Alef Logo
المرصد الصحفي
              

رحيل محمود درويش ... المدن كثيرة وإلى رام الله العودة

ألف

2008-08-10


ذكريات حيفا
(سلمان ناطور)
حيفا بالنسبة إلى محمود درويش جزء أساس من تكوين شخصيته الأدبية. وصلها في منتصف الستينات، وبدأ نشاطه الأدبي في جريدة «الاتحاد» التي تصدر منذ العام 1944، والسياسي في الحزب الشيوعي الإسرائيلي. وفيها بدأ يصدر دواوينه الشعرية، كما بدأت تجربته في المعتقلات والسجون، بعدما ظهر آنذاك صوتاً عربياً فلسطينياً صارخاً حاداً ضد الحكم العسكري الذي كان مفروضاً على الجماهير الفلسطينية في المثلث والجليل والكرمل.
في حيفا، ارتفع صوته بقصيدة «سجل، أنا عربي، ورقم بطاقتي خمسون ألفاً»، في مرحلة كانت السلطات الإسرائيلية تعمل بأجهزتها القمعية كافة لمحو الهوية العربية الفلسطينية في أوساط من تبقى في وطنه من الشعب الفلسطيني.
التقيته للمرة الأولى في صحيفة الاتحاد في أواخر الستينات، قبل أن يبدأ تحرير مجلة «الجديد» التي صدرت في العام 1951. أخذت «الجديد» مع درويش شكلاً آخر فنياً وعلى مستوى المضمون، لأنه كان محرراً شامل الاطلاع. فتح المجلة على الأدب العربي والأدب العالمي التقدمي. فتعرفنا من خلالها الى الكتاب الفلسطينيين في المنافي مثل غسان كنفاني وأبو سالمة، والكتاب العرب الذين برزوا في الستينات، على رغم الحصار المفروض علينا.
تحوّلت الصفحات الأدبية التي أشرف على تحريرها إلى دفيئة ثورية، انعكست على الناصرة ويافا وحيفا. وفي مرحلة وجوده، نشطت الحركة الأدبية الفلسطينية ليس فقط في الشعر بل في القصة والمسرح والأغنية. وأصبحت حيفا مركزاً ثقافياً عربياً فلسطينياً قدم ثقافة ذات هوية مقاومة متميزة.
وحتى في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، كان له تأثير كبير، على رغم أنه لم يكن يشغل موقعاً في سلّم القيادة. كان من الأصوات المؤثرة جماهيرياً في صفوف الحزب، وكان يلقي قصائده في مهرجاناته. واستقطب بريقه كثيرين من المثقفين العرب والفلسطينيين، بسبب المناخ الذي أسسه حضوره الثوري والفني.
كان متواضعاً وصاحب نكتة وخفيف الظل. وكانت تربطنا علاقة شخصية تجددت بعد عودته إلى رام الله. غيابه خسارة مفاجئة. وعلى رغم أنني أعرف وضعه الصحي ومخاوفه من الجراحة، فإنني لم أكن أتصور أن يتوقف قلبه بهذه السرعة.
بيروت «خيمتنا» ... بظلها العالي
(شوقي بزيع)
الوقت الآن لا يتسع للرثاء. فبين ان تسمع الخبر وأن تصدقه ينبغي ان يمر وقت طويل لتخليص العبارة من تلعثمها. ثم ما الذي تركه الشاعر للشعراء من فضلات اللغة وحواشيها لكي يتمكنوا من رثائه عبر كلمات وصيغ لم يكن قد استهلكها من قبل؟ وكيف أمكن الموت ان يدخله في نعش او قصيدة أو ضريح وأن يلمّ شتاته المتناثر بين العواصم والأفئدة وصفحات المعاجم؟
الوقت الآن لا يتسع للرثاء وجملة (مات محمود درويش) لا تستقيم في اللغة ولا في المجاورة اللفظية ولا في المعنى، فالفاعل في الأصل لا يمكن ان يقوم بفعل الموت، والفعل لا يستطيع ان يصدق فاعله. ونحن اصدقاءه ومحبيه نهيم بين الاثنين غير مصدقين ان من هتف ذات يوم «على هذه الأرض ما يستحق الحياة» يمكنه ان يخون العهد مع الحياة التي أحبها حتى قطرة الرجاء الأخيرة، وأن من تعهد بتربية الأمل يقبل الآن بالتنحي مع المهمة ويعود شاحباً ومهيضاً ليتقاسم سريره الأخير مع كائنات الظلام النحيلة وترابه الرطب.
الوقت الآن لا يتسع للرثاء، لذلك فإنني سأترك المهمة الصعبة الى زمن آخر لأتحدث قليلاً عن الشروق الأول لشمس بيروت في غياب محمود درويش وعن قصة الحب التي ربطت بمحبس الكلمات النادرة بين سيد الشعراء وسيدة العواصم. أتحدث بما يشبه التأتأة وبما يمكن شاعراً عي اللسان ان ينتزعه عنوة من كنف الكلمات الحرون بعد ليلة الكوابيس الفاصلة بين تلقي النبأ الفاجع في قريتي الجنوبية المتاخمة للشمال الفلسطيني وبين كتابة هذي السطور. كان يمكنني هناك ان أكون أقرب الى هواء البروة المحمول على ظهور الأشجار وانحناء النساء الثاكلات على ضريح اللغة، ولكنني قصدت بيروت آخرة الليل لكي أربت على أكتاف أبنيتها المسكورة من الفقد وأمواجها المثخنة بالشهقات.
وهل كانت بيروت ما أصبحت عليه لو لم يقيّض لهويتها الرجراجة ان تتفتح في عهدة النقصان وأن تنقلها قصائد محمود درويش ونزار قباني وأدونيس وسعدي يوسف ومحمد الماغوط وعشرات الوافدين غيرهم، من خانة الغياب الى خانة الحضور؟ كان محمود درويش في طليعة أولئك الذين منحوا المدينة المعنى وحملوها في ضوء شياطينهم النادرة من سفوح البلاغة العرجاء الى قمم التوهج القلبي. خرج محمود من الكرمل في العام 1970 ليبحث في بيروت عما يعيده الى لغته المفقودة فوصلها في العام 1972 بعد عبور سريع في كل من موسكو والقاهرة. كانت المدينة تعيش يومها فوراناتها الأكثر احتداماً وتطل من أقاصي حيويتها المتفجرة على الوهدة المتوحشة التي انزلقت إليها بعد ذلك بسنوات ثلاث. وشارك درويش في العرس كما شارك في الجنازة. بدا الطرفان، العاصمة القلقة والشاعر القلق، كما لو انهما يتقاسمان القدر إياه ويتشاطران نسيم الفردوس ولهيب الجحيم. كان الشاعر يبحث عما يبعده قليلاً من الحنين الغنائي وسطوة الإيديولوجيا الفظة، وكانت المدينة ساحة عراك استثنائي بين الطرفين إياهما. وكنا نحن، شعراءها القادمين من الأرياف، نحاول جاهدين ان نتجنب ما أمكن الارتطام بصلابة اسمنتها الأصم، فيما كان «دمنا الزراعي» يلاحقنا بجراحه الريفية النازفة حتى تخوم الجسد وتخوم اللغة.
وصل درويش الى بيروت ليقف وقفته الأولى على منبر قصر الأونسكو محاطاً بالآلاف من محبي شعره وببعض «العقائديين» المتوجسين من قدومه، والذين أرادوا ان يعيدوه الى فلسطين ولو على صهوة الشعارات والقوافي الرنانة. قال إنه يريد ان يقرأ فلسطينه الأخرى المتمثلة بقصائد مغايرة من مثل «سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا» وما هو على شاكلتها، وحين انبرى وسط الحشد من طالبه بفظاظة بقراءة قصيدته «سجل انا عربي»، أحس درويش بأن هذا الصوت النافر ليس هو الصوت نفسه الذي انتظر سماعه من مدينة الحداثة العربية، فانبرى في لحظة غضب ليجيب السائل بقوله الشهير «سجل أنت» أنك عربي. وهو لم يقصد التنصل من عروبته بل التنصل من تحويلها الى لافتة أو شعار منظوم. المشهد نفسه تكرر على منبر كلية الآداب حين وجد من يحتج على غموض قصيدته الطويلة الأولى في حب بيروت «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق»، فما كان منه الا ان اختصر القصيدة ما أمكن وغادر المنبر. والمشهد الثالث الأكثر قسوة بالنسبة اليه كان ذلك الذي حدث له في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية حين كان يقرأ قصيدته المعروفة «أحبك أو لا أحبك»، حيث بادره أحد اليساريين الجدانوفيين بالاحتجاج على قراءة قصيدة عاطفية اشتم منها رائحة الغزل والحب، فيما كانت المقاومة الفلسطينية، بحسب اليساري الجدانوفي تتعرض للذبح على يد قوى السلطة اللبنانية في ذلك الحين. ولا يزال الكثيرون ممن شعروا بالمرارة والمهانة يومذاك يتذكرون وقفة شفيق الحوت الغاضبة دفاعاً عن كرامة الشاعر وكرامة الشعر.
وحدها كلية التربية في الجامعة اللبنانية انتصرت لشاعرية محمود درويش ولمعنى قدومه الى بيروت عبر الأمسية الجميلة والنادرة التي اقامها الشاعر على منبرها والتي جمعته الى نخبة من شعراء الكلية وأساتذتها وطلابها، معيدة الاعتبار الى جوهر المشروع الحداثي للؤلؤة المتوسط. بعد ذلك حدثت المصالحة الحقيقية بين المدينة والشاعر وبدأت العلاقة بينهما تتخذ بعدها الوجداني والمعرفي، حتى اذا سقطت بيروت في وهدة حربها الأهلية الدامية لم تجد أرفق بآلامها وشقائها من لغة درويش وأهدابه وحناياه.
فهنا كتب محمود «أحمد الزعتر» محققاً أولى خطواته على طريق الكتابة الانشادية الملحمية وقافزاً برشاقة العدائين نحو مناطق التخييل المباغتة والغناء المبهر. وهنا رثى اجمل الشهداء وألصقهم بالمعجزة. وهنا حاول بنجاح المواءمة بين الحياة والكتابة، بين ألم الأعماق وفرح السطوح، بين دماء الشهداء وثغور النساء وبين النعوش المرفوعة وأكاليل الزهور. وكانت قصيدته الطويلة «بيروت» هي الثمرة المدهشة لكل المفارقات التي حملتها المدينة في أحشائها والتتويج الأخير لقصة الحب التي تولدت من اتحاد قطرتين من الدم، إحداهما لبنانية والأخرى فلسطينية.
كان حصار بيروت عام 1982 هو الذروة القصوى للقاء بين الشاعر وعاصمته الأثيرة. وكانت قصيدته «مديح الظل العالي» تتويجاً لقصة الحب تلك بقدر ما كانت تصفية حساب أخيرة، وممهورة بالمجازر بالفظاعات بين الشاعر ورهاناته الضائعة. هنا يصل الكلام، كما الايقاع، الى أقصاه ويختلط الذاتي بالجمعي والفلسفي بالسياسي والشعري بالنثري. وفي «ذاكرة للنسيان» يذهب محمود درويش، حيث لم يعد يسعفه الشعر، الى الكتابة النثرية الخالصة مستعيداً ذلك اليوم الطويل من أيام آب (اغسطس) 1982 حيث تعرضت المدينة للقصف الإسرائيلي على امتداد ثماني عشرة ساعة متواصلة.
في «الغريب يقع على نفسه» يقول محمود درويش لعبده وازن: «حنيني الى بيروت ما زلت أحمله حتى الآن. وعندي مرض دائم اسمه الحنين الى بيروت». وفي «ذاكرة للنسيان» يقول: «ماذا أفعل لو لم أجد احداً أتحدث اليه، لمن أنقل كلامي ومن يشاطرني صمتي؟ سأصفر لحناً هو مطلع أغنية من أغاني بيروت المتفجرة من هذه الحرب. لم تكن بيروت للغناء ولم يستخدم الشعر اللبناني اسم بيروت القابل للاستعمال في كل بحور الشعر. اسم موسيقي ينساب بسلاسة في قصيدة النثر وفي القصيدة». أما الآن، وتحت أول شمس صفراء تشرق على خيمة محمود درويش الأخيرة، فما الذي يمكن بيروت أن تفعله في غياب شاعرها الأثير، وبأي لغة تستطيع الإفصاح عن حنينها وحنيننا إليه؟
تلك العزلة في عمّان
(خليل قنديل)
ربما تظل الجغرافيا التي يحط بها الشاعر على الأغلب هي جغرافيا حبرية طائرة لا تتوخى طعم الإقامة الفيزيائية في الأمكنة. انها الجغرافيا التي لا تتطلب من مساحتها البنائية سوى شرفة صباحية للتأمل وركوة قهوة وبضع أوراق وقلم يقدر لحظة القبض على الدهشة الشعرية، أن يحبرها ويصيغها في جملة شعرية.
والشاعر الراحل محمود درويش ابن بلدة «البروة» الفلسطينية الذي فقد جده الحكاء الأول لطفولته، وفقد مكانه في وقت مبكر ودخل في كوميديا الهجرات المركبة حيث هاجر مع أهله الى لبنان، وعاد الى فلسطين قبل أن تأخذ الكارثة الفلسطينية شكلها الدولي المنظم والتابع لوكالة الغوث الدولية. كان قد دخل في يقينه أن الجغرافيا تظل منزلقة ومترجرجة تحت أقدام الفلسطيني كما قال الشهيد غسان كنفاني ذات مرة. ولهذا يمكن القول وعلى رغم الحميمية التي كان درويش يبديها للمكان في بيروت أو في تونس أو في باريس، ظلت حميمية نزقة ومرتعشة لا تستقر ولا تهدأ إلا إذا استجمعت قواها في قصيدة.
لكن العاصمة الأردنية عمان ظلت لها مذاقها الخاص في طعم الجغرافيا والإقامة عند درويش، فهو يعتبر الأردن الذي يحمل جنسيته هو الرئة الثانية لفلسطين، وهي التي حينما كان يطل من شرفة بيته في «الصوفية» يشعر بأن رائحة فلسطين مقيمة أبداً في الأوكسجين العماني.
وقد كان يمكن الراحل درويش في مكانه العماني أن يستقبل أعز الأصدقاء والأحباء، كي يتحاور معهم عن الشعر وعن فلسطين وقد كان يُجمل جلساته مع الأصدقاء والأحبة بأن ينهض بكسله الجميل ويصنع لهم القهوة بيديه وعلى طريقته.
وقد أتاحت عمان للراحل درويش أن يختصر مسافة الذهاب الى رام الله والى التواصل مع الشأن الثقافي الفلسطيني، أو حتى الشأن السياسي، والعودة الى بيته في عمان حيث السرير والصالة والمكتب الذي يظل يُغريه بمعاودة إلقاء القبض على القصيدة الدرويشية النادرة الحدوث.
ومحمود درويش وخلال اقامته في شقته بعمان ظل عصياً على المشاهدة، بمعنى ان درويش لم يكن متاحاً للمناخات الثقافية الأردنية، أو لتلك الاشتباكات المضجرة التي تحدث عادة بين المثقفين، إلا في النشاطات الثقافية النادرة التي كانت تستدعي حضوره بإلحاح، وفي الأمسيات الشعرية الخاصة به، أو حفلات توقيع كتبه. ولا غرابة ان قلنا بأن درويش كان لا يستطيع أن يتجول في عمان وحيداً إلا بمرافقة بعض الأصدقاء، لا لشيء سوى انه لم يكن يعرف جغرافيا شوارع وأمكنة عمان.
هكذا كان وجود درويش في عمان شفيفاً كنسمة لا تطمح إلا أن تتمغنط بالشعر وتتنشق رائحة فلسطين.
الآن أحاول أن أتصور تلك اللحظة التي سبقت سفر درويش الى هيوستن لإجراء العملية. أحاول أن أجر الزمن من ياقته المُنشاة قليلاً لأرى الشاعر الذي نهض من نومه وجال بخطوات وحيدة ومرتبكة غرفة نومه والصالة ومطبخ قصيدته تلك المنضدة، واحتسى قهوته ومن ثم فتح الهواء للنوافذ، وفكر بالموت قليلاً، وبتركة الشاعر من حبر وورق وقصائد برسم الكتابة، أو بفكرة عدم العودة الى البيت.
أكاد أجزم أن درويش في لحظة المغادرة حدق في نعشه المقبل عليه، وابتسم ساخراً وهو يماحك الموت قائلاً لمكانه العماني: «سأذهب كي أموت قليلاً وأعود لقهوتي وللأصدقاء والشعر».
بدايات القاهرة
(القاهرة - علي عطا)
خلافاً لما هو متداول من أن محمود درويش التحق بالعمل في صحيفة «الأهرام» عند مجيئه إلى مصر في أول السبعينات يؤكد الكاتب المصري يوسف القعيد أن درويش عمل أولاً في مجلة «المصور» عام 1972 وأول مقال نشره فيها كان عنوانه «هل تسمحون لي أن أتزوج؟». ويذكر القعيد أن درويش أنجز في تلك الفترة أيضاً تحقيقاً مصوراً بالاشتراك مع الكاتبة صافي ناز كاظم كان حصيلة جولة على أشهر معالم القاهرة. ويرى أن درويش كان يقيم في بداية وصوله إلى القاهرة في شقة مفروشة في حي الدقي, ثم نصحه أصدقاؤه بالإقامة في الفنادق على اعتبار أنها توفر له قدراً أكبر من الأمن الشخصي.
لكن مستشار الوثائق والمعلومات في مؤسسة «الأهرام» أبو السعود إبراهيم يؤكد أن درويش أقام في مصر بدءاً من 1971. وعمل كاتباً في جريدة «الأهرام» من 1971 إلى 1974 بقرار من رئيس تحرير الجريدة آنذاك محمد حسنين هيكل. وينقل إبراهيم عن درويش قوله عن تلك المرحلة: «عينني محمد حسنين هيكل في نادي كتاب «الأهرام» وكان مكتبي في الطابق السادس مع نجيب محفوظ وبنت الشاطئ ويوسف إدريس, وكان توفيق الحكيم يشغل مكتباً مستقلاً في الطابق نفسه».
عشرات الشعراء عبر العالم عرفوا قدراً امتزج فيه مسارهم الخاص بتاريخ بلدهم أو شعبهم وطبعوا بعمق الأدب أو تحولوا الى اسطورة حقيقية. لكن من الجائر مقارنة محمود درويش الذي يشكل نموذجاً مثالياً لهذا النوع من الشعراء بأي واحدٍ من هؤلاء، لأنه تمكن عبر قلمه فقط، من احتلال موقع فريد ومهم في الساحة الشعرية العالمية على رغم انتمائه الى وطنٍ، فلسطين، لم يبصر النور بعد، والى منطقةٍ، العالم العربي، مقطعة الأوصال وينظر اليها العالم المتحضر منذ فترة طويلة من منطلق تخلفها وتطرفها المزمنين، والى لغة، العربية، لا يتقنها إلا العرب ما خلا قلة قليلة. كل هذه الأمور تجعل منه شاعراً لا شبيه له، على الأقل في تاريخنا الحديث.
عرف شعر محمود درويش في ترجماته الفرنسية نجاحاً لافتاً (من مترجميه الياس صنبر، فاروق مردم بك وعبد اللطيف اللعبي)، وبات له حضور في المعترك الشعري الفرنسي ودخل سلسلة شعر «الجيب» في دار غاليمار الشهيرة. وكان أحيا في باريس أمسيات كثيرة، واستضافته أكثر من مؤسسة ليلتقي جمهوره الفرنسي والعربي المهاجر. وكان على علاقة ودّ وصداقة مع شعراء كثر في طليعتهم إيف بونغوا وأندريه فلتير. وكان يردد دوماً أن باريس لا بدّ من العودة اليها لتنفس هواء الحرية. وكان هو أقام فيها فترة في الثمانينات وجعلها منطلقاً لحياته وأسفاره. كان درويش، رغماً عنه، شاعر قضية مقدسة ورمزاً لشعب ووطن، فاستخدم في فترة ما لغةً بصيغٍ وكلمات كان وقعها أقوى من الرصاص واستطاع اختراق صدر العالم وإيقاظ ضميره الهانئ البال. لكنه أيضاً الشاعر الذي جعل من قصائده، بعد نضجه، مرادفاً للحب والسلام فأبى أن يسمى «شاعر المقاومة» فقط، ولم يرغب في أن يحفظ الناس من أعماله القصائد السياسية فقط. وهذا ما يجعل من وفاته خسارة على المستوى الإنساني لا تعادلها وفاة أي شاعر عربي أو أجنبي آخر، بخاصة أن الحال في فلسطين وعالمنا العربي مأسوية اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى ونحن في أمس الحاجة الى صوتٍ ناضجٍ ومسالمٍ ومسموعٍ مثل صوته قادر على أن يعلو فوق هدير الأصوات التي تبشّر بالحقد والموت. محمود درويش شاعر قبل أي شيء، ولهذا حاول التحرر من الصورة التي حاولت الجماهير العربية وغير العربية سجنه داخلها، ففجّر في شكلٍ منتظم اللغة الشعرية المستخدمة في عالمنا العربي وسجل في قصائده الجديدة قطيعة مع كل ما كان كتبه في السابق. وهذا ما يجعل من وفاته خسارة كبيرة على المستوى الشعري، خسارة شاعرٍ مجددٍ وجريء استبق قراءه والنقاد الذين ثابروا على تأويل قصائده كما يرغبون، فبقيت الأم أو المرأة في نظرهم رمزاً للأرض المسلوبة – المرغوبة، وبقي الطفل رمزاً للشعب الفلسطيني. وخلطوا بين الحميم في كتاباته والجماعي وبين قصة الشاعر وتاريخ وطنه، وبين جموحه الى الحياة والنضال السياسي، على رغم انتقاده مثل هذه التفسيرات ورجاؤه أن تُقرأ قصائده «ببراءة»، على تعبيره. ربما لهذا آثر محمود درويش أن يخضع لمشيئة الرحيل عن هذه الدنيا باكراً، لحدسه بأن رسالته الإنسانية والشعرية ستصلنا بشكلٍ أسرع وأمضى.
بغداد ... «المربد» ثم الانقطاع
(بغداد – ماجد السامرائي)
كانت علاقة محمود درويش الشاعر بالعراق علاقة ذات خصوصية: فجمهوره العراقي، كما كان يجده، جمهور فريد من حيث التواصل معه، وكنت دائماً أجده يستشعر ذلك. كان يجد في الجمهور العراقي جمهوراً شاعراً، لأنه يتواصل معه بالشعر من خلال الشعر لا من خلال الشهرة.
وكان هو، في اللقاءات التي جمعته بهذا الجمهور يقدم نفسه كما يريد ويرغب: لم يطلب منه هذا الجمهور يوماً قصيدة بذاتها، وانما كان يترك له حرية الاختيار في تقديم نفسه كما يرى هو أن تكون صيغة اللقاء... وفي كل مرة كان يأتيه بالجديد الذي يقدم نفسه به، ومن خلاله.
منذ السبعينات، حيث كان اللقاء الأول، ومحمود درويش مع جمهور «مهرجان المربد الشعري»، وجمهوره ينتظره، فإذا كان المهرجان في البصرة انتظر جمهور بغداد عودته منها ليكون له لقاؤه، هو الآخر، معه... ودائماً يكون. وكان القائمون على «المربد» ينظرون الى محمود درويش بوصفه شاعراً له خصوصيته: شاعراً كبيراً، ومكانة شعرية متميزة لا بد من التعاطي معها/ معه بالخصوصية والتميز... فيفردون له «جلسة خاصة» تترك له الحرية فيها في التعاطي مع جمهوره.
وحين «اغتاض» بعض الشعراء من ذلك وتساءلوا محتجين: لماذا تعطى لمحمود درويش مثل هذه الخصوصية، وهم شعراء أيضاً، مثلهم مثله؟ كان الجواب ان أقيمت له أمسيات (أو أصبوحات) شعرية في أكبر جامعتين في بغداد: جامعة بغداد (وفي كلية الآداب بالذات)، والجامعة المستنصرية.
بعد الحرب الأولى على العراق (1991) انقطع محمود درويش عن المربد... ولم ينقطع عن العراق: سؤالاً دائماً ظل يحمله، محملاً بالكثير من همومه، لأن هناك أناساً بادلوه الحب.
عن جريدة الحياة





تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow