Alef Logo
ضفـاف
              

ملف العلمانية / في النقاش السوري حول العلمانية وما وراءه

ياسين الحاج صالح

2008-01-27

إذا صحت تسمية عام 2007 المنقضي في سوريا بموضوع النقاش السياسي والفكري الأبرز فيه، فسيكون الاسم الأنسب هو عام العلمانية. فقد شهد شهر آذار التئام ورشة نقاش حول العلمانية طوال يومين في المعهد الفرنسي في دمشق، بمشاركة ريجيس دوبريه وهنري لورنس وآخرين من فرنسا وسوريا. وطوال يومين آخرين من شهر أيار انعقد مؤتمر حول «العلمانية في المشرق العربي» في المعهد الدنماركي في دمشق بمشاركة عزيز العظمة وجورج طرابيشي وآخرين من سوريا ولبنان والدنمارك. وخصصت مجلة «الآداب» البيروتية ملفاً توزع على ثلاثة من أعدادها عن «العلمانية في السياق العربي الإسلامي»، وبمشاركة نشطة من كتاب سوريين. وكان موقع «الأوان» مسرحاً لسجال واسع في الشأن ذاته، وبإسهام نشط من سوريين أيضاً. واختتم «العام العلماني» بمؤتمر «رابطة العقلانيين العرب» في باريس في الثلث الأخير من شهر تشرين الثاني الماضي، بغرض «إعادة هيكلة» موقع الأوان نفسه في اتجاه اشد تمركزاً حول العلمانية («العلمانية هي الحل»)، كما يمكن استخلاصه من مقالة لدلال البزري التي حضرت المؤتمر («الحياة» 23/12/2007). وهنا أيضا كان لسوريين دور مهم في الرعاية الفكرية والرمزية. وكانت لكاتب هذه السطور مشاركة من نوع ما في هذه الأنشطة جميعاً، حتى أنه كان «حاضراً» في المؤتمر الباريسي رغم غيابه عنه!
ويسع المتابع أن يتبين مقاربتين متعارضتين في التداول السوري لمفهوم العلمانية. واحدة تتخذ من العلمانية محورا أول أو حصريا لتفكيرها، وتنزع نحو ترتيب الشواغل الفكرية والسياسية الأخرى حوله أو بناء عليه؛ وأخرى تدرج العلمانية ضمن جدول اهتمامات أوسع، ما يعني بالضرورة إشغالها مكانة أدنى.
ستحاول هذه المقالة رصد كيفية تشكل التنويعة الأولى لفكرة العلمانية في هوية تميز أهلها وتحتشد لخوض صراع ضد أعدائها المفترضين، وتتلمس تجسدها في صيغ مؤسسية وشبه مؤسسية وكيفية انقلابها على ذاتها لتغدو ميثاق تماسك «طائفة»، بدل أن تكون العلاج المفترض للطائفية.
والحال إنه حيث يكون مفهوم العلمانية محوراً حصرياً للتفكير والنشاط العام فإنه ينزع إلى اكتساب شحنة تعبوية ونضالية، تجعله رمزا وشعارا (موحداً لطرف أو عصبة)، فيضيق ذرعا بالدقائق والفوارق والتلوينات، معرفية كانت أم تاريخية أم سياسية، على ما شهد به فوز الباحثة الدنماركية ماني كروني بسخط زملاء سوريين لها، لأنها طلبت في «مؤتمر العلمانية في المشرق العربي» في أيار 2007 براهين على نجوع العلمانية علاجاً للطائفية، وتمنت مزيداً من الوضوح في تعريف العلمانية، ودعت إلى التمييز بين نماذج مختلفة من العلمانية في الغرب.. المغزى البديهي لذلك أن التعبئة تتقدم على التحليل.
ولعل الأهم في شأن «الهوية العلمانية» هو ما قد يستخلص من المناشط العلمانية وتنظيمها وأجوائها، وليس نصوصها ومناقشاتها العامة. لست «داخلاً» في تلك المناشط، لكني ألاحظ تناسبا طرديا بين
(1) تشدد الدعوة العلمانية وانفرادها عن غيرها، ومقياسه موقفها التحريمي، إن لم نقل «التكفيري»، من الإسلاميين (بل وممن لا «يُكفِّر» الإسلامين)؛ و(2) اجتذابها دعاة ساخطين عصبيين، يتملكهم تثبّت نفسي شديد حول «الأصولية»؛ و(3) نزوع هؤلاء إلى الاعتصاب أو الميل إلى تشكيل عصبية عدائية حيال غيرها، «طائفة» مغلقة.
ثمة شيء ما في سيكولوجية الداعية العلماني السوري، وربما العربي، يلفت النظر بالتزمت والعدوانية حيال أخصامه المفترضين، والتعصب لـ«إخوانه»، ما يجعل منه نسخة مقلوبة من المجاهد الإسلامي (وهذا عصبي وعصبوي بدوره، وتكفيري طبعاً). ولأنها كذلك تشكل «العلمانية المجاهدة» هذه أرضية لتجديد سيكولوجية المناضل المتوفز، التي تجمع بين الانعزال والرسالية وعشق السلطة، السيكولوجية التي كانت تشكلها وتشبعها في عقود خلت التنويعات الأشد انغلاقاً من الإيديولوجية الشيوعية.
وبقدر ما تتقدم التعبئة التي تشتغل بالشعارات والرموز، فسيتعين على الشعار الموحِّد، أي العلمانية، أن يكون موحَّداً هو ذاته، أي مفرغا من التعدد والاختلاف والنسبية. وسيكون القول إنه ثمة علمانيات مختلفة، إن هناك تاريخاً للعلمانية، إن وظيفة المفهوم الاجتماعية قد لا تطابق وعيه لذاته..، سيكون غير مرغوب، لأنه يضعف الفاعلية التعبوية المرومة. لذلك فإن النموذج الفرنسي، وما يكتنزه من روح نضالية ويعقوبية، مفضل على غيره من نماذج العلمانية. وستواجه أية مقاربات تشتغل بإدخال شيء من التعدد إلى مفهوم العلمانية، أو إدراجه كعنصر في متعدد أكبر، أو إدخاله في علاقة أو نسبة (مع الديموقراطية أو بناء الأمة..)، وتالياً خلخلة تماسكه و«نسبنته»، ستواجه بالتشكك أو «التكفير». أو بما هو أحلى: قوائم بأسماء «معادين العلمانية»، من صنف ما هو لائق بالتوتاليتاريات جميعاً.
وبينما ليس ثمة فكرة تمتنع تلقائياً على توسلها ميثاق توحيد جماعة أو قاعدة تطييف وبناء هوية حصرية، العلمانية في ذلك مثل غيرها، فإنه ينبغي لمسار تحول العلمانية إلى قاعدة لعصبية خاصة أن يكون من سخريات الواقع الأليمة. إذ أن العلمانية هي الحل المفترض للمشكلة الطائفية، وفقاً لإجماع مستقر، بقدر ما هو غير مؤسس، في أوساط حملة الهوية هذه، من أفضل تسميتهم بالعلمانيين المطلقين أو العلمانويين. غير مؤسس لأنه ليس ثمة في حدود ما أعلم دراسة واحدة تثبت، ببراهين غير دائرية، أن العلمانية هي العلاج الحصري للطائفية.
والحال إن تشكل العلمانية في عصبية هو عنصر أساسي في بناء «ما وراء النقاش» السوري حول العلمانية. وللماوراء هذا وجهان. يحيل وجه أول إلى السياق المؤسسي الذي ينتظم فيه النقاش، فيما يحيل وجه ثان إلى السياق السياسي والسوسيولوجي للنقاش. ويتكون السياق الأول من ممارسات عملية «شارحة» للنقاش، ومن صيغ تكتل ومراتب سلطة تحتجب وراءه، ومن عمليات «تعبئة» و«نضال» بالغة العنف تهتدي به وتوجهه، فضلاً عن أشكال تنظيم وتمويل تشكل في آن رهاناً وأطر تنظيم للنقاش. هذه أشياء لا يشف عنها النقاش ذاته، ويتعين إبقاؤها في البال لأنها قد «تقول» ما لا يقوله النقاش، وقد تفصح عما يغمض إدراكه على من تقتصر متابعته على النصوص وحدها. ولقد كان ما هو أغنى بالدلالة في «مؤتمر العلمانية في المشرق العربي» مثلاً هو أطر رعايته وتنشيطه، والمداولات الجانبية فيه. والأرجح أن مثل ذلك ينطبق على مؤتمر «رابطة العقلانيين» كما توحي إشارات وردت في مقالة دلال البزري المومأ إليها فوق.
ولا يجري التحــول من المفهوم إلى الشعار، ومن الفكرة إلى الهوية، في فراغ اجتماعي وسياسي، بل إنه مشروط اجتماعياً وسياسياً هو ذاته. فالهوية مطلب أول في كل صراع سياسي. وانغلاقها وتطييفها يتناسب طرداً مع حدة الصراع هذا وعلو الرهانات التي يمكن أن تترتب عليه. سنلاحظ فقط أن تطييف العلمانية، أي تشكلها في عصبية مغلقة، يؤشر على غلبة التطييف في حياتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية. ولعل من شأن مقاربة الطائفية كعملية تطييف أن يتيح لنا فهم كيف تتشكل طوائف دون وجود «طوائف» بالمعنى الدارج للكلمة، بما في ذلك تشكل طوائف تعي ذاتها ضد الطائفية. يتيح لنا أيضاً أن نفهم أن تجاوز الطائفية يمر حتما بنقد التشكل الطائفي للعلمانية، هذا الذي يموه وعيها ويتعايش معها عملياً. ويمكننا أن نفهم أخيراً أن تطوير موقف علماني مستنير يتجاوز النقد الضروري، لكن السهل فكرياً للإسلاميين، إلى نقد أصعب للعلمانية الطائفية.



تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نحو شرعية الفرد لا شرعية الهوية ، ونحو ثقافة نقدية لا قومية

04-شباط-2017

سورية والعالم: الرجعية عائدة، وتتقدّم

02-تشرين الثاني-2015

من الثورة إلى الحرب: الأرياف السورية تحمل السلاح

22-تموز-2015

في الذكرى الثالثة للثورة السورية نهاية جيل من التفكير السياسي السوري وبداية جيل

20-آذار-2014

الثورة والإسلاميون بين سورية ومصر

04-كانون الأول-2012

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow