Alef Logo
ابداعات
              

نص لكاتبة من القدس عن يوميات يهودي من دمشق

أرواد خاطر

2007-08-12

قرأتُ الرواية ثم سألتُ اليهودية العجوز: أتتحدّثين لغة قديمة؟

صدرت رواية (يوميات يهودي من دمشق) للكاتب إبراهيم الجبين، عن دار خطوات السورية بغلاف للفنان السوري العالمي بشار العيسى وقد تحفظت الرقابة السورية على السماح بعرض الرواية في معرض مكتبة الأسد هذه السنة رغم أن المعرض يعتبر منطقة الكتاب الحرة....هذا النص كتب عن الرواية وعن جيلا العجوز المزراحيم هناك في القدس وقد كلفت أرواد بمراقبة حالتها الصحية ..فكتبت عند سريرها هذه السطور...
"لم تكن تلك الأرض تعني لي الكثير، ولكنهم يتحدّثون عنها في البيت، وفي مكان الصلاة، وفي نشرة الأخبار، ليس مهمًا الآن استعادة تلك اللحظات، وكيف تم اكتشاف أن هذه الأرض لها
معنى آخر غير كونها شوارع وبيوت وحارات وأبنية مغبّرة، وأيضًا مبان حكومية وأماكن للفسحة والنزهات أو ما كان يسمّيه أهلي (سيران).."

أجلس على حافة سرير جيلا، وأرفع ظهرها ليصبح وجهها مقابلاً لوجهي.. يرمقني ممرض مسيحي بنظرة مستهجنة.. أعرف أن الأشخاص هؤلاء لا يعرفون سوى الذهاب إلى المطاعم ليلاً.. عيونهم العادية تفضحهم. ولكن في الحقيقة، أعرف أيضًا أنني في هذه اللحظات المتوهجة بدأت أنزلق إلى جنوني الخاص..

"أنا لا أريد السفر لأنني لا أعرف لماذا عليّ أن أسافر، قد تظن أنني أكثر تطرفًا من أهلي ولكن هذه هي الحقيقة، هنا وهناك مكان واحدٌ يا إبراهيم، يقولون أرض مقدّسة هناك، ولكن هل هذه الأرض ليست مقدسة أيضًا؟"

جيلا لا تستفيق من غيبوبتها سوى قليلاً.. وعندما تذهب وتغيب بعيدًا عن الستائر البيضاء، أراها بوضوح وهدوء أين تأخذها خطواتها الصغيرة المنهكة. أحيانًا يحدث، ولا أدري كيف، أكتشف أكثر من ذاكرة في رأسي، ربما لأنني الوحيدة التي تعرف إلى أين تشقّ جيلا الطرق بين أغصان التوت المعلّقة على الفجر.. حتى ابنة أخيها لن تفهم ذلك، ولن تعرف أن جيلا عجوزي المتعبة، مذ ذاك اليوم الذي جلست فيه أمامها، حولها وداخلها، وأقول لها: "حدّثيني عن دمشقنا التي لم أزرها.." كانت تتحول إلى طفلة دمشقية تفوح عن جسدها رائحة الجوز المخلوط بذكريات الفرح في البيساح والروش هاشناه والسوكوت والحنوكاه من شوارع دمشق القديمة..!
تخبرني جيلا عن بيتهم القديم في الحارة التي تقع في نهاية شارع باب توما الضيّق.. يشع من عينيها بريق فرحٍ ينتهكه الحزن، ولا تهدآن وهما تقفزان أمامي فوق حجارة الجدران السوداء والطريق المودي إلى كنيس جوبر الجميل الذي أتعبه الزمن.. تحدّثني عن أول حبٍ لها.. ذات شبعوت وقد ذهبت مع صديقاتها إلى اللاذقية الجميلة.. والتقت أطراف أصابعهما: شاب سوري مسلم، قال لها أن عينيها يغار من جمالهما البحر..! ترفع جيلا عجوزي الرقيقة كفّ يدها بصعوبة، إشارة منها أن أحضنها لها بكف يدي.. وتظل تحدّثني عن دمشقها البعيدة.. أنا وحدي أعرف كيف ينتفض قلبها ويدور بألم صامت في العاصمة القديمة.. وأعرف أنها في أقصى وأقسى مراحل الوجع والحزن والضجيج الإنسانيّ تريدني أن أمسك يديها لتقودني إلى الطريق ولتريني الأماكن التي جئنا من تاريخها نحن الاثنتان: أنا المولودة بعيدًا عنها بمسافة ساعة من زمن العالم، وهي، المولودة في قلبها لأبوين جميلين هناك..

"قال أبي أننا يجب أن نرحل فورًا فقد سمح لنا الرئيس بالسفر أخيرًا ولكن هناك شرط وحيد، وهو ألا نفكر بالعودة ثانية إلى هنا، ماذا أفعل؟ لا أريد الرحيل. وأبي يحقق حلمه القديم والأزليّ بالذهاب إلى هناك.. زينب لم تناقشه تريد فقط أن تذهب إلى هناك كي تتزوج رغم أنها تجاوزت الأربعين بعدة سنوات تكتمها دائمًا. راحيل مثلي تحب البقاء هنا، ربما مازالت تنتظر عودة صديقها المسيحيّ الذي ذهب إلى الحرب في العام 1967 ولم يعد."

بلا موعد ننسى أن حولنا عالمٌ كل يومٍ يدعو نفسَه إلى تدمير نفسِه.. أحكي لها عن موسى ابن ميمون الذي قرأت عنه في رواية السّوري إبراهيم الجبين "يوميات يهودي من دمشق"؛ وتقول لي أنها ما تزال تذكر مدرسة ابن ميمون هناك.. وأحكي لها، أنني وعلى الرغم من إحساسي بأبهى مشاعر الجمال، وأشدّ الأفكار زخمًا حيال أهمّ ما قرأت لأهم المفكرين اليهود الذين لم يسكنوا سوى عزلتهم، بدءًا بكافكا وليس انتهاءً باسبينوزا وهربرت ماركيوزه وكارل ماركس، بالرغم من إحساسي بروعة الورثة الإنسانية التي تركوها لهذا الكون، إلا انني أميل إلى سحره.. ذاك الشرق الممزوج برائحة الأندلس..
تبتسم عجوزي الآتية من زمان ما، وتهزُّ رأسها بحبٍ ورغبة في البكاء.. كنت آنذاك أقرأ لها آخر مقاطع الرواية.. "كتب الذي لم يكن يهوديًا، أنّه قد يكون كذلك، لولا أن دمشق بألف لغة تخبره بأن لا مهرب ولا منجى من أبوابها إلا إليها.. وانّ فكرة حُبست ذات يوم في أحشائها ستبقى تتخلّق، حتى يأذن وقتها لتعود إلى الحركة والفعل، وما الذي يجديه إن كتب؟.."

وكانت جيلا تذهب إلى النوم.. أو إلى عوالم أخرى لا يسبر غورها.. أنثى دمشقية يهودية تتسلل إلى سنين مضت إلى الأبد، بعيدًا عن عيون الذين ينقصهم أن يكونوا بشرًا ليصبح هذا العالم أقل صلابة.. أخبرتني فيما بعد، أنها وبعد هذا العمر لم تجد مبررًا واحدًا كافيًا يجبر الشخص على تغيير شخصه! وسألتني ليلة السبت أن أصلّي معها، فقد نعود إلى هناك..

"أعرف في لغتي القديمة أن الصلاة هي الدعاء والدعاء هو التمني لا أكثر.."
وصلّينا..
أتعبتكِ إسرائيل! ودمشق كانت تزني بأعصابك كل ليلة..! في رحيل وجهك البطيء عن هذه الدنيا، أرى تلاشي الميزوزاه من أبواب شارع الأمين، وواجهات المحلات التي أخبرني صديقي الدّمشقيّ ذات يوم، أنهم كانوا يتباهون بوجودها في قلب دمشق، والتي تعلق على أبوابها: يغلق محلنا يوم السبت!
ماذا أكتب يا جيلا أكثر من أنّك ما زلت سورية.. سورية حتى النخاع!
ربّما أشاركه ذاكرته في روايته، أو ذاكرتك أنت.. أو ذاكرتكما معًا، وأنتما الآتيان من أرصفة دمشق، حين أرى بوضوح بين السطور ما كان يدور هنالك في المكان الذي سنزوره رغمًا عن حمق هذا العالم..

"ما زالت زياراتي لحارات اليهود، تجلب لي الأثر ذاته في وعيي ولا وعيي، وما زلت أرى فتيات يجبن الشوارع المرصوفة بالحجر وهنّ يبحن عمّن يساعدهنّ في إدخال الخيط بالإبرة.. يوم السبت..
أسمع صوت خطواتي في الشارع المستقيم.. الذي سألني عنه يهود ويسكانسون.. الأسرار.. الأسرار.. الأسرار.. تحت المدينة.. تحت الناس."

هات يدك نذهب إلى بيتك الذي –كما تقول الرواية- لم تفكري يومًا في تركه إلى الأبد، وكنت تنوين العودة إليه منذ رحلت.. لم يكن رحيلك كاملاً –كما قرأتُ، وكما رأيت في عينيك- ولن يكون قبل عودتنا أنت وأنا أيّ رواية تكتمل.. سيصير هذا العالم أجمل عندما تفكّ الأحقاد عنه.. أعدكِ.. أعدكِ..









تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow