Alef Logo
ابداعات
              

سأجعل جنزيرك رطلاً ...

زكريا محي الدين مينو

2007-12-16

لم يجرؤ على الاعتراف ، في ذاكرته خمرٌ مستنفرة ، تضرب حوافرها صدغيه ، ضحك حتى شقّ شدقيه وهو يرى الليل يبتلعه .

حادثها مراتٍ ، رفضت الانصياع لأوامره ، وهو يتحرق شوقاً لمتعه ، لو لمرة واحدة ، يدَّق الباب ويسأل عنها رجل غريب ، أحسَّ فجأة وكأنّ كلّ خوازيق الدنيا تهوي فوق يافوخه لتنزرع فيه وتخرج من أخمص القدمين ، فانتصبت من فمه ملايين من الجبال الشائكة ، تسمَّرهُ في مكانه كشاخصةِ مرور ، غامق الألوان فغي ناظريه ، وانسلَّ الغريب دون تحية ، وحينئذٍ صار ماءً قذراً أسود ، يمتزع وينزاح ليمتزج بأوساخ البلده .
تذكر قمة رأسه ، تلمَّس حافتيه ، يا الله .. ثمَّة نتوء صغير كحبَّةِ الحمص ، تتمركز تحت الشعر صرخ همساً ، فعلتِها يا ابن " الـ .. قـ .. ح .. " ، وأردف في سرِّه : سلاماً أيها المتفرد الفريد .. وعلى الدنيا السلام .
*****************************
ضحكتها الماجنة تيار بارد يهوى الاندفاع إليه ، غنجها وهفافها ومياسها ، شلالٌ من العشق يحب اهتصاره والموت في احتضانه ، قالت له ذات مرة :
- أسكن معك الصحراء لأُدفن كعذراء قيس .. ؟
ردّ عليها بحنو الأب :
- سنوفر الكثير من القروش لنسددها أقساطاً لجمعيّةٍ تعاونية سكنية ..
قالت وهي ترسم علامة سخريةٍ مُرّة :
- ... سنرى ...
وبفرح طفولي غامرٍ قال :
- سأُخصص غرفةً كبيرة واسعةً لا حدود لها لأطفالنا ..
هاجت .. ماجت .. أجَّتْ .. صرختْ :
- أنا لا أُحبهم .. لا أُحبهم .. لا أُحب الأشقياء شقّ .. انشقّ .. شقي .. شقاء .. الشقاوة .. الشقاوة .. الشقاوة ..
هاقد جاء الصبي الخجول .. هيه .. تعال .. لا تخاف .. ما بك .. هيا والعبْ لنا لعبة الموت قالتها إحداهن بشقاوة وخبث ، تمدَّد وأرخى أطراف جسده البض ، اسلم أهداب عينيه لنوع خادع ، فتح فاه ، تماسك ، جحظ عينيه وكتم بعضاً من أنفاسه حتى احتقن الدم في وجهه المورّد ، كانت أم جورج تحب ذلك الوجه و .. تشتهيه .. تمثلُ الصراخ .. تولول .. الطم الخدّ وتضرب على الثديين .. تهوي وبحنان فوقه .. تهزه و .. تحركه .. تحتضنه بقوة و .. بشهوة ، تعتصر في صدرها ( وهو أسيرهُ ) كل لذاذات الدنيا قُبلها عليه كزخات المطر العاصف .. وبأسنانها وشفتيها ، تقضم الشفتين يلفحه لهيب ناري لا يقدر أن يعرف كنهه ، فهو لحظة إذ لا يدرك ردة الفعل ( وكُنَّ يتناوبن عليه ) .. الواحدة تلو الأُخرى وهو مستسلم .. خجول .. خجول .. خجول .. وختامها .. كنَّ يقلن له : هذه لعبة .. نعم .. لعبة .. يسمونها ( لعبة العريس والعروس ) وكنتُ دائماً.. أنا العريس .. ويزددن فيما بينهن :
- إنه شقي رائع و .. لذيذ
تعترض أم جورج : هو ليس شقي .. بل خجول ولذيذ ..
فيجبنها مؤكدين : سيكبر يا أم جورج .. وعندها .. قد يصبح شقي ..
*****************************
آه منك أيها الزمن .. سبعٌ من السنين مرّت ولم أستطع خلالها أن أحلم بصناعة ( بطنٍ منفوخ ) وبطونٌ كثيرة في حينا الأعرج ينفخها رجال مهرة ، يبدو أنها معبأة بالأطفال الأشقياء الطبيب يردد على مسامعي :
- تستطيع الإخصاب .. وزوجتك مهيأة لذلك .. فقط هي بحاجة إلى جلسات طبيّة منتظمة و .. سريّة ..
قلتْ : والعلاج ألا يحتاج إلى الأدوية و .. يحتاجني ..
أجاب الطبيب وبمكر ثعلبٍ متوحش : الجلسات .. تغني عنك وعنها ..
( علماً بأنني لم أسمع في حياتي بجلسات طبيّة يمكن فيها الاستغناء عني وعن الدواء ) همست مستغرباً ، فهزني بنزق :
- أتعلمني مصلحتي ؟ ! .
سانَدتْهُ وعافت جانبي وكاتفته وهي تردد :
- يكفي .. دعه .. قوله صحيح .. انتبه أيها الشقي .. هو الأوحد الذي سيمكننا من صنع الطفل .
استسلمتُ و .. همستُ : كما تأمران ..
*****************************
شقي .. شقي .. شقي .. كلمةٌ كلَّ سماعها .. ولا يجرؤ على التفكير في رفضها .. فهي صارت جزءاً من حياته .
صرخت أمي في وجهي : ساعة من الزمن ويحضر الذي خلفك .. والله والله سأطلب منه أن شقك إلى نصفين ..
يأتي الذي خلفني .. قسماته عابسة و .. أنا .. أقبع في زاوية مهملة بالقرب من قنَّ الدجاج على بوابة الغرفة المهدمة .. تهرع إليه ضاحكة باسمة .. تغنج له .. تتمايل وهي ترف بثوب شفاف يخلع القلب .. فتذوب قسماته ويفترّ ثغره .. تلتقي الشفاه وتهمس له ، يستدير وبسرعة البرق ودون أي محاكمة أو تفكير .. يلتقط فردة من قبقاب أمي ليرسله إلى رأسي ، فتغيم الرؤى في ناظري وترتعد أوصالي ..
أسقط .. فأهمس : أنت أيها التراب .. أو هل تكره أن يغادرك رأسي ؟ ! .
احتضنه .. احتضنه .. فأنت وأم جورج – صنوان أعشقهما ..
****************************
صرت أفترش الأرض خلف باب غرفة ( قنِّ الزوجية ) كأبله .. في البدء كانت الجلسات تتم في العيادة .. أما الآن فهي تتم هنا .. هنا في البيت . ذات مرّة هاج عليّ وطردني مؤنباً : - عيب أن تسترق السمع .. إنها أسرارٌ طبيّة .. ومن المعيب أن تلصلص من ثقب المفتاح .. عارٌ عليك وعيب أن ترى في الوقت الحاضر عودة زوجتك وهي تعالج صدقته ، لأنني ومنذ الليلة الأولى لزواجنا نبهتْ عليَّ زاجرة إياي بحتم مُرّْ :
- عيب .. أطفئ الضوء .. إنه يفضحني و .. يزعج عيوني .. ولم أعترضْ ..
تجرأتُ مرّة وقلت :
- فلندع الضوء .. أريد لولدي البكر أن يولد جميلاً أبيض
زجرتني ثانية وبحسم أعنف :
- لا أُحب الضوء .. عيب .. حرام .. ألا تفهم .. آه ما أغباك
أُطفئ الأضواء وتضيع الملامح .. وأصابعي الثلجيّة الباردة .. تفتش عن مكان حار .. فلا تجد .. يا الله .. هل مات الاحساس في كل الأماكن .
فجأة صرخت :
- متى ستصبح مثل الناس .. قم ونظف أسنانك .. رائحتك نتنة مقرززة
أجبتها وبلطف :
- من يحب يا غاليتي .. لا يعتب ولا يقف عند الصغائر .. بل يرى ويسمع ويشم بقلبه..
تنهرني ثانية وبقسوة وهي تقول : .. ترهات .. كلام فارغ .. قم ونظِّفها .. !
ينهض للتنفيذ و .. يعود ليرى جبلاً من الشهوة وقد أصبح أديماً يتربع فوق سلطان النوم ويرتفع شخيرها .. ويذوب الهمس والغنج .. ليعود مع موعد المعالج الغريب ..
*****************************
تلَّمس من قمة رأسه حبَّة الحمص ، لقد كبرت .. صارت بحجم قرن الفول .
قبلاتٌ شهوانية تدقُ سمعه .. يغصُّ كلَّ شيء في صدره كنصلٍ حادٍ منفرسْ .. فترجع به الذاكرة لحالة مشابهة . أُمه تهمس لأبيه ..
- تصبَّر يا رجل .. المغضوب يتصنع النوم
يُسحبُ عنه الغطاء فجأة .. يتفرس والده ملامحه .. حينها كان يهتز من الخوف .. فيلطمه بقبضته على وجهه بلا رحمة ويصرخ :
- ألم تم بعد يا ابن الـ ......
*****************************
وبعدها .. أنام نوماً حقيقياً و .. أعود .. لأفترش الأرض خلف باب ( قنِّ الزوجيّة ) كأبله .. الرطوبة تسكن قفاي متسللة إلى الظهر فتسري فيَّ الرعشة .. وأيّ رعشةٍ باردة .. مدَّ الطبيب المعالج رأسه من القُن .. ومطّ رقبته وصرخ :
- هيه .. أنت .. سخن لنا قليلاً من الماء ..
فأُجيبه ببرودة :
- قدر ماذا ..
فيرفع عقيرته الشيطانية مؤنباً :
- اسمعي الغبي .. يا للهول .. وتقول قدر ماذا .. قدر إسقاط الغسل يا غشيم ..
الله يعينك على هكذا رجل ، وكأنها المرة الأولى التي أطلب منه مثل هذا الطلب ، ويريدون أطفالاً .. هيا .. تحرك ..
ترتد ضحكة زوجتي مجلجلة متناغمة مع ضحكة المعالج .. الحمد لله .. لم تكن والدتي تضحك بعد أن تصرخ عليّ في مثل هذه المواقف .. بل تشتم وتلطم وتبرطم :
- ولك لماذا تحدق بي هكذا .. أهبل .. والله العظيم أهبل .. قم .. تحرك ..وسخن لنا الماء لنتطهَّرْ ..
ألا تعرف بأن والدك لا يقدر أن يذهب إلى عمله إلاّ طاهراً .. والماء الحار ينفعه عندما يدخل المرحاض فهو يخفف عنه ويطرب هياج وآلام بواسيره .
وأُسرع .. بل أركض .. لا بل أُهرول .. وأنطلق منقضاً على تنكة الماء .. أعبئها .. ثم أُشعل وابور الكاز وأٌسخن الماء .. عجيب .. لا بل غريب من أين سقطت عليّ هذه المهمة .. حتى صرتُ بارعاً فيها ، علماً بأنهم يقولون عني إني ( تنبل ) .. ولا أنفع .. جدتي .. عمتي .. والدتي .. زوجتي .. حتى الطبيب المعالج رئيسي في العمل يقول : طردته لأنه كثير الشرود .. لا ينفع .
ويوقظني .. صراخ حاد .. ( هيه .. أيها الغبي .. لِم لَمْ تحضر الماء حتى الآن .. لم يعد لديّ وقت .. أُريد أن أذهب .. لقد أزف موعد العيادة .. ) .
