Alef Logo
ابداعات
              

أطوار المرأة / الوردة قراءة في سرديات حنان سعيد الجريئة

غريب عسقلاني

2007-12-11

- مقاربة نقدية

في مجموعتها الأولى أمطار تموز 1998بشرت حنان سعيد بكاتبة من طراز مميز، يفيض على جوانب لغتها أريج امرأة راغبة حتى ذروة المعايشة، مسكونة بالحيرة والأسئلة مع إشكاليات الحياة في مدينة تضج بالشهوات بقدر ما تضج بالأوبئة في عصر الألفية الثالثة, الذي يتعامل مع المادي بالقفز عن كل المعايير والأعراف والمواريث، ويقف بصرامة واستخفاف في مواجهة المعنوي, ما يجعل الإحباط والانكسار والفقد والاستلاب أهم ما يميز الحياة على الأرض.. وفي ظل المتاح والمفروض، تدخل حنان سعيد الأنثى في أتون اختبار الذات في مرايا الآخر/الرجل, تحاول جاهدة الإمساك بطيفها الحقيقي من خلال استقصاء حالات الانبهار والانكسار والانهيار، معتمدة في ذلك على جملة قصصية مقننة، ومعرفة متعددة الآفاق، وحضور لافت عند لحظة الخلق، وحذر دائم من مراوغة القصة القصيرة حتى لا تقذف بها مثل الكثيرين إلى هوامش الحكاية, وهي الراغبة كل الرغبة في الدخول إلى بؤرة انصهار الفن والحياة وصولاً إلى الكشف/ الاكتشاف.. لذلك لا يشغلها كثيراً تأطير الزمان أو تحديد المكان، فالزمان نفسي معنوي والمكان فضاء الذات المنفلت من اسر الأمكنة التقليدية, لذلك تميزت قصصها باندياحات تيار وعي محمولة على لغة شاعرة، أو مقطرة في حكمة تلبس ثوب مقولة فلسفية, ولعل أهم أما يميز أقاصيص أمطار تموز, ذلك الشجن الحزين والبكاء الصامت المرافق لحالات وأطوار المرأة فيبدو رجع لحن خارج للتو من لوعة الحسرة والفقد الطازج، الناتج عن مصارعة زوج غائب الوعي أو مُغيبة, أو عاشقة سكنت وصاحبها وردة العشق، فأدركتهما ضربة جفاف لا يرحم, أخذت كل واحد منها إلى سبيل، أو تلك المُحبة المنفتحة على الحياة التي ظلت تنتظر أمومة رائقة, فأدركتها العنوسة قبل أن تتقاطع مع رجل يبذرها نطفته, أو تلك الحذرة من الوقوع في شرك رجل عنكبوت، فتذهب لرجل يريدها ولم تختبر أحاسيسها اتجاهه وكأن لكل امرأة رجل/ قدر.. ولأنها المستلبة من واقع لا يرحم, فلا بأس لو تزوجت من رجل في حقيبة سفر يغادرها أول الأسبوع مع ملابسه النظيفة, ويعود في نهاية الأسبوع مع عرق عمله ومعاناته.. وما بين الخروج والدخول يعيشان فاصلاً مؤجلاً, ويمارسان حياة زوجية صائمة عن موجباتها وموحياتها..
وها هي حنان سعيد.. وبعد طول انتظار تعود في مجموعتها الثانية امرأة لا أريد أن ألقاها. أكثر خبرة وأعمق تجربة بالحياة والكتابة, فهل مازالت مشغولة بذات الأسئلة, تعيش الفقد والاستلاب في مدينة طاردة تمارس الافتراس..؟
أعتقد أن حنان سعيد لا تغض الطرف عن سؤال إجابته معلقة، لذلك نراها دائمة الاشتباك معه, مدفوعة إلى ذلك بمئات النساء الساكنات فيها..تراوغ بوعي المكتشف لنزع الطبقات الصدئة عن لؤلؤة الحقيقة, والحقيقة عندها أن المرأة تتوهج بالحب، وتعلن عن سحرها في العطاء، ولذلك مازالت تستقصي ذاتها كحالة, مؤمنة أن عوالم المرأة تستحق الكثير, وان الوقوف على حقائقها يعني ولوج الحياة من بواباتها الحقيقية, ولكن هل عادت بنفس الأدوات الأولى، وبذات الخطاب.؟.
السمات الأولى ما زالت حاضرة ولكنها هذه المرة متطورة متمرسة منسجمة مع روح الحالة غير طارئة عليها. تمتلك قدرة خطف اللحظة في تجليات بكارتها وصدقيتها قبل أن تعلق بها التشوهات, ينعكس ذلك في طبيعة القصص التي تميل إلى القصر المكثف، تأتي في صورة ومضات كاشفة لكوامن مخبوءة، أو إعلانا عن موقف عندما تشف الفكرة متخلصة من أدرانها..
الفقد جب عدم والعشق ندى قطرة
في لحظة الكشف مضيئة أو قاتمة تتجلى الابتسامة باتساع موجة، وتستطيل الشهقة كقامة الموت, ويصبح الفقد فجيعة تشبه جب العدم.. كما يتجلى العشق في قطرة ندى مع تباشير النهار.. ففي قصة نفحة يتجلى الحصار والاستلاب حيث تخذلها صديقتها يوم عيد ميلادها ولا تأتي، ولكن يحضر صوت صديق قديم يقيم في أقاصي الأرض " القريب بعيد والبعيد قريب ".. تخرج باحثة عن صحراء وبحر وخضرة، وموسيقى حانية، فلا تجد غير بحر وصخر " ماء ويابس صراع غير متكافئ "..تنشد بعض راحة فتحاصرها نظرات رجال لا يرون فيها أكثر من صائدة رجال. تبحث عن تواصل حميم تجد الناس في جزر معزولة فقدوا وسائل التواصل والاتصال..فلا تجد غير الذكرى سكنا مريحاً محايد مع والديها في المقابر.. فهل تصلح الذكريات بيتاً وسكن لمن هم في مثل حالتها؟
ربما كان الجواب في تورتة عيد ميلادها, التي وجدتها عجينة مخبوصة فقدت انسجامها.. ففي قصة القبو ترصد امرأة في فصل الأفول بعد حياة جافة لم تجرب الارتواء. تدرك بعد فوات الأوان أن جسدها بحاجة إلى مكان مشمش ونار تطفئ نارة، ولهباً يطفئ جمراته، وشمس صفراء تغتال جيوش صفرته، لكن ذلك بات ضرباً من الأماني، وهي المزمّلة على كرسي متحرك تتنقل في قبو تحجب الشمس عنه جدران البنايات العالية, وفي قصة مكانها تعود إلى ذات المكان، تستدعي صديقتها الغائبة، تعيشان عبث حياة مخملية، بقلوب جفت ينابيعها، وتيبست معها حكاية عشق حدثت يوماً وهوت مثل نيزك محترق.. المكان مازال دافئاً مع دفء رماد الحكايات، حميماً كما البوح الصريح. لكن السؤال الحارق يطل يكوي بؤرة الفؤاد، كيف تستطيع امرأة مرجومة بالمكابرة الحياة في صقيع مخمل دفئه الفقد.؟!وفي قصة يرحـل نقرأ تهويمة عذبه في فضاء امرأة ممزقة برحيل الرجل, وانقراض مسراتها, فتهيم هاربة منه إليه، حاضر فيها تهرب إلى عبق بوهيمي, تسهر حتى منتصف الليل، تحلق في سحابات الأراجيل على أمل اصطياد لذة عابرة.. لكن صاحبها يصبح ذكرى.. يصبح كيانا يسكن كيانها فهل تستطيع عاشقة الاحتفاظ برجل/ فكرة كلما اقترب ابتعد في زمن شديد الشح بخيل.. وفي قصة متحدان منفصلان نرى زوجة مهندس تحاصره التكنولوجيا، تبرمج إيقاعاته مع لغة الأرقام, فيما هي تعاني الصقيع مع رجل آلي أسيره وثيقة زواج وطفلين يرضعان حنانها, تعيش حالة الأم وتفقد حالة الحبيبة العشيقة..لكن التكنولوجيا تصلها بحدها الأدنى بواسطة التليفون المحمول الذي يفتح لها آفاقاً جديدة لعلاقات أخرى, وها هو ناصر يتجمل "وهو الجميل" يلتقي بها عند البحر, تستقبل حضوره رجفة لذيذة تجوب معه مدن ساحرة.. وها هو بأناقة مفرداته يداهم متاريس قلبها الصدئ, فتصحو على رجل يريد جسدها فقط حسب قوانين اللعبة..
حالات التقاطع الايجابي الجميل:
دفقات الانتماء إلى الحياة خلال التفاعل الايجابي مع الحلم المغلف بأردية رومانسية حزينة شفافة، لا تستدعي الدمعة بقدر ما تأتي بالرجفة عند ضياع الأمل, لا تنفلت من الواقع بعيداً رافضة الانكسار, حاملة الدهشة وانتظار الأجندات القادمة على الرغم من اكفهرار الوجوه والظروف المحيطة. وفي قصة نصف شمس تراقب الكاتبة الشاب الذي يطوي أشواقه في كراسة مهترئة حاملاً بين جوانحه امرأة يتوهج معها وبها, والمرأة تحاول المراوغة, مشاغبة تعابث الآخرين فتصيبه لحظه ضعف إنساني يتمنى لو أصبح صغير الحجم مثلهم, لكن بوصلة القلب تقف له بالمرصاد، وتتجلى في يوم شديد الاكفهرار ويرسل نصف القمر الساكن فيها أشعته إلى وجهه، فترى الدفء المتدفق من عينيه، وتشعر ببذرته جنيناً يتحرك في أحشائها يبوح بما لم يستطيع الفتى البوح به, وفي قصة المتحولة ترى ذاتها في مرآياه، وترى كيف يغزلها مناديلاً مطرزة بأنغام تشفي غليلها, يأخذها إلى دروبه ليراها في تحولاتها زنبقة/زهرة برية/قرص عباد شمس يمتص بقايا الشمس الغاربة..تتوهج في ضوء الليل سمكة متماوهة الألوان/ بجعة بحرية, ثم تعود بنفسجة حزينة بانتظار يوم جديد يلملم فيه أجزاءها ويطلق عليها بخوره، وينفخ الروح في عظامها المتآكلة, هو حلمها الذي يزودها بطاقة العطاء الكامنة فيها..
وفي قصة (1-2) ترقص على إيقاعات متوازية, تلتقي به عند محطة الوصول. فهو رجل أعمال نشيط موزع بين عمله وركام سجائره وقاطرات فناجين القهوة. محاصر بالضغط.. يلوذ بالبيت يعاشر الملل مع نشرات الأخبار المتكررة، وأفلام السينما المعادة، ويذوب مع ألم التخاطر مع أوجاع أمه المريضة.. وعلى الخط الموازي تقف خبيرة تحاليل طبية متفوقة جميلة مخلصة لعملها, إدارية صارمة غالباً ما يبرد كوب الشاي على مكتبها قبل أن تنال منه رشفة.. تعيش الأرق ولا تتغلب عليه بالقراءة، وتمارين اليوجا، وتدريبات الاسترجاع الذهني, ولا حتى الأقراص المنومة.
الليل رائع يزوده بالقدرة على التفريغ الرائع، فهو من برج العقرب الذي يسعى في المساء يحدق في ورقة التحاليل، يدير قرص التليفون.. صوت نائم كسول.. يستعجل حضورها كلمة واحدة تصبح محطة وصول:
- أفتقدكِ..
وفي قصة أجمل ما فينا, وعلى جناح أغنية تعيش التجربة بحضور راعش ورغبة عارمة..تفيض معه/ راغبة فيه, بانتظار كلمة لم تقل وفعل لم يحدث، وأبراج مشتعلة.. تتكامل معه دون أن تتماهى فيه.. بينهما راية بيضاء تعلن حالة سلام دائم طويل الأمد.. تختبئ تحت طيات ثيابه، فتخترق عيناه حواجزها الصخرية وتنفذ إلى صدفتها المغلقة على الآخرين الواهمين بامتلاك ألوان طيفها..
حالة عشق أجمل ما فيها فعل متجمد وحروف لم تصغ في قوالب الكلمات.. فالبوح بالعين كالخط المستقيم أقصر المسافات.
صياد مراوغ وفريسة حذرة
نمط من الرجال يعترض طريقها بعد طول تربص، والعصر لا يرحم والضغوط حاضرة فاعلة، تأخذ المرأة غير المحصنة قدماً إلى الانهيار, فيما الرجل الذي فقد مناعته يتخفى تحت ريش غراب, أو جلد خفاش يبحث عن صيد العتمة..كما صديقها الخمسيني الأشيب في قصة عقم، الذي يضبطها في حالة جيشان موحش أصاب قلمها بعنة طارئة، يفشل في مضاجعه أوراقها البيضاء ووضع نهاية لحالة الحياد البارد، " لاحظ التعبير عن الحالة باستدعاء موحيات جنسية " تدفع الأشيب أن يقترح علها معايشة وهماً جديداً, فتصده ببراءة مراوغة محمولة على كلمات سوداء " من لم يحب ويمرض ويطرق الموت بابه ليس بحاجة إلى إعادة حسابات " استدعاء للموت، وتكفين الرغبات المستترة, وقتل الفتن بينها وبين زوجها بإهمال طلباته السمجة, وممارسة الحضور القسري مع أطفالها بتبديد أجنحتها التي تنمو كل صباح.. وعلى الرغم من ذلك ينجح أحدهم بالتسلل إلى زواياها واصفاً أيها، مثل الأسد الذي هرم فشجع القرود بالتقافز على مؤخرته.. أي بلبلة تحاصرها أو قل أي هلهلة تقع فيها, ترهف السمع للداعية "عمر خالد" وتحذيراته بعدم الاقتراب من مرمى الطامعين..لا تجد غير الشوارع التي شهدت قصتها مع حبيب مازال يسكنها, ومازال قلمها يمارس البوح له وعنه, تذهب للكتابة غير آبهة بالأصدقاء والقراء الذي سيتناوبون الخروج والدخول إلى أحشائها يمنحونها بعض راحة.. وفي قصة الخفاش يظهر لها في بلاد الغربة رجل فقد مصريته، يجيد الزيارات الليلة في غياب زوجته وزوجها، يشاغلها بطبعة المائي التي يتشكل مع حيز الأواني التي يسكنها، مستفزاً طبعها الناري، تدخل معه اللعبة، تشعل الرغبة في جسدها البديع المخبوء تحت جلباب فضفاض في مدينة مستباحة للأغراب الذين لا يلتفتون حتى لامرأة تمشي عارية.. يسقط وينتظر موعداً تحدده مستعجلة خروجه، لتفتح الباب لشاب يعرف طريقه إلى غرفة نومها، أي خفاش ذلك الذي وقع في المصيدة..وأي شاب الذي وقع في خيوط عنكبوتها..وأي غربة تلك المعبأة بأزاهير السقوط..أما في قصة ظلال العنكبوت فيأخذ السقوط شكل الهزيمة لامرأة مسكونة بوهم القدرة على الإمساك بلعبة الحب, تسقط ضحاياها على الهاتف، وتدخل طقس الدخول في لعبة الأقنعة مع أصباغها وأدوات زينتها.. تأخذ وجه المهرج مبررة أفعالها تكفيراً عن فشل زواجها الأول.. وتمهيداً للعثور على رجل يهبها حناناً قليلاً يكفي لدخول جنته, ولكنها في لحظة صحو تقف مذهولة من انقلاب أحوالها، إذ عند حضور الحب يموت فيها الشبق, ويهفت الجسد زاحفاً نحو الموت.. تجرجر ساقيها الواهنتين لزيارة والديها الراحلين.. بانتظار أفول قادم. تداهمها شهوة الحياة في رعشة النزع الأخير..ترى في الدنيا كاس كلما فرغ امتلأ من جديد.. فتنطلق مثل الكترون فقد مداره, أو مثل صفر ضيع خانته، تجهد في البحث عن ظل تشبعه عناقاً، يحول الثلج فيها إلى ماء مغلي.. فلا ترى في مرآة عينيه غير صورتها، جمجمة فارغة وهيكل أجوف..
لعبة اجتياز المسافات
تهجع الكاتبة بعد طول هروب/ توزع/ تشظي. تنشد بعض راحة، تختبر ذاتها في ذات الآخر, تكتشف إنها مازالت في حالة تصادم يشعل الشرارات الخامدة.. تصبح الشرارة اشتعالاً بحجم جحيم الحرائق.. فلا تجد غير اللهاث من جديد ولكن بركوب عربات مختلفة، في صورة بني قصصية تعتمد على توازي أو تناقض الأجواء والشخوص, تمارس الهروب من ذاتها إلى اللغة حاضنة نفسية وشعورية، تتحصن داخل العبارات والصور مثل فراشة تدخل شرنقة, تعبر وقتاً للتحول، وترهف السمع لأصوات صادرة من أغوارها البعيدة/ العميقة.. ففي قصة كراسي موسيقية ترصد عالمين منفصلين لامرأة ورجل في نسيج قصص متراتب غير متداخل، يبدو للوهلة الأولى أن الأمر يتعلق بقصتين منفصلتين لا رابط بينها, فالمرأة تدخل حالاتها، بهية/رمادية/سوداوية تمارس جنون أميرة/حالمة مناورة تغزل الخديعة حبلاً للرجل الذي سيكون زوجها.. فيقيدها على غير قصد بمشنقة وثيقة الزواج (الشرع) ومحبة طفليها (عاطفة/ عزيزة انتماء) لكنه ليس الرجل الذي تحلم به، والذي يقفز لها فجأة اثر تصادم سيارتيهما, يحمل مفاتيح شهواتها ويطلقها امرأة/شابة/مراهقة.. ولكنه في ذات اللحظة يهرب عندما ينظر إلى أصابعها يشهق الفقد واللوعة..
- متزوجة؟!
يودعها شرارته تبحث عنه حتى تعثر عليه من جديد في رجل آخر متزوج أيضاً.. تعبر التجربة غير مبالية بمكائد زوجته التي نشرت حبهما فضيحة وعاراً وسقوطاً, تنهض امرأة بلا قلب تحمل ألف وجه ما عدا وجهها المفقود.. وعلى كرسي موسيقى آخر, ترصد مفارقة رجل يتحمل أعباء التزامه بزوجة وأولاد صديقه المناضل، الذي يقضي ردحاً من عمره في السجون، ولكنه في لحظة ضعف إنساني يعقد صفقة للخروج، ويكافأ بمنصب في منطقة نائية تتيح له الثراء غير المشروع, وعندما يذهب إليه في موقعه الجديد يطرده ويشهر به، تشاركه في ذلك زوجته التي تتهمه زوراً بالتحرش بها أثناء غياب زوجها، وما حضوره الأخير إلا مواصلة للتحرش.. هذه الزوجة تقف أمامه منكسرة بعد أن قضى زوجها مريضاً(حل قدري) وأنفق كل ما جمعه من مال في العلاج, وتعترف أمامه وبوصيه من الزوج الميت تكفيراً عن الفعلة الشنعاء, فلا يملك غير لفافة بيضاء يقدمها لها تتركها على المقعد وتغادر المكان.. تبدو اللفة مثل كفن توقظ فيه رغبة قديمة طالما راودته وهي امتلاك جسدها البديع..
والمحير على مستوى القص هو الخط الرابط بين الحالتين.. وبقليل من التأمل لا نجد غير الفضاء العام وهو اهتزاز الرؤية الذي يقود إلى السقوط والوهم عند اختيار الشهوات الدفينة..
وفي قصة بورتريهات تعيد رسم عدة وجوه تعكس تجارب حياتية أو نفسية, فنراها في الوجه الأول فنانة رومانسية تركب قطار الحلم الذاهب وتعيش شبعا حقيقياً مع صديقها ذو الشعر الأبيض" الذي لو باع كتبه لأصبح ثريا ً" يمضي بها إلى مرافئ العشاق, يعيش إيقاعات تأخذها إلى الزهو والثراء، في عالم أوسع من عالم الحقائق الجائرة, ترقص معه على رقعة الورق بين فواصل الكلمات، ولا تمارس المقايضة بالعملات المتداولة.. ترفض حصار المرأة في مدار زوج واحد حتى تمارس الاختيار والانحياز.. لكن قطار الحلم الذاهب لابد له من محطة نهاية تشكل بداية لقطار العودة مع عالم الحقائق.. فنراها بصحبة امرأة شرسة في الدفاع عن حاجاتها، تحاصر زوجها، وتزرع في أولادها صفات ثعلبية وذئبية إذا تطلب الأمر، وتعيش حياتها بأقصى درجات استنزاف الممكن.. تملك نظرة سيفية لا تخطئ الهدف, وعندما تسألها عن الحب. ترد علها بعفوية من يسمع عن وهم:
- اسمحي لي يا هانم " أنت غلبانة أوي ".
لكن الحالمة تعتصم بشفافيتها وتعود إلى قطار الذهاب بصحبة الأشيب، غير عابئة بالغبار الذي لحق بها في رحلة الذهاب والإياب..
أما الوجه الثاني فهو لفنان تشكيلي، يؤمن أن الحيرة هي المدخل الشرعي للإيداع، تدخل في محرابه في كلية الفنون الجميلة، يأخذها إلى قمة الانبهار والدهشة، تحتار في جنونه، يلبس قميصاً أبيض في الصيف وقميص مربعات في الشتاء، يملك اثني عشر قميصاً أبيض وعشرة قمصان مربعات.. تعجبها آراؤه في مواصفات شريكة حياة الفنان، من خلال حديثة عن زوجته التي تتعامل مع نصفه العاقل ونصفه المجنون، ويختلط العاقل بالمجنون عندما يتحدث عن ابنه أيمن.. لكن أحد ممن زاروه لم يشاهدوا زوجته ولم يروا ابنه.. أما هي فلم تشاهد خاتم زواج في إصبعه..
فهل كان الفنان يرسم أحلامه ليعيش معها واقعاً يسكنه ويكتفي به.؟
وتتحول في الوجه الثالث إلى امرأة طاووسية، صخرية الطباع، متطلبة، تعيش حالة اكتشاف دائم مع زوج ماكر مراوغ هوايته عمله، يقضي إجازته بين النوم والتليفون والتلفزيون، يعتبر الانتهازية شطارة، ويرى في الحب حركة ذهنية وتكنيك للوصول, يخبل لمن يراه انه شخصية قيادية، لكنه في الحقيقة يعيش الهزيمة معها وهي لا تتوقف عن التنقيب في مساربه، والقبض على نقاط ضعفه، ضاربة عرض الحائط بوصايا أبيها بالتماهي معه للخروج به من حالة الفصام، وتهزأ من اعتقاد أمها أن الزواج مثل لعبة شد الحبل, تنحاز إلى الشئ المضئ في حياتها..حبها لأطفالها الذي لا تخدشه، في الوقت الذي تمارس فيه خيانة زوجها مع أصدقاءه نظرياً.. فأي فصام تعانيه حياة زوجية فقدت دعائم تواصلها..
وفي الوجه الأخير ترثي نفسها برثاء صديقتها ورئيستها في العمل هدى جابر, التي خاصمها جمال الخلقة وسكنها بهاء العطاء الصادق, ورغم شخصيتها الصارمة، يختلط فيها رقة الطبع مع خشونة السلطة, ما يجعل الفاصل بين الابتسام والعبوس واهناً يكاد لا يرى.. لكنه القدر لا يرحمها, فيأخذها السرطان قبل أن ترى ابنتها عروساً, وقبل أن تفرح يتخرج ولدها الأصغر من كلية الشرطة، وقبل أن تشارك في افتتاح صيدلية ولدها الأكبر.. تذهب هدى جابر تاركة لها الذكريات، والمكتب، وسلسلة المفاتيح والكوب الأصفر.. تمضي على خطاها لا تلتفت إلى سمنتها الزاحفة وقدميها المفلطحين والصداع الذي يلازمها ضيفاً ثقيلاً..
في قصة ثلاثة أطوار للوردة يتسلل السرد ببراعة إلى سراديب امرأة محاصرة تعيش ردود الأفعال في مجتمع ظالم، فنراها في طور التفتح والتهيوء حالمة عاشقة مأخوذة بقصر أثري له أعمدة رخامية, في الطابق الأول منه محل بيع زهور, يقوم عليه فارس يغتسل بماء الشلال ويتضوع بالأريج يسكنها ولا تناله.. ويبقى المكان مزار ذكريات.. ويصير الوقت عنوسة زاحفة.. لكن الرجل/ القدر يظهر في لحظة مقدرة، وقد صبغ شعره، ولمع وجهه بلمعة تشبه حذاء خرج للتو من بين يدي ماسح أحذية ماهر.. لابد من الزواج، والمتاح يأتي بعد طول انتظار بعد أن ماتت زوجته، ولابد لها من العبور إلى طقوس التهيوء مع لعبة الحلاوة التي تجعل جسدها ناعماً مثل القطيفة، ثم نتف الزغب غير الظاهر لتصبح صلعاء الجسد والروح, تفقد تضاريس جسدها وتدخل أقصى حالات الغياب، فلا يضيرها تسليم جسدها بعد أن سلمت روحها وكأنها تعود إلى مقولة "لا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها.." لكنها مذبوحة تصحو على هول الفجيعة على صوت ابنة الزوج:
- مبروك يا مرات أبويا.
لا تملك في مواجه عدم التكافؤ غير الدخول إلى طور الشرنقة، فالزواج من عجوز جشع موت، فهو من ينفق إذن هو السيد وهي الجارية المطيعة.. تحاول أن تستدرج فيه شهوة التاجر لشراء محل الزهور والبيت القديم، يستخف بأفكارها الخاسرة..
أي فقد تعيشه مع رجل يغلق عليها منافذ الحياة، ويطلق عليها ابنته المتلصصة على بيتها، ودولاب ملابسها مسكونة برغبة القبض على رجل آخر يشبع جسد الزوجة العفي الشاب, والتي ترضى الحياة مع عجوز غادرته الشهوات.. هل تبقى المرأة داخل الشرنقة أم تخرج فراشة تطير وتعب ما استطاعت من رحيق متاح خارج البيت, والزواج جدار يقيها شرور المجتمع.. لكنها تحاول أن تعود إلى شيء من توازن.. تتجرأ وتناقشه في جدوى حياتها.. يأتيها الرد مثل قدر:
- اللي عايز يعيش معايا ما يناقشنيش.
لا سبيل.. الرضوخ أو طلب الطلاق..
لابد من الحلم مقدمة لطور الانعتاق من أسر زوج ميت، لكنه القدر يأتي هذه المرة وعلى غير ميعاد.. يذهب الزوج في حادث سير.. تخرج فجأة من حالة الزوجة إلى حالة الأرملة.. والموت هنا معنوي يهيئ الخروج من حياة لم تخصها يوماً، تعود فراشة تركض بسرعة إلى البحر..تفرد شعرها في وجه الريح بانتظار من يقدم مهرها وردة محمولة على أريج الرغبة..
وبعد..
حنان سعيد لا تكتب خارج نفسها، لا تبتعد عن رؤيتها إلى رؤى الغير، فالغير لديها معكوس على أسطح مرآياها.. فهي امرأة تعيش الحياة حتى الذروة، تنهل من المشروع ولا يشبعها المتاح.. مقاتلة فارسة تملك القدرة على إطلاق ما تعتقد، لا تحاصر حلم، ولا تطفئ شبق.. فهي كل النساء في امرأة على مستوى الحاجات والرغبات.. وهي فنانة تشغلها أسئلة موازية حول الفن، فالكتابة عندها لحظة انفجار بعد طول معاناة وتأمل، الزمن السردي فضاء نفسي/ معنوي، والحكايات مساحات الحياة، والفعل اشتباك مع أزمة معلنة، والحوار مقنن ومدروس، والوصف الفوتغرافي محدود وربما غائب، والمنولوج الداخلي حاضر، والبوح مسترسل منداح، والبنية القصصية اجتهاد متواصل.

* حنان سعيد كاتبة مصرية شابة تقيم في الإسكندرية, صدرت مجموعتها الأولى أمطار تموز في العام 1998 وصدرت المجموعة الثانية, امرأة لا أريد أن ألقاها في العام 2007

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

إطار لصورة رمادية

14-نيسان-2018

إطار لصورة رمادية

30-تموز-2015

مدونات دعبول السلام

13-تشرين الأول-2012

قصة قصيرة / غيمة الدموع

16-أيلول-2012

بلورة المرجان

18-نيسان-2012

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow