Alef Logo
ابداعات
              

قراءة في ديوان الغريب وأنا لماهر رجا

مرام اسلامبولي

2008-01-17

في ديوان ( الغريب و أنا ) الشاعر ماهر رجا شاعرٌ شتائي
يذهب نحو الأزرق و يعثر على مخابئ الهواء
شاعر يملك مخيلة السحرة ، كل قصيدة هي اكتشاف شعري جديد وسر من أسرار الحزن الملون. ظلالٌ للكلمات وظلال للظلال تمتد ملونة في مشهدية شعرية تتألق بأبهى ما يكونه الشعر.
مشهديةٌ يتناوب على تشكيلها كل من الحكاية و الرمزية ، الهمس الخفي والوجع الصارخ ، التطريز اللغوي و التشكيل البصري الرحب ..
لنكون حقاً أمام بناء فني مميز يؤكد على عمارة فنية شعرية مميزة و مختلفة .
لغة حية و أرض شعرية جديدة وخصبة... الأرض التي تشبهه والتي لم يطؤها أحد من قبله ، يذهب إليها بحقائبه المحملة بغربة الغرباء ..بالصور و المطر .. و بإشاراتٍ للغائب . في حقائبه ستعثر على النهايات و تكتشف مخابئ سريةً للهواء...

يقدم الشاعر لديوانه بقول السهروردي : ( الواجد يشعر بسابقة فَقْد ؛ فمن لم يفقد لم يجد) ، وبكل ما أوتي من حقيقة يكتب الشاعر ماهر رجا وجدَه ، يكتب الوجع الفلسطيني و الوجع الإنساني، ليأخذنا إلى المطارح النادرة التي يلتقي فيها الصدق في الكتابة مع المستوى الفني الرفيع .

يفرد الشاعر جزءً في الديوان يسميه ( الغرباء ) ، الغرباء الذين يغنيهم الشاعر يصلون إلى قريته دون أن يحملوا الرسائل له ، و لهذا فهو يبحث عن قافلات الذين يمرون كل عام كي ينتشلوه من الصمت.
و في ( الغرباء) يغني الشاعر ذكريات أمه الغريبة في وقوف القرى الذاهلات، أمه الفلسطينية الغائبة التي حرسته من الساحرات و سقته حواس التعثر بالأزرق الأبدي، يهديها قصائد ديوانه و هو لا يراها الآن في ضريحها العجوز بل يراها هناك ..وحدها تمشي على حافة الضوء في أرضها حيث تبقى الحياة .

لأمي العجوزِ التي أخفقت في الرجوع إلى أهلها /
هنالك بيتٌ وراء التلال على سنبلاتٍ ثلاث /
وشمسٌ تنام كقطٍّ أليفٍ /
على حافة البئر قبل الزَّوالِ /
و تعرفها قصةُ الماءِ .. كانت تقولُ /
لهُ في الصَّباح ِ : صباح الحياة ِ /
و تلمس ُ خابيةً جرحتها الفراشةُ ليلاً .../
( من قصيدة : أمي الغريبة )

و في قصيدته( الغريب و أنا ) التي منحت الديوان عنوانه يحاور الشاعر ذاتاً أخرى تسكنه، يحاور ذاك الغريب الذي يدعوه للذهاب نحو الأزرق مثله ، كي لا يبقيا محبوسين معاً مع الخوف في جسد لا يعرف كيف يطير بهما.

منذ زمان ٍ /
ثمةَ آخرُ أغربُ مني /
يسكنُ أرضَ أناي ْ/
يخرج من جسدي ليراني /
يقبل حتى يصبح أبعدَ /
يذهبُ كي أبصره أقربَ/
بين ضباب العين و بيني /
ويعاتبني حين أكونُ " أنا "/
الآمنَ و المكسُوَّ بريش الهدأة ِ/
في أوقات هروب الكوكبِ /
من أفلاك رؤايْ ../
( من قصيدة : الغريب و أنا )

ربما قد أفرد الشاعر للغرباء جزءً من ديوانه ، لكنهم يتسللون من مخيلته وذاكرته وروحه و من بين أصابعه لينتشروا في كافة قصائد الديوان. فنصغي فيها دائماً لأغنيات رحيلهم ووجودهم.

في جعبة الشاعر صور أيضاً، فنرى في الجزء المسمى ( صور ) صورةً لقريته الكرملية (إجزم) تلك الصورة التي صدمه أنها لا تشبه ما نسجه في خياله طوال عقود ، فيختار أن يبدل ذاكرته كي يتعرف إليها من جديد ويرتبها بيتاً فبيتاً في احتمالاته الغريبة .
في ( صور ) نرى صورة لزائر غريب يطرق بابه الصباحي هو الفتى الشهيد يدخل مسترسلا بالتحية، زائر ذاهل يراه كل يوم على شارعه صورةً حتى يسميه ( صديقي الصورة ).
وبين تاريخين نرى أولاً صورة تحمل التاريخ 1951 لأبيه الغائب بقامته الشقراء وهو واقف كالساحر في صندوق وقت ، حيث غرفة الصورة بيضاء و فيها شبحان.
أما في الصورة التي تحمل التاريخ 1960 ففيها وبالأبيض و الأسود نرى المشهد التالي :

بالأبيض و الأسودْ /
في ساحة باصات البلدة ِ ../
في الصورة ِ ظلٌ و أبي /
قربهما أمي واقفةٌ /
بالثوبِ المرتبكِ المجهدْ /
و هناك تفاجئهما رمشةُ زرِّ التصوير ِ /
فلا تتمكنُ أن تخفي سنبلة ً /
تتسلق دهشتها الريفية /
( من قصيدة :أبيض و أسود 1960 )

الشاعر ماهر رجا شاعر شتائي بامتياز ، ينسج صوره بأجواء شتائية دافئة دفء الحزن. يبرهن على ذلك في الجزء المسمى ( مطر ) حيث يهدينا مظلات تسير على مهلها كقباب حائرات...و يسمعنا نحيب أمطار آذار التي تحزنه و تعبث بالسنونو المبلل في السور..
في قصائد هذا الجزء يحملنا الشاعر إلى كوخ شتائي بعيد ، نجلس فيه كالأطفال لنستمع إلى الحكايا المسحورة.

لا نراهمْ، ولا يعرفون متى /
سنغادرُ أو يرحلونْ /
كُلَّما جاءَ هذا الشِّتاءُ الطويلُ /
يسيرونَ في الرُّدهاتِ على رسلهمْ /
كرياحِ خريف صباحيةٍ /
لونُها المتشققُ يجلسُ قُربيْ /
وأجلسُ قربَ الغُبَارِ/
نحدِّقُ في شُّرُفاتِ النِّسَاءِ اللّواتي /
ذهبْنَ قديماً معَ الغُرباءْ.../
( من قصيدة : الأطياف )

الوجع الفلسطيني نراه متوهجاً في جزئين من أجزاء الديوان هما : ( إشارات الغائب ) و(مخابئ الهواء ) ، بأسلوب هو أبعد ما يكون عن التقليدية التي اعتادتها بعض الأشكال الشعرية في مقاربة هذه القضايا.

عندما استشهدوا /
كلُّهم هبطوا من مَمَرِّ الحياةِ معاً /
فخورين مثل انهمار مياه الشواهق ِ /
فوق الصخور /
و مثل التقاء الحمائمِ في حزمات الرَّفرفات /
لتهوي كرمحٍ من الريشِ /
في سطح بيت الجناح الأخيرْ /
و كان الغروبُ يراقبهم هامساً : /
أتراهم يميلون حقاً إلى الأرضِ /
أم أن أرضاً إليهم تطيرُ ؟! /
( من قصيدة : في غرابتهم .. وحدهم )

و تحت العنوان الكبير لهذا الوجع نجد الشاعر قد أراد أن يكتشف وجعه بالشعر وبتلمس الذاكرة التي يحملها ، فتأتي قصائده اكتشافات إنسانية و شعرية في آنٍ واحد ،كذلك الاكتشاف الذي ترويه قصيدة ( مخابئ الهواء ).

و مرَّ آخر الأسراب ِ فوقنا /
فقالَ لي : /
سيستريحُ طائرٌ على القرميد ِ كي يشبهني /
و قد يجفُّ في انتظاري ههنا /
و قد يرقُّ حتى الموت ِ ، من تأمل ِ الغيابْ /
لكنْ ، أتستطيع أن ترى /
في هذه الأسراب ِ ما أرى : /
لن يعثر َ الغزاةُ في بلادنا /
على مخابئ الهواء في الهضابْ ! /
( من قصيدة : مخابئ الهواء )

يتأمل الشاعر في بعض قصائده ماهية الحياة و يقف ذاهلاً أمام سر الموت العظيم .

يقول الغريبُ: أنا من يصدقُ /
أنك موتٌ عصيٌ على الموت ِ /
موتٌ بلا ما يميتُكَ كالآدميِّ /
ففيكَ المؤجلُ عنكَ /
يقيمُ قبور سواكَ و تبقى قَصيّا ./
( من قصيدة : من أنا .. من أنت )

و يرى أن الشهيد يرتقي بالموت إلى ما هو أبعد بكثير من فكرته.

إني أراك عبوري إلى ما يفوق رؤاك /
ستحتاج موتاً غزيرا لتحيا /
( من قصيدة : من أنا .. من أنت )

لكنه ينادي الموت بأن يتأخر قليلاً علينا و على من نحب كي تصبح المدائن أجمل ، و كي لا نراه أو نرى لمحات اصفراره فوق الجدار و فوق الوسائد. أن يتأخر إلى أن تتعلم أرواحنا أن تطير و ينبت ريشٌ لأجنحة الشهقات الأخيرة .

ألا أيها الموتُ /
تأخَّرْ قليلاً !/
تأخرْ مسافةَ حلم ٍ/
لنحرسَ أوهامنا من شفافية الليل ِ/
و من خيل أعدائنا /
و انتظرْ ، فهناك غناءٌ أخيرٌ تناهى /
إلى غابة ِ السَّرو ِ/
( من قصيدة : تأخر قليلاً )

و في المقابل هي الحياة ملونةٌ بألوان أحلامنا و رؤانا .

زرقاءُ مثلُ منام ِ نهر ٍ أنت أيتها الحياةْ /
زرقاءُ مثلُ تودد القمر الخُرافي الصغير ِ /
إلى بيوت ٍ في الجبال /
بيضاء مثل سريرة الصوفي /
( من قصيدة : هي الحياة )

في الجزء المسمى ( النهايات ) تجربة إنسانية عميقة .. حزنٌ هادئ ٌو أنفاس شعرية يملؤها الشجن .
فيه نزول إلى الغياب مع خازن الموتى ورحيل مع قوافل يشبه مشيها همس قلب الشاعر ونداء للطوارق كي يأخذوه في السفر المجهول معهم .
في النهايات صوت ناي بعيد حزين كتساقط صوت الخريف ، و على سور أمس حلم بالعودة..و ماض رمادي ينادي امرأة كي تأتي ، فيها أرواح و ذكريات ضائعة كالسفن الغريقة ، فيها أشياء موحشة وإشارات في الحياة يمكن أن تصبح أجمل .
مقتطفات من قصائد هذا الجزء :

ألنْ تأتيْ /
أنا وحديْ ، /
كحراس القلاع ِ/
السورُ يمضغُ في الصدى خطواتُهم /
و الرُّمحُ أعلى من نسيم ٍ معتم ٍ في السهل /
ألن تأتي /
أنا وحدي /
كقافلة الهنود الحمر /
وراءَ الشاهقِ الصخري يرمق مشيَها قمرٌ /
نحاسيٌ كوجه الذئب /
قد قام القدامى أمس في الغاباتِ /
عادَ حصانُ من بعثوه كي يأتي بغصن الشمسِ /
فكَّت أجمل الفتيات تعويذاتها في النهر /
حين هوى محاربها /
كصوت الطائر البريِّ في الأعلى /
و قد شهقت أكفُّ الصَّخر./
( من قصيدة : لو تأتين)


تقفُ القافلةْ../
لا تنمْ عندما يهجعونْ /
فالقوافل تنسى الذين ينامون /
مستأنسين بحراسها /
لا تحدق إلى امرأة ٍ في الطريق /
لكي لا تصير لها /
لا تقل للمسافر قربكَ : خذْ وحدتي /
كي أطيرَ و اخسرَها./
( من قصيدة : قافلة )

صوتُ نايٍ بعيدٍ.. بعيدْ /
كعواءٍ في البراري /
لاحَ كالوشم ِ على ضفةِ النهرِ /
و قد سار وحيداً /
مثل حزن تائه تحت المساءْ /
كان في المشهد أشجارٌ على الماء /
و نارٌ وحدها دون خيام /
غابةٌ بيضاءُ تمشي /
كسريرٍ قمري /
أخذت تنحدر الآن إلى الوادي /
و في صمتٍ ستصغي /
( من قصيدة : ناي )





تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

كلَّما تفقَّدَ الكونُ أرواحَهُ

11-نيسان-2009

سَتُجمعُ الأشلاءُ في السماءْ

12-كانون الثاني-2009

ـــــــــــــــــــــــــ مزاج ـــــــــــــــــــــ

02-تشرين الثاني-2008

في ديوان ( لمعُ سراب ) الشاعر عابد إسماعيل صوتٌ يشقّ الماءَ ويلوّنُ الريح ...

15-تشرين الأول-2008

للأنثى مثلُ حظِّ قمرين ..

26-نيسان-2008

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow