Alef Logo
المرصد الصحفي
              

تحولات باوبو: تاريخية الضحكة المقدسة

روزا ياسين حسن

2008-07-22


إن إعادة الرؤية، أو عمل النظر خلفاً للنظر بعيون جديدة، للدخول في نص قديم من اتجاه نقدي جديد، هو بالنسبة إلى النساء أكثر من فصل في تاريخ ثقافي : إنه فعل إحياء).
تبدو الفكرة الأساسية المكثفة في جملة الأميركي "أدريان ريتش" الآنفة بمثابة فعل تلخيصي لعمل الكثير من الأنثروبولوجيين والأركيولوجيين وحتى الكتاب المهتمين بالتاريخ الثقافي النسائي : (إنه فعل إحياء). والحق أن أساليب العمل والدراسة تعددت لمحاولة إعادة الرؤية، فبعضهم درس الميثولوجيا لغوياً، وآخرون درسوها بناء على معطيات التاريخ. أما النحاتة والمصورة "وينيفريد ميليوس لوبل" فتحاول، في كتابها المؤثر: "تحولات باوبو- أساطير الطاقة الجنسية عند المرأة" والذي ترجمه حنا عبود ونشرته وزارة الثقافة السورية هذا العام، أن تضيف إلى ذلك التاريخ فصلاً جديداً من اتجاه نقدي يعتمد الدراسة الأنثروبولوجية بناء على الأركولوجيا، وعبر تفكيك دلالات مجموعة من الرسوم على جدران الكهوف ومن النقوش القديمة، في الفخار والطين والحجر، ومن التماثيل والحفريات التي قد يعود بعضها إلى أكثر من ثلاثين ألف سنة خلت.
يمكن القول بداية أنه منذ أن نشر جوهان جاكوب باخوفن كتابه المهم : "الأمومة"، وذلك في عام 1861، بدأ الكثيرون، ومنهم جين إلين هاريسون ومارغريت موراي وفريزر وروبرت غريفز وغيرهم، يولون الاهتمام بالمجتمعات الأمومية المبكرة، وراحت فكرة تفسير الميثولوجيات بناء على الدراسة السيسيوثقافية، إن صحت التسمية، هادية لهم للنظر إلى التاريخ برؤية نسوية جديدة، وما دراسة باوبو، وهو الاسم المزوّر لإيامبي تلك الشخصية الأسطورية الغامضة، إلا جزء من هذا العمل الفاعل والمؤثر والذي يشهد للحركات النسوية العالمية حفرها المضني فيه.
باوبو/ إيامبي هي المربية في الأسطورة اليونانة القديمة التي وردت في النشيد الهوميري : ترنيمة ديمتريا، كما وردت في مقاطع قليلة من الأداب الأورفية. وهي الخادمة التي قابلت ربة القمح ديمتريا، وكانت الربة حزينة مكتئبة بسبب اختطاف هاديس لابنتها بيرسفوني واصطحابه لها عنوة إلى العالم السفلي. حزن الربة جعل الأرض تجفّ والمواسم تيبس، فما كان من باوبو إلا أن جعلت ترمي نكاتها الفاحشة أمام الربة ديمتريا، تضحك ثم تشمّر عن ثوبها لتكشف أعضاءها الحميمة، حينها فحسب تضحك الربة كاسرة حزنها، ويعود الخصب ليعمّ الأرض من جديد.
باوبو/ إيامبي، تلك الشخصية الهامشية، استطاعت وحدها أن تكسر حداد الربة وتخفف من سخطها الذي كاد يودي بالحياة على الأرض. باوبو وحدها التي حلّت المشكلة. ويبدو أن تمظهرات باوبو/ إيامبي على مرّ التاريخ، في الصور والنقوش والتماثيل التي اكتشفت، ستمتد من جزر الباسفيك إلى فن الهند والصين والكاريبي إلى أحجار المكسيك قبل وصول كولومبوس إليها. إنها منتشرة في كل أرجاء العالم القديم، وقد وجدت في شكلها المميز ذاك مشمرة عن ردائها، أو كاشفة أعضاءها الجنسية، أو مقرفصة بشكل يشابه وضعية الولادة القديمة، ما سمي وضعية الضفدع أو العلجوم فيما بعد. مع ذلك يبدو من الصعب تحديد هوية باوبو بشكل دقيق، ذلك أنها تقاوم الهوية الفريدة الأحادية، وليس من السهل تثبيتها بوظيفة واحدة، كما تقول لوبل، فهي شخصية معقدة مراوغة.
تفسيرات كثيرة رأت في تصرف المربية أو الخادمة باوبو الحكيمة أمام الربة، بنكاتها وإشاراتها، مجرد أعمال لتحويل الاهتمام بغية التعزية، لكن وينيفريد ميليوس لوبل، أسوة ببعض الأنثربولوجيين السابقين، ترى أن التعزية لم تكن الموضوع الأساسي هنا، بمقدار ما كان الأساس هو التأكيد المبهج على قوة المرأة وطاقتها، ففعل باوبو ما كان إلا نوعاً من إعادة الطاقة الأنثوية إلى ديمتريا، وإعادة تأسيس هويتها ودورها الجنسي الفاعل. باوبو/ إيامبي هي إحدى أساطير الطاقة المؤنثة، ولكن طاقتها لم تكن تنبع من الدرع البراق الذي كان لأثينا، ولا من الجمال المستعار لها من إحدى آلهة الأولمب، كما هو وضع إنانا أو أفروديت، بل كانت طاقتها منبثقة من جسدها الأنثوي، طاقة متفردة نابعة من داخلها فحسب. وبدا لسان حالها كأنها تقول لديمتريا في ذلك الموقف الشهير: "لأن فروجنا وأرحامنا هي المركز، إننا نحن اللواتي نحوّل الناس".
ظهرت باوبو/ إيامبي عبر التاريخ بالوضعيات الثلاث المميزة التي ذكرتها آنفاً، وهذه الإشارات الثلاث التصق بها معنى المقدّس والمجنّس، وراحت تتحوّل بمعناها حسب تحولات النظرة الذكورية إلى طاقة الأنثى الجنسية، خصوصاً أن معظم الأشياء الفنية الباقية، التي قد تحفظ الحضور السيسيوثقافي لشخصية كباوبو، كانت من صنع الذكور، فالأشياء الفنية التي صنعتها النساء قديماً للتدليل على شعائرهن، والتي تحاول لوبل قراءة التاريخ من خلالها، كانت تصنع من مواد هامشية ( قش، خشب، خيوط، ريش...) فيما كانت الأشياء الذكورية تصنع من مواد باقية مثل المرمر، الذهب، الحجارة الكريمة، الطين المشوي... مما جعل الأشياء المعبرة عن الرؤية الذكورية المسيطرة تبقى راسخة إلى اليوم فيما تختفي شعائر النساء.
ورغم أن الأشياء المادية تتلاشى فإنّ الآثار العقلية تبقى متواصلة عبر الزمان، ولوبل تحاول أن تقوم بمسح فني شامل لتحيط بتحولات النظــرة إلى باوبو/ إيامبي. ففي موسوعة الأديان مثلاً توصف باوبو بأنها : (تصاحب مصاحبة مشوشة أي شيء داعر في العالم القديم، وعلى الأخص الكلمات والأشياء التي تثير الجنسية المؤنثة). وقد كتب المقالة للموسوعة المؤرخ الفرنسي موريس أوليندر، ويستنتج أن ثمة مرجعاً تاريخياً واحداً يشير إلى باوبو مباشرة هو كتاب الفيلسوف اليوناني أمبيدوقليس، وهو أول دليل ربط باوبو بالفرج. وتبدو باوبو كمركز إلهام لنظريات عامة حول الفحش السري والمكشوف والسحر.
لكن الاحتفالات النسائية القديمة التي تحاول لوبل أن تعيد إحياءها وكشفها، والتي كانت احتفالات شعائرية نسائية صرفة يمنع الرجال من حضورها تماماً ويجبرون على المكوث في البيوت، تدل على عمق تأثير باوبو/ إيامبي التاريخي والمتجذر، والذي راحت الثقافة البطريركية تحاول تشويهه على مدار السنوات. حتى إن تلك الاحتفالات تحولت، في فترات متأخرة، إلى عملية تفريغ للطاقات الأنثوية المكبوتة في المجتمعات البطريركية.
من التحولات التي طرأت على باوبو أنها أصبحت تجليا من تجليات الشيطان، فكلما كان الانقسام بين المظاهر المقدسة والمظاهر الدنيوية في طبيعة الأنثى يزداد، كان الخوف منها يزداد، فيسيطر الجانب المظلم وتبتعد العناصر المقدسة. صارت باوبو/ إيامبي كغورغونة نمطاً من الأنماط الكبرى للشيطان الشهواني المؤنث. ثم راح النمط القديم المقدس لباوبو يختفي تماماً مع الزمن، والمفارقة أنه في العالم الأتيكي، عندما كان الرجال يسيطرون بشدة ويشوهون سمعة الطاقة الجنسية للأنثى، لم يبق أي أثر لباوبو القديمة بضحكتها المقدسة.
فكما ألف هسيود قصيدته الثيولوجية الأبوية "الأعمال والأيام"، وأعاد فيها قصة باندورا (الربة اليونانية القديمة واهبة كل شيء) واعتبرها أول امرأة مهلكة مجلبة للشرور وليست كما كانت مانحة الجميع، راحت باوبو تتبدى في النقوش والصور المتأخرة مشمرة عن ردائها بسحنات مخيفة ومقززة. وتجتهد لوبل في كتابها الممتع هذا في تفنيد تلك التحولات عبر الحركات والوضعيات، والأهم عبر استخدامات تلك الصور في الشعائر التي اختلفت تمظهراتها ووجهات النظر إليها.
ذهب الكثير إلى أن ضحكة باوبو/ إيامبي بين النساء هي الجانب الخبيء لجنسية المرأة، فهذا النوع من الضحك غالباً ما يترافق مع شكل المحتالة ومع الخصب، وكان مستخدماً غالباً في الطقس المقدس والبهيج لتخفيف الموقف المأزوم ولوضع الأشياء المؤلمة في المنظور وإعادة التوازن إلى النفس والجسد. وإعادة إحياء باوبو الحقيقية من جديد، كما في محاولات إحياء ليليت قبلاً. وكشف النقاب عن ذاك التاريخ الطويل من التشويه البطريركي للأنوثة ما هو إلا إعادة اعتبار لأهمية وتأثير الفاعلية الأنثوية، وإعادة اعتبار لطاقتها الجنسية ولجسدها المؤنث المانح والقادر.

عن موقع الأوان

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

عن إرث قاتل سموه ذاكرة

09-تشرين الثاني-2019

حكاية (أبو حاتم): أشياء عن الكرامة والحب

15-كانون الثاني-2013

ثقافة المجازر في سوريا: ألبومات للموتى

07-تشرين الأول-2012

نبض الروح

04-تشرين الأول-2012

إنهم السوريون وهم يحصون مجازرهم

28-آب-2012

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow