Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

لماذا لا أكون فيلسوفا ..؟ للكاتب الأمريكي روبرت لند ـ ترجمة

محمد سليمان السُّديس

2007-10-17

أقرأت شيئا لإبكتتس في الأيام الأخيرة ؟
لا لم أقرأ له في هذه الأيام شيئا .
أهو كذلك ؟ إنه ليجمل بك أن تقرأ ما كتبه , ف ( تومي ) يقرأه حاليا للمرة الأولى , وقد هيمن على إعجابه .
تسللت إلى سامعتي المرهفتي السمع هذه القطعة المقتضبة من الحوار من المنضدة المجاورة في ردهة نزل , فانتابني هاجس بأني من هذه اللحظة أمسيت ذا شغف بالشأن , لأني لم أقرأ أي شيء لإبكتتس مع أني غالبا ما ألقيت نظرة عجلى على آثاره المصفوفة في الرف , بل لعلي حتى استشهدت ببعض أقواله فيما سبق أن كتبت .
وتساءلت عما إذا كان هذا هو أخيرا , كتاب الحكمة الذي ما فتئت ألتمسه بين الحين والحين منذ كنت تلميذا في المدرسة .
إني لم أفقد اقتناعي المبكر بأن الحكمة كامنة في موضع ما من كتاب ما ليلتقط بيسر كما تلتقط صدفة مطروحة على الرمال .
أعشق الحكمة عشقا لا يدانيه سوى عشق سليمان ( عليه السلام ) لها . لكنها يجب أن تحاز بأدنى قدر من المحاولة . حكمة تكاد تجوز الإصابة بها بالعدوى , فلا وقت لدي ولا نشاط للبحث المجهد عن الفلسفة . إني لأود أن يأخذ الفلاسفة على عاتقهم ذلك الطلب الشاق المنهك للقوى , ثم , إذا فرغوا , يطعمونني ثمار جهودهم تماما كما أحصل على البيض من الفلاح , والتفاح من البستاني , والأدوية من الصيدلي . فهل أتوقع أن يمدني الفيلسوف بالحكمة لقاء ( دراهم معدودة ) ؟
من أجل ذلك قرأت مرة إنتاج إمرسن , وقرأت مرة أخرى إنتاج ماركوس اوريلوس . كنت أعلل النفس بأملي أن تجعلني قراءة آثارهما حكيما . لكني لم أضح حكيما ! . كنت متفقا معهما في أفكارهما أثناء قراءتي لها , لكن ما إن أنهي القراءة حتى ألفيني الإنسان نفسه الذي كنته من قبل نفسه , لم أتغير في قليل أو كثير , إنسانا عاجزا عن ألا أكون غير آبه بالأشياء التي حثاني على ألا أكون غير آبه بها .
ومع ذلك , فلم أفقد قط إيماني بالكتاب . إني لعلى ثقة صلدة أنه في مكان ما ثمة شيء مطبوع سأتمكن من أن أمتص منه الفلسفة وقوة الشخصية , وأنا أنفث الدخان في أريكة وثيرة .
كان ذلك مزاجي لم شرعت في التفكير بإبكتتس بعد سماعي المحادثة في بهو النزل .
أعترف أني قرأت آثاره بقدر كبير من الاستثارة . فهو نوع من الفلاسفة يحظى بإعجابي لأنه لا يعامل الحياة على أنها , _ إذا حسنت _ جدل يدار بلغة مستغلقة على الفهم , لكنه يناقش , من بين مسائل أخرى , ما الذي يحسن أن يسير عليه الناس في شؤون الحياة العادية .
وافقت عل كل , أو جل , ما قاله : عدم المبالاة بالألم والموت والعوز , . نعم هذا شيء حسنٌ بيِّن الحسن , ألا يقلقك أي أمر لا حيلة لك في الهيمنة عليه وتوجيهه الوجهة التي تشاء , سواء أكان ذلك الأمر قهر الطغاة أم رعب الزلازل !
وحول ضرورة ذلك , أيضا كنت وإبكتتس كرجل واحد !
ومع ذلك , وعل الرغم من قوة الشبه بين نظرتينا , لم يسعني إلا أن أستشعر أثناء قراءتي أن إبكتتس كان حكيما في تمسكه بآرائه , وأني برغم تمسكي بالآراء عينها , بعيد عن الحكمة بعد العيوق عن الثريا , لأنه في الحقيقة , مع إيماني بتلك الآراء لغايات لا قبل لي بتطبيقها تطبيقا عمليا لحظة واحدة !
إني لأرى في الموت والألم والعوز شرورا حقيقية جدا إلا إذا كنت مسترخيا على تلك الأريكة الوثيرة أتصفح كتابا ألفه فيلسوف ! . ولو زلزلت الأرض وأنا أطالع كتاب فلسفة لنسيت الكتاب , ولانحصر تفكيري في الزلزال وحده دون سواه , وفي الوسيلة التي تيسر لي تفادي الحيطان المنهارة والمداخن المتهاوية !. هذا مع أني أكثر الناس إعجابا بسقراط وبلينوس ومن لف لفهما .
ومع أني قوي بصفتي ( فيلسوف أريكة وثيرة ) فإني أحس روحي المعنوية وجسدي كليهما واهنان عندما تنتابني نائبة . وحتى في شؤون الحياة الصغرى لا تقوى نفسي أن تتقبل قبولا حسنا كوني فيلسوفا من مدرسة إبكتتس . وهكذا حين يسدى لنا , مثلا , النصح بأن ( نتغذى حسبما تقبله الطبيعة ) , ويطلب منا , من أجل هذه الغاية , أن نتجمل بالصبر وضبط النفس عندما نجابه بأشد الخدمات قصورا عند الجلوس لتناول وجبات غذائنا . إنه ليطلب موقفا روحيا لا قبل لطبيعتي التي جبلت عليها به , ويكلفني من أمري شططا .
يقول : " إذا طلبت ماء حارا فلم يفطن العبد لطلبتك , أو إن فطن لها لكنه جاءك بماء فاتر , أو حتى إن لم تلفه في المنزل فاجذب عنان غيظك , وكبح جماح ضجرك , ولا تنفجر ! ألم يكن ذلك حسبما تقبله الطبيعة ؟ ألا تتذكر من تحكمهم ؟ وأنهم عشيرتك , وأنهم إخوة لك ؟ .
إن ذلك بحذافيره حق كل الحق , وصدق كل الصدق , فيا ليتني كنت امرء ذا مقدرة على القعود الساكن في مطعم وعلى شفتيه تشرق بسمة , وهو مستعصم بالصبر , لائذ بحمى الفلسفة , متحل بها , والنادل يأتيه بكل ما لم يطلبه , ولا يأتيه بأي شيء طلبه , أو لا يأتيه بأي شيء البتة .
لكن الصحيح أن الخدمة الرديئة في أماكن التغذي تغيظني ! إني أمقت أن أضطر لطلب المشروبات مرات ثلاثا , وأستاء أيما استياء إذا بُلغت بعد استثناء ربع ساعة بأن ليس هنالك ( كرفس ) .
صحيح أني لا أعمد إلى الضجيج والجلبة أو العنف في مثل تلك الملابسات , فما أوتيته من جرأة غير كاف لأن أصنع ذلك . أنا مقتصد في العتاب الحاد اقتصاد فيلسوف , لكني أخال الروح المتجهمة في باطني لا بد ستبرز نفسها على أساريري . إنه لا يدور بخلدي إطلاقا أن أقول لنفسي : إن هذا النادل قريب لي ! إنه أخي . وبالإضافة إلى ذلك فحتى وإن كان كذلك , فلمَ يؤدي ( أخي ) الخدمة تأدية على هذا النحو من السوء ؟
لا ريب أن إبكتتس لم يطعم في مطعم قط ! ثم أن صبره قد يخدمه حتى في ذلك المكان . إذا كان الأمر كذلك , فيا للبون الشاسع بيني وبينه ! وإذا لم أقوى على تحمل التجمل بهدوئه ورباطة جأشه في مثل هذه الشؤون الصغرى , كما أسلفت القول , فأي أمل بقي لي في أن أتمكن من أن أمثل دور الفيلسوف في حضرة الطغاة والزلازل ؟!
وكرة أخرى , حين عبر إبكتتس عن آرائه بخصوص الممتلكات المادية , وأوصانا بألا نأبه بها , ولا نعترض على سرقتها , فإني موافق نظريا على ما ارتآه , ومع ذلك أعلم علما غير مشوب بريب أن لا طاقة لي بطاعته عند العمل !
لا شيء مؤكدا أكثر من أن الذي تتوقف سعادته على ماله امرؤ غير سعيد , لكني أيضا متيقن تيقنا لا مرية فيه أن العاقل قد يكون سعيدا بالنزر اليسير من المال , لأن السعادة ينبغي أن تظل غاية الحياة كما يرى إبكتتس , أو أرى أنا .
لكن إبكتتس , على الأقل , لديه مثال عال هو ضبط النفس , وهو يؤكد لنا أننا سنحوز هذه الصفة إذا لم نعر الأشياء المادية اهتماما , ولم نلق لها بالا , حتى أننا لا نبالي أسرقت أم لم تُسرق .
إنه يهتف بنا : " أبطلوا الإعجاب بهندامكم ! ولا تصبوا جام غضبكم على من يختلس ملابسكم ! " ويواصل القول عن اللص ....: " إنه لا يعلم أين يكمن الخير الحق للإنسان , لكنه يخاله يكمن في ارتداء بزة زاهية . إن ظنه هذا عينه تظنونه أنتم كذلك . أفلا يأتي إذن ويفر بها ؟ "
بلى . أفترض أن من الأنفع له منطقيا أن يصنع ذلك , ومع هذا فلا أملك أن أستشعر هذا الإحساس في اللحظة التي أدرك فيها أن ضيفا ما في احتفال قد امتدت يده إلى قبعتي الجديدة , وترك قبعته السملة مكانها .
إنه لا يجديني , ولا يهدأ من ثائرتي أن أردد في نفسي : " إنه لا يعلم أين يكمن الخير الحق للإنسان , لكنه يخاله يكمن في سلب قبعتي !" . ولن أحاول – حتى في الحلم – التسرية عن ضيف في حفل في داري بمثل هذه الفلسفة في أحوال مماثلة .
إذن فقد قبعة جديدة مسبب لضيق الصدر الشديد . إن فقد أي شيء مسبب لضيق الصدر , ولا سيما إذا عرف المرء أنه مأخوذ عنوة .
وأنا أشعر أن في إمكاني محاكاة إبكتتس لو مارست العيش في عالم لا تقع فيه أحداث . أما دنيا تغيب فيها الأشياء إن فقدا وإن سلبا وإن نشلا , دنيا يقدم فيها ندل سيئو الخدمة وجبات رديئة في كثير من أمكنة التغذي , ويقع فيها ألف من الأمور الأخرى غير المحببة , فلأن يصعد الإنسان العادي الهملايا حافي القدمين أهون عليه من أن يحاول أن يحيا حياة فيلسوف بصفة دائمة !.
وعلى الرغم من ذلك , فإن غالبيتنا لا يسعها إلا أن ترى الفلاسفة على حق – على حق لم أعلنوا – برغم اختلافاتهم كلها – أن جل ما نحفل به من أشياء غير خليق باحتفالنا .
الحق أن الناس جميعا متفقون على أن رجالا كسقراط وإبكتتس كانوا مصيبين كبد الحقيقة بعدم احتفالهم بالأمور المظهرية . حتى أولئك الذين يدنو دخلهم في العام من 10000 جنيه , ويبذلون قصارى جهودهم لحيازة المزيد من المال يقرون بذلك . ومع هذا , وأثناء الإقرار به , سينتاب معظمنا الهم لو شرع أحد أحب صحابنا إلينا في تطبيق فلسفة إبكتتس بحذافيرها .
إنا لننظر إلى ما نعده حكمة لدى إبكتتس على أنه جنون إذا كان لدى أحد من نعرفهم , أو لعل الأصح ليس لدى أحد من نعرفهم بل لدى أحد أقاربنا الأدنين .
لا تساورني ريبة في أن لو أضحيت كإبكتتس في عدم احتفاله بالمال والراحة والأشياء السطحية قاطبة , ولو ماريت كما يماري باسما ابتساما جذلا عند ذكر الممتلكات واللصوص , لاعترى ذوي قرباي غم أكثر مما لو أمسيت مؤسس شركة ناجحا لديه من الفلسفة المادية أوفر نصيب قادر الفكر على إدراكه .
لتفكر , مثلا , بالمنحى الجدلي الذي نحاه إبكتتس في حديثه عن اللص الذي سلبه قنديله الحديدي :
" إنه ابتاع قنديلا بثمن باهظ , لقد صار لصا من أجل قنديل ! لقد صار خائنا من أجل قنديل ! لقد صار بهيميا من أجل قنديل ! هذا ما بدا له مريحا !"
إن هذا التعليل مصيب . ومع ذا فإننا أفرادا وهيئات اجتماعية لا نزاول في حياتنا هذا الازدراء للمال الذي بني عليه . نعم ثمة نفر قلة يصنعون ذلك , لكن حتى أولئك يسببون , في بادئ الأمر , لأصحابهم ضيقا وبرما عظيما .
حين تكون الدنيا عادة مبهجة ومريحة , فإنا نستمسك بالرأي الموحي بالتناقض والقائل إن ( الفلاسفة رجال حكماء , لكنا , إن حاكيناهم , مجانين ) .
نحن على ثقة أنه , مع أن أفكار الفلاسفة قمنة بأن تقرأ , فإن الماديات أيضا قمنة بالاحتفال بها .
يبدو و كأننا نجد متعة في الحكمة إذا كانت ( مشهدا ) ... مشهدا سارا على خشبة مسرح لا يليق بالنظارة محاولة انتهاك حرمته .
أَخُلِقَ الإغريق والرومان من طينة أخرى ؟ . أحول المعجبون بسقراط وإبكتتس حقا أن يصبحوا فلاسفة , أم كانوا مثلنا آملين في نيل الحكمة لا بالممارسة بل بجرعة سحرية يقدمها لهم إنسان أغزر منهم حكمة ؟ .. أن يصبحوا فلاسفة بلا محاولة .. بالاستماع إلى صوت .. بقراءة كتاب ..
إنه أعظم الأحلام إثارة وأكثرها إرضاء في آن واحد . في مثل هذا الحلم تعلقت بإبكتتس , ولتلاحظ أنه ما كان سوى حلم .


القصة منشورة في مجلة الفيصل السعودية العدد 119
مرسلة بواسطة مصعب فريد حسن

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow