Alef Logo
ابداعات
              

قصة / ذكريات من بغداد:

وليد رباح

2008-04-26

لم يزل حبك يا بغداد في ذاكرتي .. كلما طواني الليل أذهب مع العتمة إلى أبي نواس .. حيث (المسقوف) يحكي عن الصبايا اللواتي خلعن عباآتهن لبيعها في سوق نخاسة العرب. أنت يا بغداد جرحي .. و أنت التي فرشت لي طريقا معبدا نحو الحرية .. فمتى تنهضين ..

***
هاتفت أم سعد بعد طول عذاب .. قلت لها أتحدث إليك من عمان .. ولكني أقيم اليوم في أمريكا .. فما أحوال الأهل عندكم .. قالت أم سعد : نحن بألف خير يا وليدي .. نقطع من لحومنا ثم نأكل منها ولا نبيع كرامتنا .. وبكيت .. وبدلا من أن أواسيها أخذت تخفف عني .. ولكن .. ما أصل الحكاية .

***
في بداية الثمانينات شددت الرحال إلى بغداد .. حيث ضاق صدري في بلدي ولم أجد ما أقتات عليه .. قيل لي يومها ان في العراق أناسا لم تزل نخوتهم في صدورهم .. فاذهب راشدا ..
وسار بي الركب حتى حط في بغداد .. وسرت في شوارعها تائها لا أدري ماذا أفعل .. وفي شارع السعدون قابلت أم سعد .. امرأة هدها الزمان بعد ان جاوزت السبعين ولكن عينيها تشعان بالذكاء .. كانت أم سعد تقف بين جمهور من الناس ويشوي لها صاحب المطعم على رصيفه بعضا من أسياخ التكة والكباب .. ونظرت إلى ما بيدها وسال ريقي .. كنت جائعا وحزينا .. ولا أجد مكانا آوي اليه .. وقفت اللقمة في فمها عندما نظرت إلي .. ثم جاءت ببعض أسياخ التكة وقالت : هذا لك .. لقد أخذت كفايتي .. وتمنعت .. ولكنها أصرت .. فأكلت ..
قالت : منذ متى وأنت في بغداد ؟
قلت : لقد وصلت ظهر اليوم ..
قالت : أأنت فلسطيني يا وليدي ؟
قلت : نعم .. كيف عرفت ذلك ؟
قالت : ان كل حزن الدنيا في عينيك .. فلا حزن في هذا العالم أكبر من حزن الفلسطيني .. وكذا عرفتك .. وتابعت .. كيف حال اهل فلسطين يا وليدي .. قلت لها بخير .. قالت : والاقصى .. أما زال اليهود هناك ؟ قلت لها : في ظل عروبتنا لا بد وأن يكونوا هناك .. قالت : لا تلم العرب يا وليدي .. ففاقد الشىء لا يعطيه ..
وسرنا سويا .. وعندما وصلنا إلى موقف حافلات المشتل قالت : هلم معي .. فتمنعت .. فحلفت برأس سيدنا الحسين أن أصعد معها إلى الحافلة .. وهكذا صعدت .
كان البيت يعج بالأطفال والنساء فأخذهم العجب .. غريب يأتي إلى بيت فيه الصبايا ، ورجالهن جنود يحاربون في الجبهة .. ورأيت في عيون الجمع نظرات الغرابة والاستنكار فقالت أم سعد : لا تخفن .. إنه فلسطيني .. وابتسمت النساء .. كانت فلسطينيتي جواز سفر لعفتي .. فدخلت البيت آمنا .
صرخت أم سعد : يا أم لؤي .. استكانة جاي للظيف .. ثم تابعت : باتأسفلك يا وليدي .. فأنت لست بضيف .. أنت صاحب البيت .. ووقفت الدمعة في عيني ولم تنزل .. قالت بعد أن نام الجميع : هذا سوار ذهبي يا وليدي وهذه أقراطي فخذها .. ( الحدايد) لا تنفع الا وقت الحاجة .. اذهب عند الصبح وبعها .. ثم فتش لك عن عمل ..
***
هكذا بدأت في بغداد .. وفي المشتل .. استضافتني أم سعد عشرة أيام بكاملها حتى وجدت عملا .. وفي غضون أشهر ثلاثة امتلأ جيبي بالنقود .. وكنت لا أقاطع أم سعد .. أزورها بين الحين والآخر لأعيد الحديدة والقرط .. ولكنها كانت ترفض بشدة .. وعندما غادرت بغداد بعد ثلاث سنوات طويلة .. كانت أم سعد تقف عند حافلات عمان ومعها نساء البيت و أطفاله يودعونني والدموع تسح من مآقيهم كالمطر .
***
في كل شهر كنت أحادث أم سعد فأطمئن عليها .. ثم ضاقت بي الأحوال ثانية فرحلت إلى أمريكا .. ثم وقعت الحرب .. فتهنا سويا .. لم تعرف لي عنوانا ولم أستطع أن اهاتفها .. فهواتف بغداد كانت على أسوأ حال .. وكتبت لها مرارا ولكني لم أحظ بالجواب ..
وأخيرا جئت إلى عمان .. وقبل أن أذهب إلى بيتي ذهبت إلى مبنى البريد وهاتفت أم سعد فانفجرت باكية : قلت لها يا أم سعد .. كيف الأهل عندكم .. قالت : أي أهل يا وليدي ؟ إنني وحيدة .. قلت : والعيال ؟ قالت : العيال والنساء يا وليدي في ذمة الله .. في اليوم الثإني للحرب رحلنا إلى أقاربنا في الشورجه .. وهناك ضاع الجميع في ملجأ العامريه .. وبقيت أنا .. تصور .. ضاعوا كلهم في غارة مجنونة على الملجأ ولم يبق سوى أم سعد .. أليست هذه مأساة .
وانفجرت باكيا .. قالت : لا تبك يا وليدي .. لقد فقدت سعدا في اليوم الأول من الحرب .. فقلت إن لي ابنا آخر سوف يهتدي إلى في يوم ما .. وها أنت قد اهتديت الي ثانية .. فأنت سعد .. وفقدتهم جميعا في ملجأ العامرية فلي الله .
وبدلا من أن أواسيها اخذت تخفف عني : قل لهم يا وليدي في أمريكا إن أم سعد لم تزل فارعة الطول مثل النخلة .. تأكل من لحمها ولا تركع .. قل لهم إن الحرة يا وليدي تأكل من ثديها ولا تؤجر لحمها للغزاة .. قل للرجال الذين تحولوا إلى نساء في زمن الأعراب إن أم سعد ليست أميرة .. إنها إنسانة بسيطة مكونة من لحم ودم .. تفرش ثدييها على قارعة الطريق لكي يلهو بهما الأطقال العراقيون عوضا عن الطعام .. قل لهم .. ثم انقطعت المكالمة .
***
يا نخلة العراق .. أمي التي لم تنجبني .. أشتاق اليك كما يشتاق الغريق إلى قطعة خشب طافية على سطح الماء .. وأحن اليك كما يحن الصغار إلى ضوء المصباح الذي يقرأون على نوره تاريخ بلادهم .
***
أم سعد تعمل نهارا بائعة للسجائر .. تفترش الأرض على كيس من الخيش وتعرض بضاعتها للبيع .. تفتح علبة الدخان العراقية لتبيعها ( بالفرط ) أي سيجارة إثر سيجارة .. ولكن فراستها تدلها دوما على الزبائن الذين لا يحملون النقود ويشتاقون إلى مص سيجارة يلفظون مع دخانها تاريخهم بكل ما يحويه من ماض وحاضر .. تناديهم أم سعد .. وتتقاسم واياهم السيجارة .. ثم تنهاهم عن التدخين لأنه ضار بالصحة .. فإذا ما قلت لها ولكنك تدخنين يا أم سعد قالت : أنا يا وليدي ودعت .. هم تلقاني باجر لو ما تلقاني .
***
هاتفت أم سعد بعد شهر من انقطاع مكالمتها .. ذلك إنني حاولت بكل ما أوتيت من صبر أن أستعيد صوتها الذي ذهب عندما أخبرتني عن الأطفال والنساء الذين استشهدوا في ملجأ العامريه .. ولكن الهواتف كانت معطلة .. وبذا ذهب صوت أم سعد إلى البعيد البعيد .. ولم أستطع أن أستعيده حتى ولو لكلمات قليلة .
قالت أم سعد عندما جاء صوتها بعيدا كأنه ينبع من بئر رومانية عتيقة .. أهذا أنت يا وليدي ( ثم أردفت باللهجة العراقية المحببة ) لو بيني وبينك بحر قطعته .. لو كانت سهول العمر بعيدة بعد السحاب كنت نطيت مثل العصافير وعظيت خدودك لأنها خدود سعد .. آه يا وليدي .. العمر قصير .. يمكن تراني لو ما تراني .. يوم ( هي لفظة عراقية تعني .. يا أماه ) أريد أتشكر لك على المبلغ إل تدزه لأم سعد .. إني ما احتاجه .. إل يحتاجونه الجيران والجهال ( تعني الأطفال) الخمسين دولار يا وليدي يطعمن ثلث عوايل مع جهالهم شهر كامل .. كل مطلع شمس توصل لك دواعي العوايل والجهال تمرق مثل السهم وتوصل لأمريكا .. يوم .. ربي يبارك لك .
قلت لها يا أم سعد .. لا أريد أن تضيع المكالمة فيما تقولين .. أخبريني .. هل ما زالت بغداد هي بغداد .. والناس هم نفس الناس أم تغير كل شىء ..
قالت : يا وليدي : عمرك شفت عود الريحان يفقد شذاه الطيب .. عمرك شفت استكانة جاي صافيه اتعكرت .. يا وليدي .. بغداد لم تزل بغداد .. والناس لم يزالوا هم الناس .. كل الذي تغير إننا أخذنا نركض خلف الرغيف بعد أن كنا نجده بسهوله .. لكن الحمد لله .. الخير واجد وإل يتعب يحصل ..
وانقطعت المكالمة ثانية .. وفي طريقي إلى البيت تذكرت أم سعد وطابور الجهال والنساء الذي تقوده من البيت العتيق قبل أن يدفن الأحياء في ملجأ العامريه ..
وجاءني صوتها عبر سراديب الهواء لكي يطرق مسامعي بقوة : يا أم لؤي .. هاذي أم لؤي زهرة عمري .. زوجة سعد إل يحارب في الجبهه .. استكانة جاي لأبو خالد .. وصبيله تمن ومرق .. وعدنا باجه من باجر جيبيله تا ياكل خوف ما يقول العراقيين ما عشوني .. وتضحك أم سعد عن أسنان مهترئة وتقول : أم سعد تحب تحجي هيج .. ثم تصرخ بملء فمها ثانية .. وين القيمر يا أم لؤي .. فأقول لها القيمر يؤكل في الصباح .. فترد قائلة .. القيمر للقيمر يا أبو خالد .
أعود للذكرى ثانية .. هل ذهب كل هؤلاء في ملجأ العامرية دون أن أودعهم .. وقبل أن تبزغ الشمس من جديد .. أذكر الجهال وصخبهم .. وأم لؤي وهي تعد استكانة الشاي .. والصبايا الرائحات الغاديات وكل منهن تقدم لي شيئا من صنع يدها لتقول لي .. ذوجه يا أبو خالد .. واحكم ..





تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow