Alef Logo
دراسات
              

أولاً: إشكالية التاريخ والتأريخ

ألف

2020-02-01

أولاً: إشكالية التاريخ والتأريخ
لعقود طويلة، انصرفت الدراسات التاريخية إلى تحديد التمايز الواضح بين مفهومي التاريخ والتأريخ. فالتاريخ يتضمن نشاط الناس الطبيعي في مختلف المجالات، أما التأريخ أو الكتابة التاريخة فيقوم به المؤرخ الذي يدوِّن ما صنعه الناس من أعمال مادية أو وثائق تاريخية تدل على نشاطاتهم. لذا يشير مفهوم «التأريخ» إلى عمل المؤرخين ومناهجهم المتعددة في كتابة التاريخ وفق رؤى علمية، وفلسفية، وأدبية، وأيديولوجية متنوعة، ومتناقضة أحياناً. وقد تعددت مدارس فهم التاريخ وكتابته. وعبر الحقب التاريخية، تبلورت اجتهادات متعددة أبرزها أن الكتابة التاريخية لا تقتصر على سرد أحداث الماضي والحديث عن الشخصيات البارزة بل تتضمن ما قام به الناس من أعمال مادية وثقافية مثبتة في المكان والزمان.

لم تتأسس الكتابة التاريخية في بداية نشأتها على ركائز علمية، بل عمد المؤرخ إلى تدوين الأحداث التاريخية مقرونة بانطباعاته، السلبية منها والإيجابية. «كان التأريخ مجموعة نظريات وأنماط ومفاهيم. ويسعى المؤرخ لكي يظهر بصفته المستبد العادل في النظر إلى الماضي، والعمل على تفكيك أحداثه وكتابة وقائعه بصورة انتقائية في أغلب الأحيان»‏[1].

في القرن الخامس قبل الميلاد وصف هيرودوت التاريخ بأنه «الفاصل المحسوب بالأجيال والذي يحمل على الانتقال من مظلمة إلى الانتقام لها أو إلى إزالتها. والمؤرخ، بتحقيقه بطريقة ما في أزمنة الانتقام الإلهي، هو الذي يستطيع، بفضل علمه، أن يجمع ويتيح رؤية طرفَي السلسلة. ذلك هو معنى تاريخ الملك وهو ينتقل من السعادة إلى الشقاء، يدفع عند الجيل الرابع خطيئة جده. لكن ذلك ليس هو طريق التاريخ والعدالة. والتاريخانية في عصرنا تسمح بطرح استفهام المؤرخ حول علاقاتنا بالزمان. بمعنى أن يتناول المؤرخ عدة أزمنة بممارسته الذهاب والإياب بين الحاضر والماضي، والأفضل المواضي شديدة الابتعاد على وجه الاحتمال، سواء في الزمان أو في المكان. فهذه الحركة هي خصوصيته الوحيدة»‏[2].

وصف الفيلسوف هوبز المؤرخ اليوناني توسيديديس المتوفى قرابة العام 400 قبل الميلاد بأنه «أعظم مؤرخ سياسي على مر الزمن». وتتجلى الأهمية القصوى لتاريخه في أنه حمل طابع عقله الناشط والممحص، الذي لا يستسلم للحظة واحدة ولا يحيد عن موضوعه بتأثير من إغراء الإثارة أو الرأي الشائع.

وتحدث المؤرخ اليوناني توسيديديس نفسه عن طريقته في كتابة التاريخ بقوله: «لعل كتابي في التاريخ يبدو صعب القراءة لافتقاره إلى عنصر الرومانسية المشوقة… حسبي أن يجد في كلماتي فائدة أولئك الذين يسعون إلى استيعاب أحداث الماضي والتي سوف تتكرر في وقت من الأوقات في المستقبل ما دامت الطبيعة البشرية على ما هي عليه. إن كتابي هذا ليس بالكتاب الذي يلائم قراء اليوم، إذ قصدت به أن يدوم إلى الأبد… لذلك لم يكن التاريخ آسراً في حد ذاته وحسب، وإنما لا بد أن يكون ذا فائدة لينتفع به من يرى في التجربة عظة»‏[3].

تطورت كتابة التاريخ كثيراً مع تطور العلوم الإنسانية والاجتماعية على المستوى الكوني. فظهرت مدارس واتجاهات عديدة في فهم التاريخ وكتابته. وأدّت منهجية التاريخ الاجتماعي دوراً رائداً في إبراز حركية المجتمع من خلال ركائزه الثلاث: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. وكان لكتاب التاريخ اليوم الصادر بالفرنسية دور بارز في نشر منهجية التاريخ الاجتماعي بشكل خاص. حفل الكتاب بمقولات علمية متنوعة، وتضمن مقولات لأبرز المؤرخين الاجتماعيين في فرنسا من أمثال جاك بيرك، وجان بوفيه، وأنطوان كازانوفا، وجورج دوبي، وجاك لو غوف، وجورج سادول، وألبير سوبول، وبيار فيلار وغيرهم. وتمحورت مقولاته حول الركائز الأساسية في فهم التاريخ وكتابته، وأبرزها: المصادر التاريخية، ومناهج كتابة التاريخ، والقضايا النظرية والتطبيقات الميدانية، وركائز التاريخ الاقتصادي، والتاريخ الاجتماعي وتاريخ الذهنيات، ونقد الإشكاليات والفرضيات المعتمدة في دراسة الثورة الفرنسية الكبرى لعام 1789، وغيرها‏[4].

على المستوى الأكاديمي تبلورت عدة مدارس لفهم التاريخ، منها: المدرسة الجغرافية؛ المدرسة القومية؛ المدرسة الدينية؛ المدرسة الاقتصادية؛ المدرسة الاجتماعية؛ المدرسة الثقافية؛ والمدرسة الحضارية. وظهرت إلى جانبها مدارس متنوعة لكتابة التاريخ على أسس علمية. وركزت على التوثيق الجيد، ودقة التحليل، وموضوعية الفرضيات والاستنتاجات. كانت أبرز المدارس السائدة في التأريخ العلمي: المدرسة الوصفية؛ المدرسة السردية؛ المدرسة الشكية؛ المدرسة السببية؛ المدرسة الوضعية؛ مدرسة التاريخ الاجتماعي؛ والمدرسة الحضارية. فبدأت الكتابة التاريخية ترتقي من سرد المرويات إلى النقد العلمي، وتحول التأريخ إلى علم يدرَّس في الجامعات والمعاهد، ووُضعت له قواعد صارمة يتعرض من يتجاوزها لكثير من النقد والاتهام بتشويه الحقائق أو تزوير التاريخ. وكتبت دراسات متعددة عن «تاريخية الكتابة التاريخية» التي أكدت أن الكتابة التاريخية هي وليدة بيئة ثقافية محددة في الزمان والمكان. وهي قابلة للتطور والتغيير مع تطور مناهج التعليم الأكاديمي، وطرق تدريس التاريخ، ونقد الوثائق، والمقارنة النقدية بين معطيات الأرشيف المحلي والأرشيف العالمي. وانتشرت على نطاق واسع دراسة التأريخ في ضوء تاريخه أو «تاريخ التأريخ» الذي يبرز تطور الكتابة التاريخية وما رافقها من مناهج تأريخية.

كانت الكتابة التاريخية في أوروبا في القرن الثامن عشر ترتكز على المرويات السردية والشخصيات البارزة من دون ذكر للناس العاديين. فانتقد الكاتب الفرنسي فولتير بشدة هذا الأسلوب في عام 1774 بقوله: «في كل ما قرأت لم أجد سوى تاريخ الملوك والقادة العسكريين، وأنا كلي شوق لمعرفة تاريخ الناس، كل الناس». ثم تطورت مناهج فهم التاريخ وكتابته بصورة واضحة في القرنين التاسع عشر والعشرين، وبخاصة بعد بروز مدرسة التاريخ الاجتماعي في فرنسا التي شددت على تاريخ المجتمع، بمختلف طبقاته وفئاته الاجتماعية وتجاوزت التركيز على تاريخ الأفراد البارزين.

في هذا المجال، برز تباين واضح بين اتجاهات متعددة لدى المؤرخين في تعريف التأريخ وتحديد دوره. فهناك من رأى فيه بحثاً عن الحقائق وتدوينها، وهي النظرة التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر بصورة خاصة. وهناك من حدد دوره بتقديم الحقائق التاريخية وتفسيرها من دون إضافة آراء شخصية. وذلك على قاعدة أن «الحقائق مقدسة أما رأي المؤرخ فمجاني». وهذا ما جعل من الوثائق التاريخية الركيزة الأساسية في كتابة التاريخ، في حين يقتصر دور المؤرخ على تدوين الأحداث التاريخية وتفسيرها من دون استخلاص الدروس منها.

ثم تبلورت مدرسة تأريخية جديدة ركزت على دور المؤرخ في فهم التاريخ قبل كتابته وذلك على قاعدة أن «التاريخ من صنع الناس، وأن التأريخ من صنع المؤرخ». فساهمت تلك النظرية في توليد مقولة علمية معتبرة: «قبل أن تدرس التاريخ ادرس المؤرخ، وقبل أن تدرس المؤرخ ادرس البيئة التي عاش فيها». فالفهم العلمي للتاريخ يتطلب أيضاً دراسة البيئة الثقافية للمؤرخ التي أدّت الدور الأساسي في فهمه للتأريخ وبلورة مقولاته النظرية.

هناك إذاً صلة وثيقة بين فهم التاريخ وكتابته، وبين الاتجاهات الفكرية والتبدلات الاقتصادية والاجتماعية التي تركت أثراً واضحاً في كتابة التاريخ ودفعت المؤرخين إلى إعادة النظر في دراساتهم عبر طبعات جديدة مزيدة ومنقحة. وكانت رؤية المؤرخين لأحداث التاريخ تتطور مع تطور الظروف الموضوعية والمقولات الثقافية التي ساهمت في التكوين العلمي للمؤرخ، وفي رؤيته للتطور التاريخي. وحظيت الاكتشافات العلمية الحديثة، وثورات العلوم والتكنولوجيا والتواصل والإعلام باهتمام بالغ، وساهمت بدورها في تطور مدارس فهم التاريخ ومناهج التأريخ. وأدّت الدراسات الأكاديمية دوراً بارزاً في تشكيل وعي تاريخي جديد تبلور من خلال تدريس التاريخ ومراكز الأبحاث التاريخية في الجامعات العالمية المتطورة التي تستقطب سنوياً أعداداً متزايدة من طلبة الدكتوراه في التاريخ الوافدين من الدول النامية ومنها الدول العربية، ثم عادوا لتدريس التاريخ وكتابته على أسس عصرية في جامعاتهم الوطنية. فانتشرت مناهج علمية جديدة كان له أثر مباشر في تطور الكتابة التاريخية على المستوى العربي. ومنهم عدد كبير ممن تأثروا بالرؤية الأوروبية لفهم تاريخ العرب الحديث والمعاصر التي ترى أن الغرب، بجناحيه الأوروبي والأمريكي، كوّن مركزاً لانطلاقة العلوم الحديثة. وأثرت المقولات الاستشراقية الغربية سلباً في النظرة الموضوعية في كتابة التاريخ العربي وتطور الثقافة العربية وتفاعلها مع الثقافات العالمية.

«فالثقافة مفهوم يضم عنصراً نقياً ودافعاً إلى السمو هو مخزون كل مجتمع من أفضل ما تحققت المعرفة به والتفكير فيه (…). مع مرور الزمن تغدو الثقافة مقترنة، غالباً بصورة عدوانية، بأمة أو بدولة (…). والثقافة بهذا المعنى مصدر من مصادر الهوية، وهي مصدر صدامي أيضاً، كما نراها الآن في حالات «الرجوع» إلى الثقافة والتراث (…). وقد أنتجت هذه الرجوعات في العالم الذي كان خاضعاً للاستعمار سابقاً أنواعاً شتى من الأصوليات الدينية والقومية، والثقافية. بهذا المعنى الثاني، هي مسرح من نمط ما تشتبك عليه قضايا سياسية وعقائدية متعددة ومتباينة. فالمشكلة في هذه الفكرة عن الثقافة هي أنها تقتضي لا أن يبجِّل المرء ثقافته وحسب، بل أن يفكر بها أيضاً بوصفها معزولة عن عالم الحياة اليومية لأنها تتسامى فوق هذا العالم وتتجاوزه»‏[5].

تطورت بعض الآراء السلبية في أواخر القرن العشرين إلى ركائز نظرية لتجديد الإمبريالية العالمية. وأبرز مقولاتها: نهاية التاريخ، وصدام الحضارات، والفوضى الخلّاقة. فبرز رد صارم لإثبات عدم علمية تلك المقولات. فالتاريخ لن ينتهي، والحضارات تتفاعل ولا تصادم، والفوضى لن تكون خلاقة ولن تسود العالم. في خاتمة كتابه يطرح هارولد موللر سؤال ما العمل؟ ويرى أن الحل باعتماد المخطط التالي: «تقديم توصيف علمي جديد لعالم الدول في المرحلة الراهنة، والعمل على إدماج روسيا، وتقديم العون لمناطق الأطراف، واعتماد أسلوب المشي على الحبال لتشجيع التعاون مع دول آسيا، والتصالح مع العالم الإسلامي، ووضع شروط موضوعية للتبادل الاقتصادي، وتعزيز دور المنظمات غير الحكومية في مجالات العمل الاجتماعي، وتعزيز مكانة المرأة، وإصلاح الغرب، ورفض مقولة صراع الحضارات وإبدالها بمقولة الحوار بين الثقافات»‏[6]. انطلاقاً من الفهم العقلاني لتطور التاريخ ومناهج كتابته، اتسع الزمن التاريخي المعاصر لجميع الشعوب لكي تشارك في صناعة التاريخ العالمي وفق الظروف الموضوعية لكل دولة أو جماعة. وبات واضحاً أن التفاعل بين الحضارات يؤدي الدور الأساسي في نهضة الجماعات الحضارية بعد تعثر مسيرتها على غرار ما قامت به اليابان، والصين، والهند. والفرصة متاحة أمام العرب لاستنهاض جديد، والرد الحضاري على التحدي الخارجي

الكاتب: مسعود ضاهر

تعليق



جورج سومري

2020-02-02

من كاتب هذه الدراسة ؟؟؟؟؟؟!!!!!!!!!

أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow