Alef Logo
يوميات
              

جزالةُ جَدَّتي و سُقوطُ النُّخَبِ

نزار غالب فليحان

خاص ألف

2019-12-28

تقول جدتي التي لا أعرفها و التي لم أرَ وجهها يوماً : "الدِّنْيا مَعِ الْواقِفْ" ، و كانت جدتي التي لا أعرفها و التي لم أرَ وجهها يوماً تقصد دون أدنى شك أن الواقف في بلاد العُرْبِ هو القوي القادر على فرض إرادته و الذي يخشى الناسُ مساءلتَه و الوقوفَ على زلاته ، و تقصد جدتي ضمناً أن القوي هو من يملك السلطة ، لكن جدتي لم توغل في التفاصيل لأنها كانت على ما أظن تفضل الإيجاز ، لذلك لم يشغلها أن السلطة في بلادنا تأتي من مال أو سلاح ، و لم تنتبه ربما إلى أن السلطة تصبح أعتى و أكثر قدرة على البطش و السحق حين يجتمع المال و السلاح معاً في غفلة وطن في يد طغمة طارئة تقبض على الحكم كـ "عديم و وِقِع بْسَلِّةْ تينْ" كما تقول جدتي .

و تقول جدتي فيما تقول : "الناسْ فَلاحْ مْفَرَّقْ" للدلالة على اختلاف البشر طباعاً و تفكيراً ، و لم يشغل جدتي هنا أيضاً - و ربما لم تنتبه - أن الناس في واحدة من التصنيفات الجائرة العنصرية التي تتخذ من تشويه عامل "الثقافة" منطلقاً لتصنيفها هم عامَّةٌ و نُخَبٌ ، و لو أنها انتبهت أو شَغَلَها الأمر أو أن جدي الذي عرفته قد نبهها إلى ذلك لما سبقها أحد إلى إطلاق مثلها الشهير : "الناس خْيارْ و فَقُّوسْ" .

و على الرغم من أن عامل "الثقافة" المشوه عمداً إشكالي غير متفق عليه ، فإن صورة للمثقف "النخبوي" ترسخت في الذهنية العربية على هيئة كائن مبدع مجادل صاحب إنجاز فني أو أدبي أو فكري و صاحب موقف يبنيه على رؤية تكونت لديه بعد خبرة نجمت عن قراءات و دراسات و أبحاث ، و قد يكون كل هذا خواءً و ادعاءً لا أساس له في مكان ما ، لكنه النمط الدارج ، النمط الذي يُمَكِّنُ الكثيرين من تقمُّصِهِ و ادعاءِ امتلاك مقوماته جسراً باتجاه دخول نادي النخبة .

أما العامة ( و قد وصفهم بعض النُّخْبويين بالدهماء و الغوغاء و الرعاع ) وفق ذات المعيار العنصري البغيض فَهُمُ البسطاء المهمشون المغيبون عن المشهد المتروكون على الأطراف البعيدة للحدث كأيتام على موائد لئام ، المنبوذون كزبد يلفظه موج يتلاشى على غرة اليابسة ، "وْلاد البَطَّة السُّودا" كما تقول جدتي .

و لأن الأمثال التي تتبناها جدتي لا تخطئ ، فإن النخبوي "مع الواقف" و لن يكون يوماً مع العامة التي ترزح في الحضيض تحت نير فقر و عوز و بطش و عسف ، العامة التي آمنَتْ به حَدَّ الاعتناق فجعلَتْه رمزاً و أيقونة ، و كانت دائماً سُلَّمَهُ إلى الشهرة ، لأن وقوفه إلى جانب العامة قضية خاسرة ، و "النخبوي" لا ينتصر للقضايا الخاسرة ، بل ينتصر لقضية يربح حين يبكيها و يفوز حين يركب موجتها ، ينتصر لقضية لا يخاف عقابيل مناصرتها لأن عدوها هدف سهل المنال بعيد العقاب و جمهورها عريض ، قضية طريقها بطول نَفَسِهِ و بعديد محطاتٍ تُراكمُ عناصر تحقيق هدفه نحو وصولٍ لّيِّنٍ آمنٍ إلى الغاية ، الغاية التي لا تمر عبر بيوت ليست كالبيوت و لا ترى وجوهاً ليست كالوجوه و لا تلمس قلوباً يهزمها البرد و لا ترصد خياماً تغرق في الطين و خدوداً شققها الثلج و جباهاً كواها الحر و شفاهاً جفت من عطش و بطوناً رقت من جوع و عيوناً ثقبها التغاضي و هزمها الإنكار و كفوفاً تقرحت في الكدح و الشقاء .

لذلك تجد "النُّخَبَ" العربية لا تتطاول إلا على الأديان و على إسرائيل ، و المستحاثات من هذه النُّخَبِ قد تنال من الإمبريالية العالمية و الرجعية العربية كتقيلد لا بد منه و كعتاد لازمٍ و ليس كافياً على طريق المقاومة و الممانعة و "العلمنة" ، لكنهم - جميعهم - ينكرون على العصافير فضاءً نقياً ، و على النوارس رذاذَ بحر ، و على الفراشاتِ لثمَ الورودِ ، و عشقَ المآذنِ حَوْمَ الحمامِ ، و ظلاً خفيفاً على سوسنة ، تجدهم يترددون و يرتجفون مع انطلاقة أي حراك ضد أنظمة قمعية ، ينأون بأنفسهم كموتى و يصمتون كليلٍ أخرس بانتظار تَمَكُّنِ تلك الأنظمة من تعكير صفو الثورات و تشويهها ، ليستفيقوا فجأة و يعلنوا في أحسن الأحوال موافقتهم على المبادئ و اعتراضهم على الطريقة ، بحيث لا يختلفون البتة عن دور الإفتاء التي ترتب فتاواها على مقاسات السلاطين ، سالكين في ذلك سلوك المؤسسات الدينية التي يناصبونها العداء كما يزعمون ، يعلو صوت جدتي هنا فتقول : "بْيَعِرْفوا و بْيِحِرْفوا".

تلخص جدتي الحالة فتشبهها بالفاخوري عبر مثلها الجميل : "متل الفاخوري بيرَكِّبْ ذينِةْ الجَرَّة مَطْرَحْ ما بَدُّه" ، و كذا النُّخَبُ تأتي القضايا من الزوايا التي تمكنها من الهروب ساعة الاستحقاق هروب الخيط من خرم إبرة ، و بالشكل الذي يمكنها من التأويل و التملص من موقف بَيِّنٍ و جَلِيٍّ ، نحو نكران الحق و دحض الحقيقة و الوقوف تالياً حذاءَ القمع ، أولئك الذين تقول عنهم جدتي : "لا بْيِرْحَموا و لا بيخَلُّوا رحْمِةْ الله تِنْزَلْ" و تقول أيضاً : "خير ما مِنْهُمْ ... دُخَّانْهُمْ بْيِعْمي" .

ماتت جدتي التي لا أعرفها و التي لم أرَ وجهها يوماً تاركةً خلفها إرثاً كبيراً من جزالة التعبير و عاشت النُّخَبُ كالعَلَقِ في مستنقعات السَّلاطين .

نزار غالب فليحان
تعليق



فؤاد الشوفاني

2019-12-28

رائع جدا ففي باطن الكلمات البسيطة كتب تحتاج من يستنبطها دام قلمك الراقي

أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

نصوص

06-آذار-2021

أغنيات فيروز بين قراءتها في سياقِها المسرحي وتحليقها في مخيلة المستمع ...

13-شباط-2021

"سلوى النعيمي" ذاتَ بَوْحٍ في "كتاب الأسرار" ...

06-شباط-2021

زاد الخير ... الحلم إذا استبد

29-آب-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow