الميثيولوجيا الاغريقية - كتاب من تأليف احمد صالح الفقيه
2020-12-05
1- الأساطير
الأساطير ظاهرة ثقافية عالمية، فلا توجد ثقافة من الثقافات تخلو من أساطيرها الخاصة. وترجع الأساطير إلى ما قبل عهد الكتابة والتدوين، فهي تراث إنساني شفهي أساساً، انتقل من جيل إلى جيل حتى وصل إلينا بصورته الحالية.
والتعريف الواسع للأسطورة هو أنها قصة تصبح من خلال تكرار حكايتها وتناقلها وتقبل الناس لها على مدى أجيال، جزءاً من التقاليد الثقافية للمجتمع، بل أنها قد تصبح جزءاً من عقيدتهم.
والأساطير أنواع متعددة يصعب تصنيفها بصورة دقيقة. وقد رأى علماء علم الأساطير (الميثيولوجيا)، أن من المفيد تصنيف الأساطير في ثلاثة أنواع رئيسية، تسهيلاً لدراستها وتفسيرها. فهناك الملحمة وهي قصة طويلة تتناول حادثة تاريخية كونية أو اجتماعية مهمة، مثل خلق الكون، أو الطوفان، أو الحرب أو الهجرة العامة. ومن أمثلة الملاحم قصة أوزيريس وإيزيس في الثقافة المصرية القديمة، أو قصة جلجميش في ثقافة الرافدين، أو ملحمة سيف بن ذي يزن في الثقافة اليمنية، أو حربي البسوس وداحس والغبراء في الثقافة العربية من العصر الجاهلي.
والنوع الثاني من الأساطير، عبارة عن قصص البطولات والأبطال. ومن أمثلة هذا النوع سيرة المقداد أو سيرة الأميرة ذات الهمة. وقد ترتقي بعض قصص البطولة إلى مستوى الملاحم بسبب طول نصها وتعدد شخصياتها، بحيث تتجاوز سيرة البطل إلى تصوير حادثة تاريخية كبيرة شارك فيها أبطال كثر فأصبحت سيراً متعددة داخل سيرة. ومن أمثلة تلك الملاحم البطولية سيرة أبي زيد الهلالي، وسيرة عنترة بن شداد.
أما النوع الثالث من أنواع الأساطير، فهو القصص الشعبي (الفولكلوري). ويتميز هذا النوع بقصة بسيطة محورها شخصية ما. وتتناول القصة جانباً من الجوانب الاجتماعية أو الاخلاقية في الأغلب الأعم. ومن أمثلة هذه القصص، القصص المتعددة في كتاب ألف ليلة وليلة، والقصص الشعبي الذي لا يخلو منه أي مجتمع محلي بحيث تتعدد أنواعه ومضامينه حتى ضمن المجتمع الواحد الأكبر.
وتنقسم الأنواع الثلاثة بدورها إلى أقسام عدة، فهناك بين الملاحم ملاحم كونية تفسر أصل الكون وظهور الحياة، وهناك أساطير الآلهة التي توضح دورها في الكون ووظائفها. وضمن القصص البطولية توجد قصص حروب تخوضها مجتمعات متجاورة، أو قصص أفراد يحققون بطولات ويجترحون أفعالاً خارقة ترفع مكانتهم الاجتماعية. ثم يأتي القصص الشعبي لينقسم إلى قصص الرحلات، وقصص النساء والرجال، والفقراء والأغنياء، والشجاعة والجبن، والبخل والسخاء، وما إلى ذلك من علاقات اجتماعية وقيم أخلاقية.
وتتضمن كثير من الأساطير شخصيات متعددة كالآلهة والشياطين والكائنات الخرافية إضافة إلى البشر. كما تتضمن أفعالاً سحرية وأماكن عجائبية أوبعض تلك الأمور أو كلها مجتمعةً في قصة واحدة أحياناً. ويؤدي الجانب الخيالي من الأساطير وظيفة تعليمية تشرح العلاقة بين العالم الإنساني المادي والعالم الماورائي الغير مرئي، كما أنها تشكل تفسيراً للظواهر الكونية والعادات الاجتماعية والثوابت الأخلاقية.
ومن يتأمل في أساطير أي ثقافة من الثقافات بعمق، يجد بناء شامخاً متماسكاً يشكل أيدلوجية كاملة، تتيح للفرد مواجهة أحد أهم المشاكل الوجودية وهي مشكلة الجانب المعرفي (الابستمولوجي)؛ والذي يتمثل في حيرة الانسان إزاء الكثرة الكاثرة من الأشياء والظواهر التي يتكون منها العالم. فتأتي الأساطير لتتيح له نسقاً من الفهم والتفسير المتماسكين لوجود تلك الأشياء والظواهر الكثيرة، بحيث يمكنه وضع كل نوع من الأشياء، وكل ظاهرة من الظواهر في مكان محدد ضمن أيديولوجية متماسكة، تجيب أو تحاول الإجابة عن أسئلة تشغل الناس إلى يومنا هذا، كأصل المادة والكون والكائنات الحية، والحياة الروحية والموت والبعث والجزاء. إلى آخر ما هنالك من أسئلة شغلت الفلاسفة والعلماء والأدباء ولا تزال.
وهذه العملية تخدم الإنسان على المستوى النفسي (السيكولوجي) أيضاً، فهي تخلصه من الحيرة وتمنحه دليلاً هادياً إلى أنماط السلوك والعادات التي تتيح له الاندماج في المجتمع بصورة فعالة وصحية خالية من الاضطراب والتشتت والشك والخوف. وهي تدعم أنماطاً من السلوك والتفكير مقبولةً اجتماعياً. كما أنها تبرر نقاط ضعف الإنسان والقصور في شخصيته وتعينه على التغلب على المشاعر السلبية وعلى تقبل الظروف الناجمة عن وضعه الاجتماعي.
2- الأساطير الإغريقية
ترجع الأساطير الإغريقية إلى العام 2000 ق.م، وهي تتكون من ملاحم وقصص بطولية وحكايات شعبية تشرح معتقدات وطقوس الإغريق القدماء.
وقد اكتملت هذه الأساطير على يد كل من الشاعرين الكبيرين هزيود وهومر اللذين عاشا في القرن السابع قبل الميلاد. وقد كانت مساهمة هزيود ملحمة ثيوجوني. بينما قدم هومر ملحمة الإلياذة والأوديسة.
وتتميز الأساطير الإغريقية بأن الآلهة فيها تشبه البشر من حيث صورها ومشاعرها. فهي على العكس من الأساطير الشرقية كالمصرية والبابلية والآشورية والهندوسية، ليس فيها نصوص وتعاليم دينية، بل تتكون بكاملها من قصص وتفسر ظواهر الكون واصول الطقوس والعادات الاجتماعية، إضافة إلى قضايا فكرية ووجودية كالقدر والمصير بعد الموت، وتشرحها في أسلوب قصصي.
وعلى الرغم من أن الشراح الغربيين من علماء الميثيولوجيا الإغريقية يدعون بأن الأساطير الإغريقية وبالتالي المجتمع الإغريقي القديم يخلوان من المراتب والحكومات الدينية، فإن الأساطير الإغريقية تناقض هذا الزعم، ذلك أن لكثير من قادة الإغريق وملوكهم –في الأساطير - أصولاً إلهية صارت إليهم عن طريق معاشرة الآلهة للبشر ذكوراً وإناثاً. وهي علاقات تتم خارج الزواج، فتحدث للرجل المتزوج والمرأة المتزوجة، فلا عجب والحال هذه أن يكون لأحد الملوك الخالصي الانتساب إلى البشر أبناء أو بنات من نسل إله ما. وذلك في رأيي يفوق مستوى الحق الإلهي في الحكم الذي كان يدعيه ملوك أوروبا – إذ أن شخصيات ملوك الإغريق هي حسب تلك الأساطير أنصاف آلهة.
وتوجد في الأساطير الإغريقية آلهة متعددة وكائنات روحانية كالحوريات، وحيوانات عجيبة الخلقة، كثير منها ذا أصل إلهي. ونظراً لكثرة الآلهة في المعتقدات الإغريقية، ومزاجية تلك الآلهة، واختلاطها الكثيف بالبشر فقد تميزت الثقافة الإغريقية بنزعة قدرية شديدة، حتى أن الإغريقي كان يعتقد بأن حياته وحظه ومصيره فيها مرتبطان ارتباطاً وثيقاً برضى الآلهة عنه، وهو تأثير للآلهة مباشر ومستمر وليس مؤجلاً إلى يوم بعث وحساب وجزاء، فالجزاء مكافأة كان أم عقوبة حال وآني ويحدث هنا وفوراً. ومع ذلك فقد وازن هذا الجانب المغرق في قدريته أن الأساطير الإغريقية أوضحت حب الآلهة لصفات إيجابية في الإنسان إذا اقترنت بتقديم الاحترام اللائق بالآلهة. وذلك من شأنه أن يؤهل الإنسان لاجتراح الخارق من الانجازات بمعونة الآلهة. وهو كما نرى جانب يشجع الفعل والمبادرة الإنسانيين - ولو مشروطين - ويمجدهما.
وقد توزعت الآلهة على مدن الإغريق فاصبح لكل منها حاميه الإلهي. وكانت المعابد المكرسة لإله من الآلهة أماكن مقدسة يؤمها الناس من أنحاء اليونان لتقديم القرابين، والإيفاء بالنذور، وإقامة المباريات، أو استشارة عرافي المعبد. وكان لكل معبد كهنته وسدنته. فقد كانت هناك إذن مراتبية ووظائف دينية يقف على رأسها العرافون وسدنة المعابد.
ولقد تخللت الطقوس الدينية المؤسسة على الأساطير كل جوانب الحياة الإغريقية، فكانت الطقوس اليومية تقام للآلهة عند الطعام والشراب والحرب والزواج والبذر والحصاد. كما تقام لها الاحتفالات الموسمية عند تغير فصول السنة. وكرس الفن بجميع فروعه للآلهة وحكاياتها وصورها وتماثيلها، وكذلك كانت الملاحم والقصائد والمسرحيات الإغريقية تدور في غالبيتها حول الآلهة. وقد بلغ من تعلق الإغريق بآلهتهم أن كان لكل موضع من المنزل الإغريقي مكان مكرس لإله ما. فللموقد إلهة، ولغرف الأطفال والشباب والعذارى آلهتها، ولغرفة الزوجين إلهته، وللقاعة الكبرى إلهها الخاص أيضاً. وكان هناك مذبح في كل غرفة تقدم عليه القرابين إلى الإله المعني.
وقد أخذت الديانة الإغريقية في الضعف نوعاً ما منذ القرن الثالث قبل الميلاد، فهاهو ذا المؤرخ هومرس الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد (وهو غير الشاعر هومر) يسجل اعتقاداً أخذ يشيع في عصره مؤداه، أن الآلهة الإغريقية لم تكن في الأصل إلا شخصيات من الأبطال البشر تم تحريف سيرها وأكسبت طبيعة إلهية مع تقادم الزمن. أما الفيلسوف بروديكوس الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد فيصف الآلهة الإغريقية بأنها تجسيد لظواهر طبيعية كالسماء والأرض والشمس والقمر والمياه والرياح. ويدلي معاصره المؤرخ هيرودوتس بدلوه فيذكر أن كثيراً من الطقوس الإغريقية مؤروثة عن المصريين وديانتهم العريقة.
ومع نشؤ الحضارة الهيللينيستية الإغريقية وانتشارها في كثير من بقاع العالم منذ العام 323 ق.م مع غزوات الاسكندر المقدوني، أصبح للإغريق وثقافتهم شأن عالمي تجاوز حدود اليونان. وهي ثقافة ورثها واعتمدها الرومان الذين يرجع مؤسسوا حضارتهم بأصولهم إلى مدينة طروادة كما تزع الأساطير الرومانية وخاصة ملحمة الإنياذة للشاعر والكاتب الروماني الكبير فرجيل. ومن ثم فقد اعتبر العالم الغربي المعاصر أن أصل ثقافته هي الثقافة الإغريقية ووصف الثقافة الإغريقية بأنها ثقافة غربية قديمة قلباً وقالباً. وهذا الزعم الغربي الذي يتجاهل ويتناسى التأثير المباشر والقريب للثقافة الإسلامية في الحضارة الغربية الحديثة عبر الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، يجد سنداً له في احتفاء الفنانين والشعراء والمفكرين الغربيين بالثقافتين الإغريقية والرومانية القديمتين منذ نهاية القرون الوسطى الغربية وبداية عصر النهضة، وهو ما يتضح في أشعار الشعراء ولوحات الرسامين وتماثيل المثالين التي تملأ المكتبات والمتاحف الغربية. كما تجد الثقافتان الرومانية والإغريقية انعكاساتها في مسرحيات وروايات بل وأفلام الغربيين المعاصرين. وهو ما يجعل الشكل الذي أراده الغرب لثقافته واقعاً صلباً متماسك البنيان.
ولنقارن ما تقدم بما يدعو إليه بعض العرب الذين ينادون بالقطيعة مع التراث في كل مجالات الفكر والأدب والفن، في محاولة لاجتثاث ثقافتهم العريقة وإفقاد أبنائها ذلك البناء الشامخ الصلب الذي يجب أن يؤسسوا عليه إبداعاتهم، ليكون لثقافتهم شأنها العالمي العظيم الذي يضاهي أرقى الثقافات وأعظمها شأناً. ولكنهم يريدون بدعوات القطيعة تلك تحويل الثقافة العربية المعاصرة إلى مسخ منبت الجذور يجد بدايته في نتاج بعض أعلام الغرب في مختلف الفنون، متجاهلين أن أولئك الأعلام الغربيين إنما بنوا انتاجهم على ما اعتبروه أساس حضارتهم. فنحن نرى الأساطير اليونانية تشيع في علم النفس الذي أسسه فرويد، ونرى علماء الفلك يسمون كل مجرة ونجم وكوكب وقمر باسماء مستمدة من الأساطير الإغريقية والرومانية، ويحذوا حذوهم علماء الطبيعة (الفيزياء) فيسمون مكتشفاتهم بأسماء ذات أصل إغريقي أو لاتيني قديم، وكذلك الأمر مع علماء الأحياء بفروعها المختلفة.
إن الإنسان يبدأ في تشرب ثقافته الخاصة منذ نعومة أظفاره، بل إن الاكتشافات العلمية الحديثة تذهب إلى أنه يتلقى بعض عناصرها وهو لايزال بعد جنيناً في بطن أمه، فالجنين كما يقولون يستمع إلى الموسيقى والأصوات ويتأثر بها.
إن المرء ليشعر بالخجل من أن أمة فيها آلاف الشعراء والرسامين ومئات المثالين ليس في أعمالهم صدى لتراثنا العظيم إلا النزر القليل. وهي حالة لا يملك المرء إزاءها إلا الدعاء والأمل في أن تتغير فتستقيم أحوالنا الثقافية على الأقل لأنها المقدمة التي لابد منها والأساس اللازم لبناء حضارة معاصرة حديثة قادرة على الإسهام على قدم المساواة في الحضارة العالمية.
إن استلهام التراث في الفن والأدب لا يعني الابتعاد عن الحداثة فلكل شيء مكانه في الصورة العامة التي يرفد بعضها بعضاً وتمسك عناصرها بعضها برقاب بعض فيكون القديم أساساً للجديد والجديد أساساً للأجد. ولكن المهم أن يكون المبدع واعياً بالأرضية الثقافية التي ينطلق منها وليس مجرد التقليد للتقليد.
أرجو أن يستمتع القارئ الكريم بقراءة هذا الكتاب قدر استمتاعي بجمع مواده من مصادرها المتعددة وترتيبها وتعريبها لتخرج إليه في حلتها هذه.
أحمد صالح الفقيه
صنعاء - 2001م