و لا بد لكل حب من سبب يكون له أصلا ، و أنا مبتدئ بأبعد ما يمكن أن يكون من أسبابه ، ليجري الكلام على نسق ، أو أن يبتدأ أبدا بالسهل و الأهون . فمن أسبابه شيء لو لا أني شاهدته لم أذكره لغرابته.
· خبر :
و ذلك أني دخلت يوما على أبي السري عمار بن زياد صاحبنا ، مولى المؤيد ( 1 ) فوجدته مفكرا مهتما ، فسألته عما به ، فتمنع ساعة ثم قال : لي أعجوبة ، ما سمعت قط. قلت : و ما ذاك ؟ قال رأيت في نومي الليلة جارية فاستيقظت و قد ذهب قلبي فيها ، و همت بها ، و إني لفي أصعب حال من حبها. و لقد بقي أياما كثيرة تزيد على الشهر مغموما مهموما لا يهنئه شيء وجدا ، إلى أن عذلته و قلت له : من الخطأ العظيم أن تشغل نفسك بغير حقيقة ، و تعلق وهمك بمعدوم لا يوجد ، هل تعلم من هي ؟ قال : لا و الله . قت : إنك لقليل الرأي ، مصاب البصيرة ، إذ تحب من لم تره قط ، و لا خُلق و لا هو في الدنيا ، و لو عشقت صورة من صور الحمام ( 2 ) لكنت عندي أعذر ، فما زلت به حتى سلا و ما كاد.
و هذا عندي من حديث النفس و أضغاثها ، و داخل في باب التمني و تخيل الفكر.
و في ذلك أقول شعرا ، منه :
يا ليت شعري من كانت و كيف سرت أطلعة الشمس كانت أم هي القمر
أظنها العــقل أبداه تـدبـره أو صورة الروح أبدتها لي الفكر
أو صورة مثلت في النفس من أملي فقد تحيّر في إدراكها البصر
أو لم يكن كل هذا فهي حادثة أتى بها سببا في حتفي القدر


هوامش :

1 - المؤيد : هشام الثاني ، حكم مرتين أولاهما من 976 إلى 1008 م، و الثانية من 1009 إلى 1013 م ، و للمزيد من أخباره انظر : ابن عذارى : البيان المغرب ، جـ 3 ص 3 و ما بعدها. و غيره.
2 – يشير ابن حزم إلى ملمح جميل من ملامح الحضارة الإسلامية في الأندلس. فحين فتحها المسلمون أبقوا على التراث الروماني الذي وجدوه ، و يتمثل في عدد كبير من التماثيل الجميلة ، و أفادوا منها في تزيين البيوت و الحدائق و الحمامات بخاصة ، و قد رسم لنا أبو تمام بن رباح الحجام صورة شعرية جميلة ، لتمثال مريم العذراء ، تحمل المسيح بين يديها ، و كان موضوعا في حمام الشطارة الإشبيلية :
و دمية مــرمـر تزهـــى بجيد تناهى في التورد و البياض
لهــا ولـد و لم تعـرف حليلا و لا ألمت بأوجاع المخاض
و نعلم أنها حـجـر ، و لـكن تـتـيـمـنا بألـحـاظ مــــراض
و قد أورد نفح الطيب ، جـ 2 ، ص 73 ، هذه الأبيات غير منسوبة لأحد.
للإمام الفقيه : ابن حزم الأندلسي ( أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد )
ضبط نصه : الطاهر أحمد مكي