Alef Logo
المرصد الصحفي
              

المثقف العربي الحزين / رحيل محمود درويش ... هذه الخسارة للثقافة العربية

ألف

2008-08-10

وضع الشعر العربي في أفق العالمية

(فخري صالح)

كتب محمود درويش في مجموعته الشعرية «لماذا تركت الحصان وحيداً» (1996) أن «... من يكتب حكايته يرثْ/ أرض الكلام، ويملك المعنى تماماً!». ويمكن أن نلخص تجربة درويش بأنها تطمح إلى كتابة الحكاية الشخصية المعجونة بالحكاية الجماعية الفلسطينية، وإضفاء معنى على هذه الحكاية من خلال تصعيد التجربة الفلسطينية وأسطرتها والكشف عن البعد الملحمي فيها، بالشخوص والحيوات وحشد الاستعارات والصور المركبة التي تزدحم في قصائده بدءاً من «أوراق الزيتون» (1964) وصولاً إلى «أثر الفراشة» (2008).

لقد تبلورت خيارات درويش الشعرية في سياق هذا الطموح، ولكنه ظل مشدوداً، في مراحل تطور تجربته ونضجها، إلى حالة المخاض التي مر بها الشعر العربي منذ نهاية الأربعينات من القرن الماضي، وإلى الانتهاكات الشكلية التي أوصلت شعرنا المعاصر إلى ما تحقق على يدي درويش وأقرانه من الشعراء العرب الكبار خلال النصف الثاني من القرن العشرين. لكن اللافت في قصائده الأولى هو تلك القدرة على تطويع هذه التأثيرات للتعبير عن التراجيديا الفلسطينية التي طمح شعر درويش إلى إعادة تركيب عناصرها ليبلغ بها مصاف التراجيديات الكبرى في التاريخ. ولعل الرغبة في صنع أسطورة الفلسطينيين المعاصرين.

يكتب درويش شعراً - يزاوج فيه بين الغنائية والدراما التي تتصاعد في قصيدة مثل «سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا». وهو، من ثمّ، يفتح عالمه الشعري على الملحمي والحواري ممسرحاً قصيدته التي تغادر صوتها الغنائي لتحتفل بما يدور في أعماق الشخصيات التي تحكي أو يُحكى عنها في القصائد. ففي الوقت الذي كانت قصيدة درويش تصدر، في أعماله الأولى، عن صوت فردي يعيد تسمية العالم والأشياء من حوله، فإنه يتجه في مرحلة «سرحان...»، و «محاولة رقم 7» بعامة، إلى كتابة قصيدة تحتشد فيها الذوات المتكلمة. وعلينا أن ننتبه في هذا السياق إلى أن النقد العربي قد اخطأ عندما صنف قصائد الشاعر بأنها غنائية خالصة، إذ ان درويش يمسرح شعره ويحاول في معظم هذا الشعر صوغ ملاحم عامرة بالشخوص والمتكلمين، وعالمه الشعري يستمد غناه وتعدد معناه من هذه الملحمية المأمولة التي تتحقق في «أحمد الزعتر» و «قصيدة الأرض» (أعراس 1977)، و «مديح الظل العالي» (1983)، وعدد آخر من قصائد درويش التي كتبها خلال العقود الثلاثة الأخيرة.

من الضروري الإشارة لدى الحديث عن هذه المرحلة، من تطور تجربة درويش الشعرية، إلى الصفاء التعبيري الذي بدأ يميز قصائده. ففي هذه المرحلة تصبح قصائد الشاعر أكثر صفاء، وتتخلص، إلى حد كبير، من تراكم الصور الشعرية وفائض اللغة الذي نقع عليه في القصيدة العربية المعاصرة. وهو ما يهيئ الشاعر لانعطافة حاسمة في شكل قصيدته وصوره الشعرية وطبيعة بناء قصيدته بعامة. وتتحقق هذه الانعطافة في مجموعتيه: «هي أغنية، هي أغنية» (1986)، و «ورد أقل» (1987) حيث تصبح القصيدة أكثر كثافة واختزالاً، وأكثر التفاتاً إلى ما هو كوني في التجربة. ثمة في قصائد هاتين المجموعتين اشتغال على ثيمات صغيرة كانت مهملة ومقصاة في شعر درويش السابق، ومحاولة لأنسنة الهزيمة والخسارات التي يحولها الشاعر إلى أغانٍ للعادي والبسيط والمشترك الإنساني في لحظات الهزائم الشخصية والجماعية.

