Alef Logo
ابداعات
              

فقرات من رواية زغب الخوخ

عبد الباقي قربوعة

2008-07-01


التفاحة بريئة يا آدم حتى هو.. حتى آخر آدم يدرك قيامة هذه الدنيا، كل واحدة تحسبه عليها، وهو يرفع يده رغبة في حك رأسه المتآكل، ولم ير الجنة بعد.. رغم أنه أخفى سوءته منذ ولادته.. فالذي حصل كان يجب أن يحصل.
سر الغواية هذه المرة.. خوخة.! لا تغضب يا آدم فالفواكه في خلق الله متشابهة، المهم أن الموقف يشبه تماما الموقف الذي أهبطك إلى الأرض، فورثته الخطيئة ثم صعدت، وحين خفق قلبه ضحك فأزلته الرغبة ثم أذلته، لا يريد أن يعبث بكل الفواكه كما فعل الآخر، فقط أراد أن يذوق شيئا من خوخة مسلوخة، يسيل سكرها على مقربة منه، غير أنها استعصت عليه، وفضلت شفاها خفيفة صفراء بدون شنب:
- عندما تفيضين فوقي يغار البحر حين أيقن أنه الوحيد الذي يغرق، شعرك الذي انتشر شبكة بين وجهي ووجهك، تتخبط فيه القبلات كأسماك ملونة، تفتح لي شهية الإبحار فالغرق فالموت، فتعالي نموت ونبيح الحياة للأسماك.. وإن جف البحر من حرنا فسيغسلنا المطر بعد حين، وستسكنى أجسادنا القاحلة أوراقا أخرى، فنهب الربيع للقادمين من الخريف، وماءنا للفارين من الحريق.. نسير معا، وكلما تقدمنا خطوة غرسنا تحتها بذرة، لنترك خلفنا حقولا من الورد، وخطة جديدة للحب والموت...
كل هذا الكلام.. وكانت غير منشغلة به، تلعب بعينيها خلفه وعلى يمينه وشماله، وكلما مرت بطن بارزة أو لوّح جيب منتفخ فتحت فمها، وفتحت كل شيء منغلق لديها.. لا يدري ماذا تريد؟ شعر بالخجل عندما أدرك أنه الوحيد الذي أشهر أحاسيسه وأشعل فتيلها، لدرجة أنه هم أن يرتجل قصيدة شعرية، لكنه احتار ماذا يصف وهي مستلقية على ظهرها، لا يفرق بينها وبين رمل الشاطئ، وجعلتها الشمس تشبه خوخة اكتمل نضجها، يكسو صدرها زغب تمغنطه موجة البحر، ينتصب متى جاءت وينام كلما ولّت.‍!
البحر كما كل صيف مخلص للجميع، يبسط ماءه للعرايا. والرمل كما كل موسم سباحة يعانقها من كل جانب، فتبدو كرغيف طازج يثير لعاب الصائمين، أما هو فقد رأى أن الرمل جعلها أرضا أخرى، حتى أنه احتار في أي أرض يقول شعره، وقد انبطحت بكل زغبها للمصطافين، كما الأرض للمستثمرين.
يبدو أن المكان لم يتسع إلا للشهوة والمال ولا مكان للشعر..! حتى جيبه قاحل يزعج سكونه بيده كلما أدخلها من غير حاجة في هذا الصيف الحار.. ولم يظن قط أن الكون سيضطرب إذا مدّد لسانه كأي طامع أو راغب أو خائف أو غيور.. لا أحد يدري.. المهم أنه مدّد لسانه إلى خوخة عارية جُن زغبها وتفشّى سكرها، ولم يعد هناك رجل يستطيع أن يعترض طريقها، وقد أوهموها أنها بلغت مستوى لا يُضاهى من الحرية والديمقراطية.
عندما وصل لسانه ابتهجت الخوخة كثيرا، حتى أنها شعرت بوهج عربي، وأنفاس دافئة تتلاطم فوق زغبها وقد أنهكها العازفون كثيرا، لكنه لم يكد يجد مكانا بين الألسن الرابضة على كامل مساحتها، كانوا يبدون كالتماسيح.. فتخبطوا خبطة واحدة، وأزاحوه عندما تبينوا أنه لسان مشحون بخطاب فصيح جاء منقذا ولم يأت للاصطياف والعزف والتمتع.
لا يدري لماذا المصطافون يعشقون سمرتها إلى حد الوله، أم لأنها تجمع بين ألوان الثروات، في هذه الجزيرة التي انفتحت على العزف، كالحصان الذي هتك حرمة ظهره الأسبان ذات احتلال، ربما حان أوان ركوب ظهر الأرض وقد يكون هذا هو موضع الركوب.
في الصحراء التي تكاد تشتعل من وهج الصهد كان يصلي استسقاء كلما كلح عطشا، لكن السماء لا تستجيب له، ربما كان عليه أن يغوص فيها غوصا تاريخيا قبل الصلاة، وهو شيء مثير للأعصاب، إذا جمع بين الواقع والخشوع، ولأن له جهاز جنسي يطغى على جميع الأجهزة، كأي راغب يريد أن يصير آدم ليبدأ كونا من جديد، فضل أن يُبقي عقله في علبته وأن يرش روحه كل مرة بماء بارد، ولا يترك من كيانه إلاّ نفسا منتصبة، تتأمل شواطئ الماء وشواطئ الشهوة، وأغصانا متدلية بالخوخ يقطر من زغبه سكر بنكهة العسل.
ذهب بخياله إلى هذا المعنى، ثم جاء رويدا إلى واقعه المفروض وانسحب من المكان، وهو يسير بطريقة خلفية إلى الوراء رأى الناس صرعى، وكالبركان يخرج من أفواههم غاز غازي، تشهره حمرة تشبه دم البشر وزرقة لسحاب من غير مطر.!!
المتصارعون على الآدمية شردوا الفراشات، وأخذوا نصف الليل لنهارهم.. حجزوا المساء لأطفالهم والياسمين وكل العشب الأخضر.. أرادوا الصباح لهم وحدهم.
ناموا ونوّموا كلابكم فالبسطاء يخلدون في نوم يرون فيه الجنة، يغطون في نومهم بلا حرص ولا كلاب، ولا سياج بأعمدة كالسهام.. ينامون على فراش رقيق وكثير من الرمل، ويغطي أجسادهم لحاف يتخلله كثير من الهواء البارد.. مطمئنون وراء باب مشقق يشدّه سلك واه.
أطفالهم يتوسدون أرغفتهم للصباح، والصباح حلو مع قهوة سوداء، ومدخنة تأكل آخر قطعة خشب.. وهم يتزاحمون لاقتناص دفء البصيص الأخير.!!
المؤمنون متفرقون فرادى يصلون صلاة الإستشهاء، يتمنون أن تتلبد الأرض بلحم رقيق يكسوه زغب كزغب الخوخ، ودائما متأهبون بألسنتهم للعزف والمتعة، ويحذرون الناس ألا يرموا بأنفسهم إلى التهلكة.
وبلعبة تشبه انتخابات العرب بال أحد الآدميين في حفرته وأعلن إصلاحات شاملة، فأقحم للحكم خوخا مسلوخا كان يبيحه للعزف، ويحرم عليه اعتلاء المناصب الحساسة وأعلن حالة الطوارئ، عندما شعر أن حياته تقارب أن تنتهي، وأنه سيفقد الخوخة التي زاد تمسكا بها في آخر العمر، وأنه لن يعزف الزغب الذي ألفه طائلا.. طائعا.! قال في خطاب حام:
- لقد أخطأتم التقدير أيها المعارضون، إن حلفاءنا أباحوا لشعوبهم تعددية العزف ولم يقولوا شيئا عن تعددية الرأي...
من المفروض أن تكون الأمة كلها حاضرة، لأن وسائل الإعلام قالت عنه أنه خطاب للأمة، أنا متأكد أنه كان يخطب في الجميع، إلا إذا كانت الأمة تشاهد قنوات أخرى غير القناة الرسمية، في هذه الحالة يمكن أن يكون قد تكلم وحده، وربما حتى هو لم يشاهد خطابه، وقد يكون اندس في زاوية ما يشاهد قناة من قنوات الـX، ومن يدري فقد تكون الأمة كلها توغلت في ذات اللّيلة المرقمة داخل الزغب المفضوح، زغب الخوخ الذي جلبته التكنولوجيا، وجعلته أرضية أساسية لترسيخ الفتوحات القادمة.
وبعد أن كان الجواسيس يَتبعون صاروا يُتبعون..!! شعر حاكم الكرة الأرضية بالخطر، عندما رأى الجماعة تحيط بقصر الحاكم، فقد ظن أنهم يرتبون ثورة للإطاحة به، فاجتمع بكل الجواسيس ليستفسر الأمر، فطأطئوا رؤوسهم جميعا..! وانفجر أحدهم بكلام خليط بالبكاء:
- هذا من جراء الخطة الجديدة يا سيدي، لقد ظنوا أننا ( ...!! )
فابتهج الحاكم:
- إذن هؤلاء أتوا لـ( ...! )، المهم ( ما يْدِيرُوشْ السياسة ).!
وأضاف:
- سأصرف علاوة مالية مهمة لكل من يتبرع بقفاه لتصير هذه الخطة سارية المفعول، ما دام العالم قد استجاب بهذه العفوية المطلقة.. ألم أتنبأ بأن العالم سيصير قرية صغيرة، وها قد رأيتم أن بإمكاننا أن نجعله مرحاضا صغيرا.!!
فأشرقت وجوه الجواسيس، وخرجوا في سباق عارم إلى حجور الجالسين في الساحة أمام قصر الحاكم.. الحاكم الذي قرر فورا خطابا للأمة احتفالا بهذه المناسبة التي سماها يوم النصر العظيم.!! صرح للشعب أنه سيضاعف عدد الجواسيس فتعالت الهتافات:
- يحي الحاكم .. يحي الحاكم..!!
ولما علمت النساء بما أضاف الحاكم من صلاحيات لذيذة للجواسيس، اعتصمن أمام القصر ورحن يهتفن بصوت واحد:
- لم نعد نشعر بالراحة أمام بياض هذا البيت، نريد أن نعمل في بيوت الراحة العربية، نحن أولى بهذا العمل الاستخباراتي في هذه القرية التي ندر فيها الزواج.!!
وهكذا اكتملت العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين العازف والمعزوف، وتضاعف الهتاف والتصفيق.!
حتى أن الكثير من العرب تفقدوا خوخهم، فوجدوه قد تعفن من فرط حبسه تحت سطوح المنازل. فهرعوا يبحثون عن هذا الخوخ الأصفر المستورد، وما سهل العملية أن المستثمر الذي سعى لهذا النشاط الاقتصادي المهم، قال للمتهافتين إن المنتج لهذا الخوخ الأصفر يحب الخوخ العربي، قال إن فيه نكهة البيرة لكثرة ضغطه في البيوت، فتمت العملية في إطار تحسين العلاقات والتعاون الاقتصادي والتبادل التجاري.
أما العقلاء الذين لم يختلط عليهم اليقين، فأعتبرهم الحاكم شواذ بدون شهوة، فأدخلهم مصحات في شكل سجون، أكثرهم تماثلوا للشفاء، لأن الطبيبات كن جاسوسات في شكل خوخ بزغب أصفر فاقع لونه يسر المتمردين.
أما أولئك الذين أبوا العزف فقد أشهروا لافتات من وراء القضبان كتبوا عليها:
- نريد أن نعزف زغب الحاكم فإنه يبدو لنا وهو حريص على حلق شعر وجهه، يشبه الخوخ المسلوخ النادر.!!
المدينة مسلوخة معلقة على مساحة جدار أحمر، فلما يُبقي هذا الحي على وميض حلم سخيف:
- توقف عن الخفق أيها القلب اللعين، لماذا لا تثور ضد أولئك الذين يسرقون زبدة الأرض.. لماذا لا تثبت على طموحك كما يثبت ذلك المغرور على كرسي الخيانة الذي يعبث بأحلام البسطاء، ثم يدعي أنه مناضل من أجل الحرية ومهووس بحفظ السلام في العالم.؟ أنا أعرف أنه يسخر من الجميع.!!
تمثل له صدرها وهو يتململ كوجه المدينة، وارتسمت ملامحها جلية كما لو أنها تكلمه بعد جفاء طويل. ولأن زغب الخوخ لا يزال يتحرك بريح غريبة، استطاعت الموجة أن تصل إلى قدمه فأيقظته وأفسدت عليه متعة الحلم.. ولو أنه غاص في سكرها كما فعل الوافدون دون أن يستميلها كي تتذكر الماضي خيرا له من فكرة استنفرت كل أنصار العزف.!
حرمانه جعله يتذكر أن في داخله طفلا لا يزال يشتاق إلى لعبة رآها في الواجهة، لعبة تشبه ذاك العطر الذي ضمخ هذا المضيق اللذيذ الوافر بالزغب كان يتناغم بصفرة على سمرة تشبه الخوخ.
طفل حين طرده صاحب المحل اكتشف أنه لم يأكل اللعبة بعينه كما ينبغي، فتأججت الحرقة في صدره وتسرع بأمنية حمقاء، لم يبلغها حتى غزاه الشيب على كامل مساحات جسمه، ولم يعد يدري أهو صغير أم كبير وقد كبرت اللعبة في عقله.؟!!
تراه يستمر في هذا الحلم، وقد لحق به ابن هذا الطفل يراوده أن يشتري له حلوة مستوردة.؟
تململ الطفل الأصل في المكان، كان يظن أنه يتململ في مكان منعش من جسمها، قبل أن يفاجئه قرير مصرانها الأعور، فأدرك أنه محروم من سماع دقات قلبها، ومن الاغتسال تحت دفق ريقها، ومن أن يعزف بأنامله زغبها.. كانت صرتها نقطة نهاية الحلم، حين أبعدوه عن مواصلة الرحلة وكانت سككها اللحمية ممتدة إلى دائرتها الحمراء.
لا تزال تقف على أطرافها الأربع تصوب قفاها نحو الغرب.. السلسلة المنحدرة من جيدها توقفت وأعلنت ظلاما معسولا بين نهديها، وقسمت استقامتها نصفين، وعندا امتد الخط على مستوى بطنها، شكلت صرتها نقطة من هذا الخط السياسي اللّذيذ، ثم امتد إلى صفرها المغمور بالبهاء والسكر.. أمواج البحر المترادفة عملت على امتداد هذه النقاط إلى خطين تغمّدهما لون قرميدي لامع، ثم توازيا.. وكي يشكلان فما كالحا تقاطعا طرفاهما، وشكلا زاويتين كأنهما تقطران بترولا، لكنه جن حين رأى بين البياضين ريشة حمراء برأس أكثر حمرة، ظهر له أن هذه الريشة انبطحت طواعية كي تعزف بأياد صفراء وافدة في شكل رسول يبشر بالخير والرخاء. وكانت هذه الريشة هي مصدر البثق المنعش، الذي جعل الرُّحل وكل الشوائب المتذرعة بالسياحة والاستثمار تخيم في تكاثر مريب، وكان يزداد يقينهم يوما بعد يوم أنهم لن يغادروا المكان، ولن يسمحوا لأي شخص أن يزاحمهم فيه، أما هو فلا أحد يدري لماذا لم ينبطح ليعزف هو الآخر. حسب روايات الوافدين أن زغبه كان خشنا جدا، موروثا من عروبة قديمة، وقيل بأن هذه الريشة لم تطق عزفه، وقد تبدلت فطرتها وفسد مزاجها، حين تعودت أن تعزف بيد صفراء ناعمة ولذلك ثار.. لم يكن ينوي أن يأكلها فهو يعرف أنها لأصحابها، أراد فقط أن يطرد هذه الأنامل الصفراء الدخيلة التي حرفتها عن إيقاعها العربي، ولا يزال لسانها كلما أطل من رحم فمها يمطر شهوة وبترولا.
انتصب زغب الخوخة العربية وملأ عزفها الدنيا.. فراحوا يأكلون ويصفقون، وعندما كثر الموز والأضواء، وازدهرت حرية الخوخ عبر خرائط المعمورة، ظنوا أن هذه هي المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها.. وفي أوج الانبهار والانفتاح صرخ فيهم:
- تأخروا إلى الوراء..
أشعل الفوهة.. صفقوا.. عزف زغب الخوخة.. رقصوا، ثم اجتمعوا.. واحتفلوا بنجاح الشراكة.!!
لم يكن يهمه من يشعل فوهة الخير، ولكنه حزين حين رأى بأم عينيه زغب الخوخة يحترق من فرط العزف، تضرب عليه يد صفراء عزفا غربيا زيف الرقصة العربية، وأهدر هزتها الشامخة التي كان يهابها الذباب والجراثيم..!
خرجت التماسيح من أفواه المصطافين، وأخذت تدور على محيط شفاههم بشراهة مفرطة، ثم رفع يده يحيي الفاتحين من كل لون، ودائما تخطيء الأيادي السمراء تظنه يحسبه عليها، فتنبت من تحت الطاولات كسنابل عجفاء من غير قمح تجهل الريح التي تحركها.
أسند رأسه على قطعة خشب منخورة، كانت قد جلبتها الموجة، قطعة تشبه تلك التي يحملها الإمام.. عصا الإمام لم تذكره بأي موت شريف، ولا بأي نهاية يحبها الله، شعر كأنه قشة في واد عارم يذهب به إلى هاوية ساحقة.. راح يودع الزغب ويودع الخوخة، رغم أنها لا تزال ساخنة تتلقفها كل يد عابرة وقد نفرت من أي زعامة عربية، رغم أن الطاولة تُضرب بقوة في كل اجتماع من كل مكان، وهي تبرز بفوهاتها المشتعلة وقد بدت له بأثداء كثيرة وكان ريق الرضع يسيل من وراء الحدود.
حتى هذا الرأس المؤرجح بين الموت والموجة الجديدة، لا تملك هذه العصا قدرة لتسنده كأنها تتوق للاصطياف هي الأخرى.. ومن يدري؟ فربما تتلهف لتعزف الزغب هي أيضا، ولذلك لم يكن يسمع من دروس الدين في المساجد العربية إلا آداب النكاح.!!
ظن أنه مات.. فاستيقظ على الأغاني المبهمة، والإيقاعات المبعثرة لسياح الظلام.. الكلام الغريب الملتوي من عقول الثمالة الزاطلين، الذين توافدت شفاههم لاهثة على الرمل تبحث عن المزيد من الزغب اللطيف.. كأنها تعقد العزم لتعزف كل الخوخ بمختلف مواسمه.. حتى الذي لم ينضج بعد.
وها قد خفق قلبه خفقة أخيرة.. كأنها الأولى في عمق هذه الذات المنهكة، سرُّ صدمته أنه كان يبحث عن حواء، أو بمعنى اللوحة الأصلية المفقودة التي أبهرت آدم، ولا يكتفي برنين هذا الزغب النابت على لوح منخور.. فلم يعثر إلا على نسخة حملت بصمات مختلفة.. نسخة مترامية في شوارع السياسة، تبحث بشفاه يابسة عن مقابل لتزيح أوراق التوت عن سوءتها، كي تغري ألف أمرد تحت ألف نخلة ولا تبالي.
المضحك أن إبليس مطمئن فلم يستدعيه الأمر لاستعمال دهاءه الخارق لزخرفة الموقف، بل كان يلهو على أرجوحة لعنة الغيب، يستعيد بخياله الملتهب صراعه مع آدم الأصل.. قدماه تركل في الرواح والمجيء النسخ الآدمية التي نخرها بإغوائه حتى صيرها كالدمى.
هو أيضا هيكله تاه عن مفاصله، كما زغبها توهها عن تاريخها.. كما الخوخة تكحلت بجذوع نخيلها وأعلنت فسقها..
قرأ على قبر جده ذات وحشة أن السقوط أكثر بشاعة من المسخ، فالسقوط إطاحة بأي حكم مفترض لأي دولة مفترضة، والمسخ إطاحة بالآدمية ونمط فكرها.. قرأ أشياء كثيرة حتى كاد يُجن.
أصمتوا أيها الذين آمنوا.. فعمائمكم البيضاء لم تعد تنبت سنابل الأولين، ولم تعد سجاجيدكم الحافلة بالعطور إلا أفرشه تقطر بسوائل الشهوة في الليالي الحمراء التي يحبها الشيطان. أفرشه في عنت تعزم رحلة إلى المدينة الزاخرة باللذة وزغب الخوخ، رحلة لم يسمع فيها إلاّ الفحيح والتأوهات.. أصمتوا أيها الذين آمنوا لا تفتون مرة أخرى أن القيامة قد تكون غدا.!!
أصمتوا أيها المتطيبين، واسقطوا عمائمكم من فوق رؤوسكم فإنه يراها كالثعابين، أجّلوا السواد إلى موعد آخر كي تحتفلون بالحقيقة جميعا.!
ها قد بانت الشمس بين القبتين وغاص نصفها خلف صدرها، وامتدت ظلال الزغب تنبئ بنهاية النهار المفضوح.. ظلام الليل أذّن للنفوس الصائمة عن اللذة أن كلوا وتمتعوا واعزفوا وارقصوا.. فراحت العمائم تمسح أعينها حتى تتبين مواقع الخوخ، لتعزفه عزفا دينيا بحجة التصوف.. تلتهم الزغب بشراهة لا تتوقف، وتكره أن يدركها آذان الإمساك الذي يفلق بين اليقين والنفاق:
- أن كلوا واعزفوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيوط الملونة.!!
- نامي أيتها الخوخة الجاحدة.. تلمسي جسدك، واستنفري كل عاداتك السرية.. استنطقي جسدك ليفشي كل ألحانه فالقيامة قريبا ستقوم. لا تسالي قلبك عن البارحة وكلي واشربي، حتى يتبين لك الخيط الملون من فجر يوم قد لا يأتي، عندما تغدو الأيام تشبه بعضها.. نامي قريرة الجوارح، ولا تسالي قلبك عن الآتي من الزمن، فمنذ أن هبطت أيتها الجاحدة في قاع الخيانة، قامت قيامتك وقيامتي فنزلت أنا من جنتي، ولست أدري خوختي التي كنت أملك ماءها وهواءها في أي يد هي.!!
مسح بكمّ قميصه الماء المالح الذي اكتسح وجهه، ونظر إلى الأفق البعيد الذي تماوج شفقه بحمرة داكنة، وفي حنين عارم جعل الأسماك تطفو فوق الماء لتتساءل هي الأخرى:
- هل مازالت خوختك تحتفظ بلون الورد وشكل السمكة، أم أنها هيكل يسبح في جوف الماضي، يبكي في دهاليز الذاكرة.؟ هل أدركت موسم التفاح أم أنها لا زالت فرحة بالخوخة البلاستكية.. أهدرت لأجلها كل عزفها، ولم تصل إلى النغمة التي أبدعها الله فيها.. فتلوثت دون أي إيقاع يُذكر، ولم يكتشف بذرتها المطر بعد.؟
تجمعت الفراشات وكل المخلوقات الجميلة، وكأنما خلل ارتبك منه الكون، وقد تساءلت هذه المخلوقات فوق رأسه بفم واحد:
- تراها لا زالت تلبس رهافة الفراش كما كنت تراها كل صباح، أم غطى ذباب القمامات بطرحه ورد ذاك القماش، القماش الذي أبهرها فأنساها أن لكل عام ربيع..؟ أم أنها قد اشتاقت إلى الحرير العربي الأصيل وحنّت للياسمين الغاضب، وزادت لهفتها للربيع الذي خمد حين أباحت زغبها بعيدا عن الزغاريد والدفوف.؟



تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

عراجينُ مائها الصيفي..

21-نيسان-2012

لاعبة التنس

25-آذار-2012

جَرَّةُ حَلمة

31-كانون الأول-2010

حكاية الحصان..!

21-كانون الأول-2010

حكاية الناقة

04-كانون الأول-2010

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow