تنبأ ماركس بأن القرن العشرين سيكون عصر الأممية البروليتارية، وعصر الحروب من أجل تثبيتها. وتنبأ نيتشه،على العكس، بأن هذا القرن سيكون عصر القومية وعصر الحروب من أجل تثبيتها.
ولعل المجتمع العربي، وضعا ونضالا وتفكيرا، دليل قوي، بين الأدلة الكثيرة التي تقدمها مجتمعات وشعوب أخرى، على صدق ما تنبأ به نيتشه.
فلقد استقطبت المجتمع العربي، الهموم القومية، في مختلف الميادين وعلى جميع الأصعدة، منذ أول هذا القرن. وهي ما تزال المحرك الأول لحياته ونضاله.
وفي الكلام على دور المفكرين والمثقفين بعامة، فيما يتصل بهذا الهموم، تبرز على الأخص، مسألة قومية الفكر، من جهة، ومسألة دوره، خصوصاً أنه يواجه تيارات تعتبر الهم القومي أمرا لاحقاً أو ثانويا، أو يواجه مشكلات تفرض النظر إليها بمنظار لا تحده الخصوصية القومية – بمعنى النعرة والعصبية اللتين حللهما أبن خلدون تحليلا أصيلا سباقا. إذا، دون ذالك، سيرى نفسه إزاءها عاجزاً لا يفهمها ولا يقدر أن يشارك في حلها.
وقد ارتأى " الملحق" أن يطرح إشكالية الفكر ويتدارسها مع الأستاذ أنطوان مقدسي، فهو، بإعادة النظر الدائمة التي يمارسها، وتخطيه الدائم – وهما الميزتان الرئيسيتان في كل تفكير اصيل عميق، ليس شاهداً فريداً لهذه الفكر وحسب، إنما هو كذلك شاهد فريد عليه.

- أستاذ مقدسي، نحب أن نبدأ حوارنا بسؤالك: متى تظهر الحاجة إلى الفكر القومي؟

- تشعر الجماعة بالحاجة إلى الفكر القومي في المنعطفات التاريخية، وعند يقظةالأمة
(والاثنان إلى حد ما، واحد)، إذ تبدو الجماعة لذاتها، وكان أجزاءها غير مندمجة بعضها مع بعض، وأن عليها أن تبرر وجودها لذاتها ومسيرتها في التاريخ، فتعود إلى جذورها الأولى، لتبحث فيها عن خصائصها المميزة. ولما كان الفكر بعداً من أبعاد الوجود القومي، كان عليه إن يسوغ هذا الوجود، إذ يقوله، أي ينتقل فيه من مستوى المضمر إلى مستوى البيان.
وتتبدى أيضاً هذه الحاجة عند الأمم التي تأخرت في تحقيق وحدتها عن بقيت الأمم، كألمانية في مطلع القرن التاسع عشر، وبعد الغزو النابليوني. والمانيا الرومنطيقية هي، في التاريخ الحديث، النموذج الأكمل للفكر القومي. إذا أخذت يومها تعود إلى القرون الوسط تستعيد أساطيرها "مثلاً تريستان وايزولده" وتتغنى بالفارس الجرماني يفتح ويعمر ويبني، ويلهم الشعر.
وتلك أحد خلفيات فكر نيتشه الذي تخطى الرومنطيقية لا ليعود إلى الفكر الإغريقي وحسب (فقد عكس أفلاطون) بل ليعود أيضاً إلى ما قبل سقراط. ويبدوا هذا المنحنى واضحاً عند هيدغر (وهو استمرار للمدرسة النيتشوية) إذ جل كتاباته مخصص، بشكل أو اخر، للكشف عما يسميه أحد شراحه "الفجر الأول"، أي يوم تبلورت مع قبل السقراطيين الرؤيا الغربية كما ورثها الألمان عن الإغريق. وهذا يفسر لنا أيضاً تفضيل هيدغر لهولديرلين على غيره من الشعراء.
وفي الفترة الرومنطيقية ظهر كتاب نيشته المعروف: "رسائل إلى الأمة الألمانية " الذي استلهمه زكي الأرسوزي ووضع "العبقرية العربية في لسانها" كمقابل له.
ونحن العرب اليوم، نسلك على طريقتنا، هذه الطريق...

- كيف تفسر عودة الألمان إلى القرون الوسطى، ومن ثم اليونان؟

-من المعروف أن أوروبا تكونت، أول ما تكونت في أثناء الغزوات التي قامت بها القبائل الجرمانية لأوروبا والألمان يعتقدون أنهم ورثو الجرمان وممثلوهم الحقيقيون، في حين البلاد اللاتينية كفرنسا وغيرها، مزجت بين الثقافة الجرمانية واللاتينية. ولهذا يعتقد الألمان أيضاً أنهم ورثة الإغريق، لأن الحضارة الغربية تأليف بين الاثنين، في حين أن اللاتين فكروا أمميا، لا قوميا. وهذا ما يأخذ الألمان، ضمنه، وأحيانا صراحة، على الفكر الفرنسي.
والحركة الرومنطيقية هي المقابل القومي لأممية الثورة الفرنسية وأكبر رد عليها.


- هل نجد هذا المنحى القومي لدى أمم أخرى؟

-نعم. ولكن، ليس بالوضوح نفسه. ففرنسا، مثلاً، وعلى الرغم من منحاها الأممي، عادت إلى جذورها القومية أكثر من مرة. مثلاً، أيام احتلال الألماني. كذلك بعد الثورة الفرنسية، كرد فعل على الثورة. ولنا أيضاً، مثال صارخ قلما ينتبه إليه الناس، عند أفلاطون. فقد كتب هذا الفيلسوف، قبيل أفول الحضارة الإغريقية المتمركزة يومها في أثينا. وحواراته في مجملها، وباستثناء الحوارات السابعة الأخيرة، قومية. ومنها بصورة خاصة الجمهورية، وبصورة أخص حوار الكريتياس، الذي قلما يقرأ، مع أنه شديد التعبير عن هذا المنحى. (هذا الحوار نقله إلى العربية الأب فؤاد جرجي برباره، ونشرته وزارة الثقافة بدمشق).

- ما الجذور التي يعود إليها الفكر العربي ؟

-تاريخ الجاهلية، التي اعتبرها الكثيرون عصراً الذهبي. وطوراً الإسلام. ومرة ثالثة، الاثنان معا.

- لكن الإسلام جاء لينقض الجاهلية فكيف نوحد بين هذين الجذرين؟