لقد سعى درويش بدءاً من «أرى ما أريد» (1990)، وصولاً إلى كتابه الأخير «أثر الفراشة» (2008)، إلى تطعيم عالمه بمشاغل شعرية ذات طموح كوني. بهذا المعنى لم تعد عناصر التجربة الفلسطينية تحتل بؤرة شعر درويش، بل إن عناصر هذه التجربة أصبحت تتخايل عبر الأساطير التي ينسجها الشاعر أو يعيد موضعة عناصرها التي يقوم باستعارتها من حكايات الآخرين، ومن ثمّ يجدلها بحكاية شعبه وحكايته الشخصية كذلك.

أصبح درويش في هذه المرحلة صانع أساطير، يولّد حكايات من حكايات ويبني عالماً أسطورياً تتمازج فيه حكايات الشعوب وأحلامها في أرض القصيدة التي تسعى إلى وضع حكاية الفلسطينيين في أفقها الكوني وتخليصها من محليتها ومباشريتها. وقد انعكس ذلك غموضاً فاتناً على صوره وعالمه الشعري الذي ظل يحاول، لفترة زمنية طويلة، التخلص من حمولته السياسية المباشرة لمصلحة إنجاز قصائد كبيرة قادرة على أن تجدل الراهن بالعابر للتاريخ والمتجدد عبر الزمن.

المستوى الآخر في عملية التخليق الأسطوري حققه درويش في قصائد «هدنة مع المغول أمام غابة السنديان»، و «مأساة النرجس ملهاة الفضة»، و «الهدهد»، وهي تمثل في مجموعها تأوّج تجربة درويش وبلوغها مرحلة مدهشة من النضج الشعري وخصوبة الدلالة والقدرة على جدل الحكاية الفلسطينية بحكايات التاريخ المستعادة. في هذه القصائد تتداخل الحكايات، ويصبح من الصعب على القارئ أن يفصل عناصر حكايتنا عن عناصر حكايتهم؛ وهو ما يرقى بشعر درويش، في هذه المرحلة، ليصبح شعراً إنسانياً خالداً قادراً على التعبير عن حكاية البشر، لا حكاية بعض البشر. وهذا ما تقوم به، خير قيام، الأسطورة التي تعمل على تمثيل الأنماط الكونية من خلال شخوصها الرمزيين ولغتها الرمزية الشاملة.

ينتقل درويش في مجموعته «أحد عشر كوكباً» (1992)، التي لا يزايلها هاجس الأسطرة والتخليق الأسطوري، إلى رواية الحكاية الفلسطينية من خلال رواية حكايات الآخرين مبدداً بذلك شبهة المباشرة، والعاطفية المفرطة، وموفراً كذلك محوراً كونياً للتجربة الفلسطينية ببعديها الرمزي والواقعي. في هذا السياق تحضر الأندلس وحكايات الهنود الحمر وحكاية الشاعر وريتا وسوفوكليس والكنعانيين، ليشكل الشاعر من هذه المادة التاريخية - الشخصية صيغة للتعبير غير المباشر عن حكاية الفلسطينيين الخارجين «من الأندلس». إن شعر درويش يعبر عن الروح الفلسطينية اللائبة المعذبة الباحثة عن خلاص فردي - جماعي من ضغط التاريخ وانسحاب الجغرافيا، لكنه في «أحد عشر كوكباً» يقدم أمثولات تاريخية صالحة للتعبير عن التجربة الفلسطينية، من بين تجارب أخرى. إن صورة العرب الخارجين من الأندلس في قصيدة «أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي»، وصورة الهنود الحمر في «خطبة «الهندي الأحمر» - ما قبل الأخيرة - أمام الرجل الأبيض»، تمثل كل منهما استعارة بدْئية (نمطية) Archetype تتطابق مع صورة الفلسطيني المشرد المقتلع المرتحل بعيداً من أرضه؛ ومحمود درويش يكشف عن سر استعارته حين يضع عبارة «الهندي الأحمر» بين مزدوجين مومئاً إلى هندي أحمر معاصر، هندي أحمر فلسطيني يعرض في «خطبته» مفارقة انتصار الآخر وهزيمته هو.

لكن درويش تحول خلال العقد الماضي بدءاً من «لماذا تركت الحصان وحيداً» (1995) و «سرير الغريبة» (1999)، إلى كتابة شبه سيرة ذاتية، إلى توليف عناصر من عيشه الشخصي مع عناصر من التاريخ الفلسطيني الجماعي، والحكايات والأساطير والاقتباسات القرآنية والتوراتية، للتعبير عن الإحساس العميق بالمنفى الجماعي والشخصي. لكن الإنشغال هنا بحكاية السيرة، بتفتح الوعي على هذا العالم، لا تخفف من الشعور الملازم بالغربة والمنفى. كما أن انتصار الحاضر على مشهد الولادة، بتأزم أفق الصراع وثقل الواقع الضاغط، يدفع القصيدة إلى التلون برؤيا الغريب المنفي، ويصبح اليأس والإحباط، من التجربة الجماعية التاريخية، مهيمنين في معظم قصائده في المرحلة الأخيرة.

وهو بهذا المعنى لم يبتعد من جوهر شعره الأول بل نقله إلى عتبة جديدة كان لا بد لتجربة شاعر مبدع مثله من أن يصلها شعره، عندما يتخفف من ثقل الواقعة التاريخية، ويعيد إدراج هذه الواقعة التاريخية في سياق التجربة البشرية الكبرى، كاتباً ذاته، بكل تلويناتها: الوطنية والقومية والإنسانية، وملتفتاً في الوقت نفسه إلى سيرته الشخصية وذاته الجوانية التي لا يمكن الشعر أن يكون من دون التفتيش عنها والكشف عنها في القصيدة.

لكننا خسرنا بموته مشروعاً طموحاً لتحويل مسار الشعرية العربية، كان محمود قد خطط للقيام به من خلال فتح قصيدته على مسارات وآفاق شعرية، وتأثيرات مجتلبة من شعريات عالمية وأشكال تعبيرية أخرى.
توأم القلب

(مارسيل خليفة)

لسنين طويلة ارتبطت موسيقاي بشعر محمود درويش فتآلفت أعمالنا في ذاكرة الناس حتى صار اسم أحدنا يستذكر آلياً اسم الآخر. ولا عجب في ذلك، فكل محطات مساري الموسيقي ولثلاثين عاماً، مملوءة بالإشارات الى أعمال درويش، بدءاً بـ «وعود من العاصفة» ووصولاً الى «يطير الحمام» التي لم تسجل حتى الآن، فمنذ أولى محاولاتي وقبل ان يتعرف واحدنا الى الآخر، كنت أحس ان شعر محمود قد أنزل عليّ ولي، فطعم «خبز» امه كطعم خبز امي، كذلك عينا «ريتاه» ووجع «يوسفه» من طعنة أخوته و «جواز سفره» الذي يحمل صورتي أنا، وزيتون «كرمله»، رمله وعصافيره وسلاسله وجلاديه، محطاته وقطاراته، رعاة بقره وهنوده... كلها كلها سكناها في أعماقي. فلا عجب إن آلفت موسيقاي أبياته في شكل طبيعي دونما عناء أو تكلّف. يقيني ان شعره كتب لأغنيه، لأعزفه، أصرخه، أصليه، أذرفه... أحوكه ببساطة على أوتار عودي، وإذا أشركت كل آلات الأوركسترا مع كلماته وصوتي طلع ذلك الإنشاد الذي يهز ويؤاسي، يحس ويقاوم. محمود، يا توأم القلب أقولها لك، مثلما كتبتها لي، لو في جنة الله شاعر مثلك لكنت صدّقته.
روح فلسطين

(ماجدة الرومي)

وفاة محمود درويش أصابتني بألم وحزن شديدين. لقد كان صوت فلسطين في المنفى، وفلسطين ستزداد غربة في غيابه. كان درويش بالنسبة لي عنصراً أساسياً لأكون قريبة أكثر من أرض فلسطين. إنه روح فلسطين وصوتها. فالتراب لا يعني شيئاً من دون الناس، نحن كنا نتلمس روح فلسطين من خلال محمود درويش، وبغيابه سيكون تلمسها أبعد واصعب. لكنه سيظل حاضراً في شعره وكتبه وإرثه الغني المبدع. ولا خوف على القضية الفلسطينية بعد غيابه، لأنه ترك في نفوسنا وعقولنا من خلال شعره وثقافته وتمسكه بالقضية، ما هو أقوى من الاحتلال. فالمحتل لا يمكنه مصادرة صوت نقي وروح حرة مثل صوت محمود درويش وروحه.

الأشخاص الكبار مثل محمود درويش يقربوننا من الحرية مهما كانت بعيدة عنا. بدءاً من اليوم سنفتقد شخصية محمود درويش الفذّة والاستثنائية لكن روحه ستظل حاضرة فينا.
ليتني عاتبته وليته عاتبني!

(عز الدين المناصرة)

تحت سماء بيروت، وفي ظلّ الثورة الفلسطينية المعاصرة، اجتمع المثقفون الفلسطينيون للمرة الأولى في حياتهم في بيروت، حيث لم يسبق أن جمعتهم عاصمة عربية أخرى. كان ذلك في السبعينات، عندما جاء محمود من القاهرة الى بيروت. تعارفنا للمرة الأولى عام 1973 في (دار العودة للطباعة والنشر)، ولم يستغرق ذلك وقتاً، فقد كان محمود، قارئاً ذكياً، اضافةً الى موهبته الشعرية الكبيرة. ومنذ ذلك العام، وحتى عام 2000، استمرت صداقتي العميقة معه. كنا في بيروت نأكل معاً، ونسهر معاً، ونتجادل في السياسة والشعر، ومصير وطننا المشترك فلسطين، بل كنت حليفه الأساسي في معاركنا الثقافية والسياسية الفلسطينية. كان يقرأ قصائده لي قبل نشرها، وكان يستمع الى ملاحظاتي النقدية، ويُصغي اليها بصمت.

دارت الأيام، وتناثرنا في المنافي الجديدة بعد بيروت. ذهب الى باريس، وذهبت الى الجزائر، وكنا على رغم البعد، نلتقي في مناسبات عدة. وحين عدنا معاً الى عمان في أول التسعينات، كنا نلتقي في منزله. وفي يوم من الأيام وقعت (خصومة ملتبسة) بيني وبينه، لعب دوراً كبيراً فيها بعض (صغار المخبرين الصحافيين)، فلا هو عاتبني، ولا أنا عاتبتُه... ليني عاتبتُه، ليته عاتبني. جاءني الخبر، فأصبت بصدمة، وتساقطت دموع، انه خسارة كبرى للشعب الفلسطيني، وللشعر العربي الحديث.
الشعر يخسر نهراً...

(شيركو بيكس)

عندما يحط شاعر طائر بجناحيه الواسعين على الأرض ليودعنا توديعه الأخير... عندما يرحل «محمود درويش» عن دنيانا التي نجدها أضيق بعده... تتبدل الطقوس وتتغير الألوان... فتنكمش قباب السماء وتهتز أركان اللغة. انه الحزن الذي يتراءى دخاناً... ويتصاعد مغطياً، بلون الرماد، آفاق الكلمات!

لقد بلغ عدد الشعراء العرب، حتى الآن، عدد أوراق شجرة كثيفة الأنغام، لكن «درويش» يبقى النغمة التي تأبى أن تسكن أو تكفّ عن العطاء. انه الطائر الذي لوّن بجناحيه سماء الشعر بمدارات وأطياف ساحرة لما يقارب نصف قرن... وستمتد الى فضاء الأجيال القادمة من حيث الزمان... كما امتدت، من حيث المكان، الى فضاء الشعر الكردي وفضاءات آداب الشعوب الأخرى، فتأثر به جيل رائد من الشعراء الكرد وشعراء المنطقة. لم يكن «محمود درويش» لسان حال الأشجار والأحجار الفلسطينية فحسب... بل كان، كذلك، ناياً غائراً بأنغامه الحزينة والمتمردة معاً أعماق الإنسان أينما أصغى الى نبضه. كان شعره ضوء قمر يمنح متلقيه هدوءاً وزوبعة يمنحهم اليقظة في الآن نفسه. كان صهيل حصان أصيل يعدو على الأرض وتغريد يمامة تبحث، عبثاً، عن عشها في السماء. اننا، الشعب الكردي، لا ننسى أبداً ما غنّاه لكردستان، ولا ننسى قصيدته الأخيرة «ليس الكرد إلا الريح».

ان شعره يأبى أن يموت... لأنه منسوج من كلمات تحفر الذاكرة كما يحفر النهر الأرض ويشق المجرى في الزمان والمكان. ان محمود درويش كان «قدس» الشعر العربي، وسيبقى للإنسانية نورس البحر، الناصع حباً، طالما هناك الحزن والأمل.
جدارية لعالم بكامله

(شوقي بغدادي)

إذاً مات الشعر، ومات الجمال، وماتت فلسطين، وماتت اللغة العربية والعروبة! وإن لا... فماذا تبقى الآن؟ هل تبقى سوى النزاعات الموجعة الدامية بين الإخوة الأعداء؟! وهل يُسمع سوى الصراخ والــعويل والنـــزيف بينهم؟! هل بقي سوى الشعر والأمل الذي يوقظه الكلام الجميل؟!

كان محمود ينبوعاً متدفقاً لا ينضب في زمن الجفاف، ففي كل عام أو عامين يصور له كتاب – أي كتاب – قادر أن يذكرنا بأن فلسطين التي تضيع لن تضيع ما دام هناك جديد متواصل من هذه الهبة الإلهية الخارقة ينعشنا في زمن الموت أكثر من أي زعيم سياسي أو عربي بارع في الخطابة. كان محمود درويش قادراً – ولعله الوحيد الذي كان يملك هذه الموهبة – أن يحرّض في قرائه هذه الثقة العجيبة بأنه ما دام مثل هذا الشاعر على قيد الحياة فإن قضيته لن تموت بالتأكيد.

ليست هذه موجة من الجموح العاطفي تأخذني. انني يائس بالفعل، ومع ذلك فأنا محكوم بالأمل – كما قال المرحوم الجميل الآخر سعد الله ونوس -. وهذا الأمل لا تحركه «حماس» أو «فتح» أو أي منظمة أخرى.

ان النزاع الأخير الذي يمزق الصف الفلسطيني يمزقني ويمزق معي أمل المحكومين به كما قيل. غير ان القلب الكبير توقف الآن وقد عجز الطب الحديث المتقدم عن إنقاذه، فما علينا الآن سوى أن نحني الرأس واجمين كي نقاوم اليأس المطبق. إن الجمال مصابٌ يترنح الآن كي يترك مكانه للبشاعة وليس أمامنا – كما يبدو لي – سوى ما تركه محمود درويش من أشعار يجب أن نخلو اليها كي نعيد قراءتها صامتين إذ ليس أي كلام آخر قادراً على تعزيتنا وتحريض الأمل المهدد في وجداننا، لقد رثى محمود نفسه قبل أن يرثيه الآخرون وها هو الآن يبدع «جدارية» أخرى لن يستطيع أي شاعر أن يكتب مثلها. جدارية لأمتنا بأكملها، ليس سوى ذكرى محمود درويش صدىً لها معينٌ بحق على الاحتفاظ بالشعلة الذابلة الأمل... أمل العرب بألا يخرجوا كالهنود الحمر من التاريخ...

رحمة الله عليك أيها الشاعر الذي لن يتكرر!..

سؤال الكتابة

الطاهر لبيب

غاب الشاعر، بـ «أل» التعريف والحرف الكبير. وهو من هؤلاء الذين لا يضيف الموت الى ما قيل عنهم، في حياتهم، شيئاً ذا بال، باستثناء الغياب. ها نحن، اذاً، «في حضرة (هذا) الغياب»، يُربكنا، لا ندري ما نقول فيه، عنه. من أين لنا الكتابة عنه؟ كيف الكتابة عمّن قضى العمر، وأعمارنا، يعلّمنا الكتابة؟ هذه صعوبة أولى، درسُ الغياب، الأول: أن يكون، في ما نكتب عنه، كلّ شيء، ما عدا الكتابة.

ليس للحديث عن «الرمز» حدّ: ستدور الزوايا بما لا ينتهي سبره، من شخصه وعالمه. قد نحسّ، أكثر، أنه كان في كل منا. قد يكتشف آخرون، من غير ثقافتنا، أن «خصوصيته» كانت حامل كونيته، بين «فلسطينياته» و «جدارياته»، على امتداد وجدان العالم. في النهاية، سنعود الى عبارته لنواجه فيها حرج السؤال وأناقته، ولنعجب كيف أمكن له الجمع بينهما.

هكذا يبقى سؤال الغياب سؤال كتابة: هذا الشاعر كان كلّما اقترب من موته ابتعد موته عنه، كما قال. ماذا كان بينه وبين موته من مسافة غير الكتابة؟ كان رأى حياته تذهب منه الى الآخرين فلم يسأل «عمّن يملأ نقصانها». قبل ذلك، «قرأ فصلاً لدانتي ونصف معلّقة»، فإذا لا نراه فكّر، حينئذ، في ما يملأ الناس به حيواتهم، خارج عذاب النص ولذته. ولأن «أثر الفراشة» كتابتها فإنه لا يشيّع جنازتها غيرها، ولا تمشي الا وحيدة الى قبرها. ولنفهم أنه إن كان من يُتمٍ فهو يُتم كتابة.

قلّ من شعراء العرب من قيل فيه، حيّاً، ما قيل في محمود درويش. قلّ منهم مَن سمع الناس يرددون شعره، انشاداً ولحناً. لكن حذار من ذاكرة تحتفظ بشاعر أو بشعره، بدون شعريته. والحذر حاسم مع محمود درويش: كتابته، أي شعريته، هي التي «تملأ نقصان» حياته عند الآخرين. إنها هي التي يجب أن تستمر، أو يمكن أن تستمر، إن أوجدت لها الثقافة والأجيال نسيج كتابة تحيا فيه.

بغياب محمود درويش تشتد الممنوعات وقوفاً، في وجه الشعراء. في «حضرته» كان البعض منها يمرّ. غيابه ينزع عنها شرعية اللياقة... كان يقول الممنوع في الممنوع، ولكن كانت له القدرة على قول الممنوع في «المباح». ولقد أغرت هذه القدرة أنظمة ومؤسسات لا يتسع واقعها لـ «مكر المجاز»، فجعلت من حضوره (الاعلامي) مكسباً. من يدري؟ لعل «المكر» يقاتل بمكر فنرى، في كل عاصمة عربية، شارعاً، باسم محمود درويش، أو نصباً يذكرها به. من يدري؟ لعله ينبت في أرض الممنوعات.

ذكرى واحدة، في الممنوع، أذكرها: ها تغني، في ساعة متأخرة من الليل، لآتيه، على عجل. ركب معي سيارتي وطلب أن نبحث، في المدينة، عن شوارع يُمنع فيها المرور. اتخذنا، عمداً، كل شارع وجدنا فيه علامة المنع. بعدها، قال: كانت عندي حاجة لا تؤجّل في تحدي الممنوعات، ولم أجد غير الشوارع الخالية في هذه المدينة. جلسنا، طويلاً، قرب البحر، الى ان قال: كفى، لقد رأيت حيفا...
شاعر اللحظة التاريخية

(علي بافقيه)

لا شك في أن اللغة العربية فقدت أحد كبار شعرائها بوفاة محمود درويش هذا المساء. وربما يكون صراع الأشكال في المشهد الشعري العربي الآن، يشير إلى الشاعر الراحل كأحد أقطاب قصيدة التفعيلة، إلا أنني لا أرى المسألة بهذه الطريقة. فالشاعر العظيم، وبعيداً من الأشكال الشعرية، يكون حاضراً في الماضي وفي المستقبل بما يتناسب مع عمق حضوره في اللحظة التاريخية التي يعيشها.

من هنا يعيش الشاعر الملهم قلق الأشكال وقلق الإبداع وقلق الوجود ليس من موقع ما في جهة ما. ذلك لأنه يحس في روحه وفي جسده بتمزقات ومخاضات التاريخ البشري في هبوطه وصعوده، وحراكه التاريخي المهول باتجاه الحرية والمعرفة والخلاص. وحيث تحرر قصيدة التفعيلة ضرورة إبداعية نوعية كذلك، فان تحرر قصيدة النثر ضرورة إبداعية نوعية أمام هول الحراك البشري وتلاطمه وتسارعه في ابتكار أدواته المعاصرة في كل مناحي الحياة، وبالأخص منها الإبداعية والفكرية. استطاع محمود درويش أن يكون صوتاً إنسانياً رهيفاً، لأنه استطاع أن يلمس عذابات شعبه وكوارثه كمسألة إنسانية مرعبة في صميم العذاب البشري وزواياه الهمجية. واستطاع من فرط رهافته وبسالته في آن معاً أن يذهب بالتفكير reasoning إلى حيز الشعر، فيحول الكارثة إلى أسطورة. يمكن لإنسان أن يتأمل الكارثة. نعم. ولكن كيف للإنسان أن يتأمل في كارثته هو وكارثة شعبه المقتلع؟ تلك هي معجزة الشعر ومعجزة الشاعر محمود درويش ومقتله أيضاً متأملاً بالكارثة. يفتت شيئاً منها على قهوة الصباح اللذيذة، ويذرّها على كائنات السحب، ويلمسها في البهجة والكآبة ويضعها في حقبة السفر.

هناك من يرى أن محمود درويش تخلى عن شعر المقاومة، فيما أرى أنه ارتقى بشعر المقاومة إلى مستوى العصر، وعلى المقاومة أن ترتقي بنفسها إلى مستوى العصر، لأن المسألة الفلسطينية ليست قضية أيديولوجيا، إنها كارثة إنسانية معاصرة، ودفعها باتجاه الماضي هو مقتلها ومبتغى أعدائها.

المشهد الشعري العربي الآن اختتم فصلاً من فصوله الباهرة. سيكون كئيباً بفقده أحد أهم أصواته، إلا أن عليه أن يذهب بعيداً وعميقاً إلى التعرف إلى تجربة هي محل فخر للشعرية العربية والوجدان العربي، لا شك في أن قضية فلسطين التي هي قضية كل إنسان شريف خسرت واحداً من أهم أبنائها المخلصين لها، وخسرت وجهاً يرفعها ويضيئها كقضية من قضايا الحرية الإنسانية. وكقضية من قضايا الهمجية المعاصرة.













































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow