Alef Logo
ضفـاف
              

خيري الذهبي في معراجه إلى جنته المفقودة

2021-07-31


يقدم لنا خيري الذهبي في روايته الجديدة الصادرة في العام الحالي 2021، وجبة عظيمة من الحنين و دفق هائل من الذكريات، رواية تختلف بشكل كبير عما كتبه الذهبي من قبل في أسلوبية شاعرية و لغة وصفية مترعة بالاستبرق و المياه الرقراقة التي تشي بها جنته التي يفتقدها في دمشق التي غادرها منذ وقت..

العمارة الروائية في رواية ( الجنة المفقودة – من القنوات إلى كفرسوسة) تتخذ شكل تراكب فكري بين الفصول، حيث المونتاج الزمني يتلاعب بالحكاية ما بين ماض و حاضر، فيما الواقعية السحرية تجد تفسيراً في شخوص الذهبي لكل ما يعجز الواقع المحلي عن تفسيره ..وبحيث يمتزج الواقع بالسحري ، وعالم الأطفال بعالم الأسطورة و الخيال الجامح.

في رواية الجنة المفقودة نتلمس حكايا لطفولة تنتقل وثابة بين ثنايا دمشق الأربعينات والخمسينات بشكل لم يسبقه أحد من قبل، حيث لا سياسة و لا تاريخ ولا مقارعات كبرى كما عودنا الذهبي في روائعه السابقة، بل قصيدة أقرب إلى الشعر المغنى يصف فيها الحواري و البيوتات والأقنية المائية و البساتين و الأشجار والأطفال …كل شي ء في عالم خيري الذهبي مفقود ، ربما هي الذاكرة التي ينبغي تسجيلها أو ربما هو الماضي الرائع الذي لن يعود، أو ربما هو معراج الذاكرة التي يسعى الذهبي لتذكير السوريين بها ..

تتميز رواية ( الجنة المفقودة – من القنوات إلى كفرسوسة) الصادرة عن دار الفكر بيروت ..بوداعة مطلقة و سلاسة في السرد النثري تجعل القارئ يغوص مع الكاتب في تلك الجنان التي باتت جزءاً من النسيان إذا ما أدركنا أن المناطق التي تذكر في الرواية باتت ضرباً من الماضي و ذاكرة ممحية …فكفرسوسة التي يصفها الذهبي في روايته و التي يقول عنها بأنه بساتين خضراء يتدلى منها كل ما لذ وطاب من ألوان الفواكه…وأقنية الأنهار التي تسبح بها الأسماك الصغيرة و الطيور البرية، لم تعد إلا حياً فارهاً بكتل اسمنتية ، أما القنوات وما تبقى منها فهي تصارع من أجل البقاء…بينما أحياء مثل جوار مطار المزة المدني و حي الشيخ مشعل و بساتين كيوان و بيادر نادر ..لم يعد لها وجود مطلقاً …وإنما بقيت كلمات الذهبي في وصفها هي من تنبه لوجودها ..

لطالما كان المكان الروائي، بطلاً في أعمال الذهبي السردية، وخصوصاً في ثلاثيته الشهيرة ( التحولات) التي يتمكن المكان من الشخوص والأبطال ويفرض عليهم تحولات تغيير من مصائرهم ـ.كما في ” حسيبة” أو حينما يتحول المكان إلى منتهى وخلاص للشخصية كما في ” الدوران في المكان ” ولكننا هنا في عمله السردي الأخير نفتح على المكان على أنه معادل موضوعي أو هدف للشخصية، بحيث يكون الحديث عن المكان معادلاً للحديث عن المجتمع و تحولاته، المكان هنا هو البطل وأما الشخصيات فهي عناصر ثانوية تقودنا في ثنايا هذا المكان، فتحولات المكان ربما هنا تعادل تحولات العائلة تلك التي تتمحور الرواية حولها …وبالتالي يعود المكان بشكل من الأشكال بطلاً ومحوراً روائياً هاماً ..فنحن هنا في بيت العائلة الذي يرزح تحت قرون من التاريخ و الحكايا و التفاصيل ، ولكنها هذه المرة من وجهة نظر طفل فتي ..يكتشف القارئ المكان بذات الدهشة التي يكتشف فيها البطل حامل لواء السرد المكان .

هي دمشق كما لم ترها من قبل، دمشق البراءة و الطفولة، دمشق الأسماك المتدفقة من طالع مياه البحرة في البيت العربي، دمشق الغزلان التي تركض في شوارع دمشق، دمشق الأنهار و البحيرات وغابات الغوطة…دمشق الطبيعة التي لم يعرفها أغلب من يعيش اليوم في عالمنا الاسمنتي، تلك الواقعية السحرية التي تمنح مدينة مثل دمشق سحراً وألقاً و بعداً آخر لا نعرفه جميعاً…فمن له أن يتخيل أن الحياة البرية في دمشق كانت على ذلك المستوى من التنوع و الجمال والسحر، الذي يحتضن شخصيات الرواية المتمثلة في عائلة صغيرة تنازع من أجل البقاء ومن أجل الاستمرار، الطفل البطل في الرواية ربما ليس إلا الكاتب نفسه، ولكنه في امساكه لسرد الرواية يشد وثاق حصان السرد الجامح فيها بشكل قوي جداً دون أن يجعل الوصف الشعري ينفلت منه أو يأخذ الرواية إلى أماكن تصويرية فقط، وهنا تكمن الخبرة الهائلة لروائي بحجم خيري الذهبي و كيف له أن يشد السرد و يعقد وثاقه إلى حافة أشجار قرى وبلدات الغوطة وأشجارها..

ذلك كان مسرح الأحداث و تلك كانت الشخصيات التي تسير في الحكاية بتناغم واحد وتتايع تراكمي يجعلنا نشعر أننا إزاء سرد جديد كلياً في عالم الرواية العربية، حيث عدد الشخصيات قليل والأحداث تتابع ببساطة حكاية جدات دمشقيات ..حيث تتولد الحكايات من ذاتها، وتندفع تطورات الحبكة عبر العقد المذكورة في كل فصل..لنصل في نهاية الرواية التي لا يمكنك أن تترك صفحاتها…إلى ما يريدنا الذهبي أن نطلع عليه ، إنها الجنة المفقودة التي يريد أن يخبرنا عنها…ويريد أن نعيشها معه…هي أغنية شاعرية وسرد حزين فردي يصف معراج الذاكرة الذي أتمه الذهبي في روايته الجديدة ..

لم تكن دمشق في ( الجنة المفقودة ) مسرحاً جديداً لأعمال خيري الذهبي، بل هي كانت على الدوام مكانه المفضل والأثير لنثر شخصياته و مصائرهم فيها …فهو قدم دمشق عبر عشرات الروايات ومن كافة زوايا التاريخ والتاريخ الموازي الذي يفضل التعامل معه ، دمشق الملحمية عبر سيرة أجيال عائلة المسدي، في ثلاثية التحولات ، دمشق صبوات ياسين والصراع السياسي العجائبي، دمشق الاصبع السادسة ودمشق المكتبة السرية ..كلها مدن خيري الذهبي وكلها دمشق، و لكن دمشق الجنة المفقودة هي دمشق جديدة تماماً على الرواية السورية، هي أشبه بقصيدة دمشقية تحن إلى كل تفصيل من تلك المدينة السرية .

Share On Facebook Share On Twitter Share On Google+ Share On Pinterest
← سوريا تودع أحد أهم علمائها وباحثيها الدكتور قاسم حسن طوير.من ذاكرة المدينة – نجاح الساعاتي →

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow