Alef Logo
ابداعات
              

قصة قصيرة - جناح ملكي

طالب الرفاعي

2008-02-26

عندما أخبرتني أمي:
«أبوك سيدخل المستشفى غداً صباحاً».
ارتجف قلبي. شعرت وكأن صوتي ينحبس، وأن الكلمات تأبى مطاوعتي. لا أدري كيف أكملتُ تدريس الصغيرة، وناديت على الخادمة:
«اجلسي معها أمام التلفزيون. في تمام السابعة حمميها، وفي السابعة والنصف تكون في فراشها».
وأوصيت الصغيرة وقد أخذ روحي عطف مفاجئ عليها:
«حبيبتي كوني هادئة ولا تتأخري في النوم».
حين أدرت محرك سيارتي شعرت أنني مشوشة، وأنني لا أستطيع التركيز على كرة واحدة. أنا دائماً كنت الأقرب إلى أبي، وطوال عمره ظل يعاملني بما يشعرني أنني ابنته الأحب. هو قليل الكلام، لكنني أقرأ بيني وبين نفسي نظراته المحِبة، وحنو لمسة يده.
بدا الطريق مزدحماً، تحولت الإشارة إلى اللون الأحمر، فوقفت خلفها منتظرة، ومن دون أن أدري شعرت بدموعي تسحّ بهدوء.
«أحب بابا... كم تغيّر في السنوات الأخيرة، أكل الوهن حضوره: مشيته وجلسته ونظرة عينيه وصوته وكلمته؟ غرق في بحر صمته وعزلته طوال الوقت».
تحولت الإشارة إلى اللون الأخضر، لكن دموعي ظلت تملأ عينيَّ، وهاضت العبرة في صدري لحظة أقبلت على بيت أبي. لثوانٍ تصورت أنني أجيء إلى البيت فلا أجد... أبعدت الفكرة عن رأسي. أوقفت سيارتي، ومسرعة ترجلت.
* * *
«مساء الخير بابا».
قبّلته أشمّ رائحة بدنه التي أحب، فردَّ بصوت واهن:
«مساء النور».
ممدداً على فراشه، ولا أحد إلى جانبه:
«ماذا حصل يا أبي؟ هل ستدخل المستشفى».
«نعم».
قال هازَّاً رأسه ومكتفياً بكلمته. جلست إلى جانب سريره. عيناه المريضتان معلقتان في السقف. سرحت أتأمله في هدأته:
«ماذا تشكو يا أبي؟».
«مغص معدتي، لا أستطيع أكل أو شرب أي شيء».
عاد الى بحر صمته مستغرقاً في النظر إلى السقف، وعدت أنا إلى تأمله. مرت بي سريعاً هيئته في اعتدال مشيته، ورعد كلماته، وضحكته المجلجلة... لماذا يكبر الإنسان ويهرم؟ صعد بي السؤال، بينما أنا أنظر إلى أبي الممدد في مواجهة السقف الأبيض. جاء الصمت ليجلس بيننا، وأسأله، قلت:
«أين ذهبت أمي؟».
«لا أدري».
بقيت إلى جانبه، وكما في السيارة، امتلأت عيناي صمتاً بالدمع.
* * *
سمعت صوت أمي بدخولها إلى البيت لكن أبي كان قد غطَّ في نومه. فخرجت لملاقاتها:
«مساء الخير ماما».
«أف تعبت».
نفخت هي رامية نفسها على أقرب مقعد، بينما أختي سعاد خلفها:
«منذ أكثر من ساعتين ونحن نبحث في محلات الشكولاتة».
قالت سعاد تخاطبني، وأضافت:
«حاولنا اختيار أفضل الأنواع لتقديمها في المستشفى لزوار بابا».
انتبهت إلى أنها تحمل كيساً ماركة «باتشي»:
«كما اخترنا طقم التقديم للشاي والقهوة والفناجين».
سألت أمي:
«أي طبيب فحص بابا؟».
«أخوك فضّل إدخاله إلى المستشفى الخاص، وحجز له جناحاً ملكياً».
«ما رأيك بهذه؟».
مدت سعاد يدها نحوي بقطعة الشكولاتة، وأردفت:
«سنرتب شراشف السرير والسجاد والورد والبخور، يجب أن يكون كل شيء فاخراً، ربما جاءت صديقاتي، أو زميلاتي في العمل».
ظلت يدها ممدودة نحوي. كنت أنظر إليها:
«غدا صباحاً ستشتري أمي فساتين جديدة للخادمات، يجب أن يلبسن زياً موحداً».
تناولت منها قطعة الشكولاتة ووضعتها على الطاولة، والتفّتُ أخاطب أمي:
«لماذا لم يذهب بابا إلى الدكتور الذي يُعالج عنده؟».
«دكتوره في مستشفى حكومي، ونحن نريد أخذه إلى مستشفى خاص».
وتؤكد كلماتها، أضافت:
«بمشقة كبيرة استطاع أخوك حجز الجناح الملكي».
علّقت سعاد، وقد غشى شيء من انفعال صوتها:
«لا يصح أن يرقد أبي في مستشفى حكومي، كيف أواجه صديقاتي؟ ربما زاره الوزير».
«لكن دكتوره يعرف حالته».
أسرعت تقاطعني:
«لا يهم».
متعجلاً دخل أخي أنور، وما إن قعد حتى خاطب أمي:
«لقد اتفقت مع صديقي الصحافي على نشر خبر توعك صحة بابا، وغداً صباحاً تكون صورة أبي والخبر في جميع الجرائد».
قلت له:
«مساء الخير أنور».
«مساء النور».
ردَّ عليَّ، وأكمل يخبر أمي:
«رتبت أمر الرجل الذي سيتولى الدلّة وصبّ القهوة، وأفهمته ضرورة أن يلبس الدشداشة والغترة والعقال».
«بارك الله فيك».
أجابته أمي، وتدخلت سعاد:
«لقد اشترينا فناجين القهوة المذهبة».
سألت أنور:
«لماذا لم تأخذ أبي إلى طبيبه الخاص؟».
حدجني بنظرة غاضبة:
«أنتِ لستِ في البلد، المستشفى أهم أم الطبيب؟».
كلّمني كما لو أنني سببته:
«منذ يومين وأنا أسعى لتأمين الجناح الملكي».
وارتفع حسّه:
«لو سمحتِ لا تتدخلي، اتركي الأمر لي أنا وسعاد».
وانتقل يسأل سعاد:
«ماذا عن الشكولاتة؟».
قالت أمي:
«ربما يلزمنا بعض المكسرات».
تذكرت أن أبي ينام وحده، فنهضت قاصدة غرفته. كانت أنفاسه منتظمة، وقد صبغ التوجع ملامح وجهه.
حين مررت بهم وأنا خارجة، كانوا لا يزالون مشغولين بالحديث عن تجهيز الجناح الملكي والضيوف، ولحظة ركبت سيارتي تندّت عيناي بالدمع، فتمنيت لو أعود لأقبّل أبي.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow