يتميز شعر الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث بناحيتين أساسيتين: الأولى هي أنه يصدر عن الينابيع والقيم الفكرية والجمالية التي يصدر عنها الشعر الأوروبي، و الثانية هي أن بين وبين هذا الشعر مسافة يحتضن فيها الرسالة الحضارية القديمة للمكسيك، وخاصة حضارة مايا، وكأنه بذلك يحاول أن يبدع التأليف الثقافي بين أوروبا والمكسيك من أجل ولادة أميركا الحقيقية.
لذلك ينمو شعره في حركة ذات منحيين: في المنحى الأول يتبين العناصر الأساسية في الحساسية الأوروبية الحديثة التي صاغتها، إلى حد كبير، السوريالية. وفي المنحى الثاني، يتأصل أكثر فأكثر في تراث مايا، في تاريخ المكسيك ـ أرض الشقاء وأرض المعجزة أيضاً، حيث يحيا إنسان جديد يختلف عن الإنسان الأوروبي الذي أصبح قديماً. ولعل الطموح الأول لأكتافيو باث هو في أن يؤالف ويوجد بين هذين النموذجين الإنسانيين.
هكذا يبدو شعره، في مختلف أشكاله وإيقاعاته، كأنه فعل تأسيس يتكرر باستمرار وفي هذا الفعل التأسيسي يركز الشاعر على أمرين:
الإنسان والواقع من جهة، والإنسان وواقعه من جهة ثانية وذلك لغاية واحدة هي بناء هذا الإنسان، وبناء الواقع الإنساني.
وليس هناك، في مثل هذا البناء، ما يعطى مقدماً بشكل مسبق، فلا بد من الانطلاق من البدايةـ من الصفر. ومن هنا تبدو ولادة الإنسان الجديد في العالم الجديد، نوعاً من الولادة التي لا تنتهي، أو نوعاً من الارتياد الذي لا يتوقف وفي هذا يعلمنا الشاعر أن كل ما ليس حجراً ضوء، وأنه لا مكان بين الحجر والضوء إلا لنسيان ما مضى أو لنسيان يأتي، وأن على الإنسان أن يبني فيما بينهما حياته. ومع أن هذا الموقف مأساوي، فهو ليس يائساً ـ ذلك أن شعر أوكتافيو باث يتجاوز المأساة واليأس نحو إعلان الملكوت المقبل: ملكوت الإنسان الجديد.

مختارات من شعر أوكتافيو باث
(1)
أصغي إلى نبضات الفضاء
إنها طبول الصيف
خطوات الفصل العاشق
فوق جمرات السنة
هي ضجيج أجنحته وأفاعيه
الأرض تزفر
تحت ثوب جذورها وحشراتها
العطش يستيقظ يرفع
أقفاصه الزجاجية الكبيرة
هناك تغنين أغنيتك الغاضبة
أغنيتك السعيدة ـ أغنية
المياه الأسيرة
تغنين عارية.
وجهك نهداك خاصرتك مبقعة
بغبار الطلع
وظلك في المشهد الذي امحى،
بلاد العصافير تبعثرها الشمس
(2)
تمد خواطري جسراً منك إليك
أكثر شفافية من قطرة الماء
في أصابع هذه النبتة المعرشة
أنظري إلى نفسك
مركوزة في وجهي
أكثر حقيقية من الجسم الذي
تلبسينه.
ولدت لكي تعيشي في جزيرة.
(3)
هناك شجرة واقفة
وهناك شجرة تمشي
نهر أشجار يضرب صدري
إنه الفرح والتموج الأخضر
تلبسين الأحمر ـ خاتم السنة
المشتعلة
الجسد جمرة
الكوكب ثمرة
شمس التهمها.
الساعة ترتاح
فوق هاوية من الضوء
والعصافير أسراب من الظل
مناقيرها تبني الليل
أجنحتها تحمل النهار
وأنت المغروسة في فوهة الضوء
بين الهدوء والدوار
أنت التوازن الشفاف.
(4)
خطواتي في هذا الشارع
ترن في شارع آخر
حيث أسمع خطواتي
تمر في هذا الشارع
حيث الضباب هو، وحده،
اليقين.
(5)
جسدان وجهاً لوجه
هما أحياناً موجتان،
والليل بحر.
جسدان وجهاً لوجه
هما أحياناً حجران ـ والليل
صحراء
جسدان وجهاً لوجه
هما أحياناً جذران يتعانقان في الليل
جسدان وجهاً لوجه
هما أحياناً شفرتان
يلمع فيهما الليل
جسدان وجهاً لوجه
هما أحياناً كوكبان ـ يسقطان
في الفراغ.
(6)
الجبر الأخضر يخلق الحدائق،
الغابات، المروج
يخلق أوراقاً تغني فيها الحروف
وكلمات أشجارا
وجملاً كواكب خضراء.
اتركي لكلماتي أن تهبط وتغطيك
كما يغطي شلال الورق حقلاًَ
من الثلج
كما يغطي اللبلاب التمثال
والحبر هذه الصفحة.
(7)
هنا كان القدماء يقطفون النار
هنا كانت النار تنشئ العالم
الحجر يتفتح كالثمرة
الماء فتح عينيه
والضوء يسيل على جسد النهار
قطرة هائلة
ينعكس فيها الزمن، ويهدأ.

المصدر: ملحق الثورة الثقافي - العدد الخامس - 1976