وصرخت .. بسري : ( ولتذهب إلى جهنم .. دعها .. ستسكب الماء على نفسها بنفسها )
فأجابني بحدَّة ونزق :
- ليست هي همي أيها الأحمق .. لا أقدر أن أذهب إلى العيادة دون طهارة اهتاج في الدَّم في عروقي .. عروق الحمى تجتاحني .. النخوة تتسلل إليّ .. يا للهول، هل سيتدمر كياني .. لقد تعايشت معه فآخاني .. الطفل .. الطفل .. الطفل .. الطب .. المعالجة .. التشرد .. القهر .. الذل .. الخداع .. الحقيقة .. الظلم .. العدل .. الصقيع يعود ، ليسدَّ عليّ منافذ التفيير .. يفلفني .. ليبتلعني الليل و .. والسكون .. وأصرخ :
- طمئني يا دكتور .. هل زرعتَ صبياً أم بنت ..
يردُّ عليّ الطبيب المعالج :
- المهم .. قيامتها سالمة ..
وأكاد أنطق صارخاً .. أبتلعها .. وأتساءل هامساً : أي سلامة .. والطفل ؟
فترد عليّ .. لتغلق كل منافذ النجاة في وجهي .. : أي طفل .. ؟
وينداحُ الصدى منقاذفاً لفظها : أي طفل .. أي طفل .. أي طفل .. أي طفل ..
أراجيح الدنيا دارت برأسي .. دواء .. قيء .. دوامة .. تمنيت أن يحضر والي خريطة العالم لأُفرِّغ فوقها كلَّ أوساخ أمعائي .. وأدوسها .. أدوسها بقوة .. بقوة .. بقوة .. وأبول عليها .. ولا أندم .
*****************************
صفق الباب خلفه وخرج ، راح يتجول في الحارات والأزقة ، ولف إلى الشوارع العريضة الاسفلتية الدافئة .. تطلّع إلى الواجهات الفخمة البلورية ، زجاجات عطر مصفوفة وبأناقة فائقة لا يعرف اسم ولا رائحة ... زجاجات يقال إنها خمور مقتقة .. هكذا .. ولوه .. لكن كل هذا للسادة .. وللسادة فقط .. توقف خلف زجاج واجهة معروض فيها حوائج نسائية .. داخلية .. أخذ ينظر .. يجلق و .. يتلمظ ، تذكر حين قالت له أم جورج :
- متّع ناظريك بالغسيل .. إنها حوائجي الداخلية ..
وأطرق رأسه بخفر وحياء .. وتوردت وجنتيه .. واشتعلتا .. فأطفأتها أم جورج بقبلة رائعة .. أحسَّ بها إحساس التفاحة مآل القضم .
داخله إحساس غريب ، التحطيم .. التحطيم .. التحطيم .. أمسك حجراً .. رفع يده ولأول مرة في حياته ، هوى على البلور سريعاً وبقوة ، وكالباشق انقضّتْ يده إلى قطة نسائية خاصة جداً .. سرقها ، وأسلم ساقيه للريح .. وابتعد ..
جلس على حافة رصيف في ركن قصي .. أخذ يقلب القطعة بين يديه .. وبأنامله يمسه عليها ويتلمسها .. مرّ به شيخ بالكاد ينقل قدميه ، أصابه بنظرة ، فهم مغزاها ولم يأبه ، لكنه تذكر الشيخ الشراشفي ، شيخ كتاب الطفولة .. وفطن بأنه كان يكثر السؤال عن ( الخميسية ) وعن أُمه وكيف أحوالها ، هزّ رأسه وضحك ( كل الناس تقول لك : كيف حال أُمك .. ولا يسألك أحد عن حال أبيك ) تذكر رواية امه حين أخذوه للشيخ وهو في اللفة إليه وقالوا له :
( خذ يا شيخنا وانفخ لنا بفم هذا الصغير حتى يصير فهمان ويتكلم مثلك )
حين أمسكني الشيخ كم كنت عنيداً ، ولم أدع الهواء يدخل رئتيّ ، ولهذا كبرت ولسانُ حال أم جورج والجارات يقول :
" يا لطيف ما أحلاه وما ألذه .. وكأن لسانه قد أكله القط ! "

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow