصيب بمصيبة وكارثة قد تقصم ظهره، فامتنع الناس عن قراءة الهجائيات التي سطرها ضد ابن العميد وابن عباد، واختفى الكتاب لأكثر من ألف سنة حتى وجده بعض الباحثين في مكتبة عثمانية، فحققه وضبط المخطوط قبل طبعه، وعاد الكتاب إلى الحياة ولم يصب واحد من المحتفظين به بما يسوء. أما المعري فهو من قال في مرضه حين وصفوا له أكل فروج (فرخ دجاج)... استضعفوك فوصفوك، فهلا وصفوا لحم الأسد!
قاسى الأمرّين
التوحيدي وُجد في عصر كان يجب عليه فيه أن يقاسي الأمرّين، فقد كان جزل الكتابة كمعلمه الجاحظ في زمن غلب فيه السجع والجناس والطباق والمحسنات اللغوية، ووجد في عصر ابتكر فيه علم البديع عبد الله، ابن الخليفة المعتز بالله، الذي جاء به قاتلوه من الترك ميتا في العشرينات من عمره وكان دمه يعلم الطريق من مكان قتله وحتى القبر، وكان الابن عبد الله قد رأى جسد الأب القتيل فعاهد نفسه بأن يبعد عن السياسة ويتفرغ للشعر والأدب، وقد حافظ على عهده هذا حتى اختار الترك طفلا للخلافة هو من سيعرف باسم الخليفة المقتدر ذي الثلاثة عشر عاما فقط وكان كبراء القوم من سياسيين وأثرياء ومفكرين قد ألحوا على ابن المعتز ليشاركهم الانقلاب على الطفل المقتدر فالترك لن يجرؤوا على الدفاع عنه وبعد طول مراجعة للنفس وضغط من الرأي العام القصوري وافق على المشاركة في الانقلاب، ونجح الانقلاب ليوم واحد استجمع فيه الترك قواهم، وقاموا بهجوم مضاد قبضوا فيه على ابن المعتز وأعادوا تنصيب الخليفة الطفل المقتدر إلى الحكم.
وكان ابن المعتز هو أول من ابتكر فنا جديدا سماه "علم البديع" لكنه حين وضعه لم يخطر على باله للحظة واحدة أنه سيكون مطية الفرس في استعادة مجدهم في الكتابة قبل الإسلام مستخدمين المحسنات اللغوية والسجع الذي غلب على النص زمن الصاحب بن عباد، فاختفى جسم النص خلف غلالات السجع والمحسنات اللغوية.
والتوحيدي هو من امتهن النسخ مهنة يأكل منها ويعتاش، فلزم قراءة الكتب، وخاصة مؤلفات المعلم الكبير الجاحظ منذ نعومة أظفاره، ولم يشعر بنضجه العقلي المناوئ للموضة إلا بعدما كسب عداوة الوزيرين ابن عباد وابن العميد، وهما الرجلان الخطيران سياسيا في ذلك الزمان، وكان التوحيدي قد ورث الجاحظ في جزالة جملته، والعناية بنقائها وقدرتها على التعبير عن الفكرة من دون الاهتمام بالمحسنات اللغوية، فاستدعى لنفسه عداوة الوزيرين المعاصرين له ابن العميد والصاحب بن عباد. وقد بلغ من رصانة جملته وقدرتها التعبيرية أن حسده الفارسيان القويان ابن العميد وابن عباد، وكان الفرس قد نشروا في ذلك الحين المقولة البائسة: "بدأت الكتابة بعبد الحميد وانتهت بابن العميد"، وأنا أتحدى قارئا معاصرا من غير الأساتذة الجامعيين المتخصصين في أدب الانحطاط أن يكون يستطيع تذكر أنه قد قرأ أو حفظ شيئا مما كتبه القائلون بأن الكتابة قد انتهت بابن العميد. وكان الصاحب بن عباد محبا للسجع مهما بلغ به السخف حتى أن التوحيدي يكتب عنه في كتابه الشهير "أخلاق الوزيرين" أنه قد زار قاض مقرب من الوزير ابن عباد فقال الأخير يرحب به: أيها القاضي بـ"قم"، وهي مدينة فارسية، وفي إيران المعاصرة، ثم خذلته السجعة فلم يجد ما يقول إلا: قد عزلناك فقم!!! فقال القاضي المعزول صارخا في غضب: والله ما عزلني إلا سجعك السقيم. والرجلان فارسيان. وكان ابن عباد مغيظا من السمعة التي ذاعت عن التوحيدي وجاحظيته، فأرسل يستدعيه وهو العارف بفقره حتى أنه كان يأكل حشائش الأرض لجوعه وفقره، فلما مضى التوحيدي للقاء ابن عباد كلفه الأخير بنسخ عدد من كتبه التي وضعها ليغيظ بها منافسيه، ومما قاله التوحيدي عن هذه المصيبة التي ابتلي بها: "حلمت بأني مت وبعثت في الجنة، فانصرفت عن الحوريات وعما لذ وطاب معلقا على الأشجار، أو مشويا على المجامر، وتمطيت سعيدا واستيقظت على قولي: وأخيراً أراحني رب العزة من نسخ سخافات السخفاء"، وهو يعني نسخ مؤلفات ابن عباد وابن العميد!
ورفضه الوزيران القويان بسبب انتشار القول العربي وتسمية التوحيدي بالجاحظ الثاني في زمن غلب عليه فيه السجع حتى التساخف، وكان التوحيدي حرّ الفكر في زمن سيطر فيه على العالم الإسلامي السلاجقة الذين أوقفوا البحث في الأديان، وصوبوا الرأي السُنيّ فقط، ونفوا ولاحقوا كل من اعتنق رأيا مخالفا للسنة والجماعة، وطاردوا كل معتنق لمغلبي العقل في الفكر والرأي كالمعتزلة، وكان التوحيدي يعلن سنيته في زمن كانت العامة فيه نكاية بالسلاجقة تعلن تشيعها، وكان قد وضع كتابا يفضح فيه الوزيرين الشهيرين الصاحب ابن عباد وابن العميد في كتاب اشتهر باسم "أخلاق الوزيرين"، وهو كتاب في الهجاء نادر في اللغة العربية، وبلغ من استياء الصاحب بن عباد أن نشر إشاعة تقول: الكتاب منحوس، وكل من قرأه أو احتفظ به في مكتبته فستصيبه مصيبة كبرى، كأن يخسر ثروته أو يفقد عزيزًا بالموت، أو يطرد من منصب حازه. وهكذا اختفى الكتاب من أيدي ومكتبات المتداولين لألف سنة حتى وجده باحث في مكتبة كلاسيكية في إستانبول، فدققه وحققه، ونشره، وكان مفاجأة للقراء العرب الذين آمنوا بأن الكتاب قد تلف في عصره.
وفي زيارة لي إلى تونس زرنا مدرسة ثانوية، وكانت المفاجأة في هذه الزيارة وجود كتاب "الصداقة والصديق" للتوحيدي في مقررات وزارة التربية فيها.
أما في سورية فيمكن للطالب التخرج من كلية الآداب، ثم لا يقرأ نصا واحدا لواحد من أهم كتّاب العربية الكلاسيكيين.


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الشخصية الروائية كما أراها

06-شباط-2021

ورنتون وايلدر همنغواي وجهان أصيلان لأميركا

28-تشرين الثاني-2020

مقتطفات فيس بوكية

22-آب-2020

شكوتك إلى الله

15-آب-2020

ثورنتون وايلدر همنغواي وجهان أصيلان لأميركا

09-أيار-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow