Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

قتل فيل لجورج أورويل ت:

مازن كم الماز

2008-10-07


قتل فيل لجورج أورويل ت:


في مولمين , في بورما السفلى , كنت مكروها من قبل عدد كبير من الناس – المرة الوحيدة في حياتي التي كنت فيها مهما بما يكفي ليحدث هذا لي . كنت ضابط الشرطة الفرعي في البلدة , و بشكل ثانوي لا هدف له كانت المشاعر المعادية للأوروبيين مريرة جدا . لم يكن لدى أحد الشجاعة ليثير الشغب , لكن إذا ذهبت امرأة أوروبية لوحدها إلى السوق فمن المحتمل جدا أن أحدا ما سيلقي عصير التنبال ( نبات متسلق ) على ثوبها . كنت كضابط شرطة هدفا واضحا و مغريا كلما بدا فعل ذلك آمنا . عندما أسقطني بورمي رشيق في ملعب كرة القدم و نظر الحكم ( و هو بورمي آخر ) إلى الجهة الأخرى صرخت الجماهير بضحكة مريعة . حدث هذا أكثر من مرة . في النهاية كانت الوجوه الصفراء المتهكمة للشبان التي تلاقيني في كل مكان , صيحات الاستهجان ورائي كلما كنت على مسافة آمنة أثرت سلبا على أعصابي . كان الرهبان البوذيون الشبان هم الأكثر سوءا . كان هناك عدة آلاف منهم في البلدة و بدا أنه ليس لأي منهم أي عمل ما عدا الوقوف في زوايا الشوارع و التحديق في الأوروبيين بسخرية .
كل هذا كان مربكا و مزعجا . في ذلك الوقت كنت قد حزمت أمري على أن الإمبريالية هي شيء شرير و أنه كلما أسرعت بالتخلص من وظيفتي و الخروج منها كلما كان ذلك أفضل . نظريا - و بشكل سري بالطبع – كنت أقف تماما إلى جانب البورميين و بالكامل ضد مضطهديهم , البريطانيين . بالنسبة للعمل الذي كنت أقوم به فقد كرهته بمرارة أكثر مما يمكنني أن أوضحه ربما . في عمل كهذا يمكنك أن ترى العمل القذر لإمبراطورية في أيامها الأخيرة . السجناء البائسين المجموعين في الزنازين النتنة للسجون , الوجوه الرمادية الشبيهة بالبقر للمدانين لفترات طويلة , المؤخرات ذات الندوب للرجال الذين ضربوا بالخيزران – أرهقني كل هذا مع إحساس لا يمكن تحمله بالذنب . لكني لم أستطع فعل أي شيء في هذا الإطار . كنت شابا و ذا تعليم سيء و كان علي أن أفكر في مشاكلي في إطار ذات الصمت المطبق المفروض على كل انكليزي في الشرق . لم أعرف يومها حتى أن الإمبراطورية البريطانية كانت تموت , و كنت أعلم حتى أقل من ذلك أنها ستكون أفضل بكثير من الإمبراطوريات الأكثر شبابا التي ستحل محلها . كل ما عرفته أنني كنت عالقا بين كرهي للإمبراطورية التي كنت أخدمها و بين غيظي من الوحوش الصغيرة ذوي الأرواح الشريرة الذين حاولوا أن يجعلوا عملي مستحيلا . في جزء من عقلي نظرت للحاكم البريطاني كطاغية لا يمكن قهره , كشيء يطبق بمفرده على الأشخاص التابعين , و بجزء آخر فكرت أن أكبر متعة في العالم ستكون في توجيه حربة إلى أمعاء راهب بوذي . مشاعر كهذه هي نتائج ثانوية للإمبريالية , اسأل أي موظف انكليزي هندي إذا تمكنت من الإمساك به خارج أوقات الدوام .
يوما ما حدث شيء كان تنويريا بطريقة ما ملتوية . كان حدثا صغيرا بحد ذاته لكنه أعطاني فكرة أفضل مما كان لدي من قبل عن الطبيعة الحقيقية للإمبريالية – عن الدوافع الحقيقية التي تعمل وفقا لها الحكومات الاستبدادية . باكرا ذات صباح اتصل بي مساعد المفتش في الطرف الآخر من البلدة بالتلفون و قال أن فيلا كان يخرب السوق . و هل يمكن رجاء أن أحضر و أفعل أي شيء بخصوصه ؟ لم أعرف ما يمكنني أن أفعله , لكني أردت أن أرى ما الذي يحدث فقفزت على فرس و انطلقت إلى هناك . أخذت معي بندقيتي , بندقية وينشستر عيار 0,44 قديمة و هي أصغر بكثير من أن تقتل فيلا لكنني اعتقدت أن ضجيجها قد يكون مفيدا في الإرهاب . أوقفني بورميون عدة على الطريق و حدثوني عما كان الفيل يفعله . لم يكن بالطبع فيلا وحشيا , بل فيل أليف لكنه أصبح "جامحا" . كان مقيدا بالسلاسل كما تكون الفيلة الأليفة دوما عندما يحين وقت "جموحها" لكنه في الليلة الماضية كان قد كسر قيوده و هرب . سائقه , الشخص الوحيد الذي يمكنه السيطرة عليه عندما يكون في هذه الحالة قد بدأ بمطاردته لكنه ذهب في الاتجاه الخاطئ و هو الآن على مسيرة 12 ساعة , و في الصباح عاد الفيل فجأة للظهور في البلدة . ليس لدى السكان البورميين أية أسلحة و كانوا عاجزين تماما أمامه . لقد دمر بالفعل كوخ أحدهم المصنوع من الخيزران , و قتل بقرة و هاجم بعض مخازن الفواكه و التهم مخزونها , التقيت أيضا بعربة نفايات البلدية التي عندما قفز منها السائق و فرا هاربا قام الفيل بقلبها و ألحق بها الدمار .
مساعد المفتش البورمي و بعض رجال الشرطة الهنود كانوا ينتظرونني في المنطقة التي شوهد فيها الفيل . كانت منطقة فقيرة جدا , عبارة عن متاهة من أكواخ الخيزران الحقيرة المسقوفة بسعف النخيل المتدرجة على طرف تل منحدر . تذكرت أنه كان صباحا غائما متجهما في بداية فصل الأمطار . بدأنا نسأل الناس إلى أين ذهب الفيل و كالعادة فشلنا في الحصول على أية معلومات قاطعة . هذه هي الحالة بشكل أكيد في الشرق , تبدو قصة ما دائما واضحة لدرجة كافية عن بعد لكن كلما اقتربت من مسرح الأحداث كلما أصبحت أكثر غموضا . قال البعض أن الفيل قد ذهب في اتجاه , و بعضهم الآخر أنه ذهب في اتجاه آخر , قال بعضهم أنهم حتى لم يسمعوا عن أي فيل . كنت قد قررت أن كل هذه القصة هي على الأغلب جملة من الأكاذيب عندما سمعنا صرخات على مسافة قريبة . كانت هناك صرخة عالية فضائحية " ابتعدوا أيها الأطفال ! ابتعدوا الآن ! " و امرأة عجوز تحمل بيدها عصا خرجت من وراء زاوية أحد الأكواخ , تدفع بقوة حشدا من الأطفال العراة . تبعها عدد آخر من النساء و هن يفرقعن بألسنتهن و يصرخن , من الواضح أن هناك شيئا ما يجب ألا يراه أولئك الأطفال . درت حول الكوخ و شاهدت جثة رجل ميت ممددة في الوحل . كان هنديا , عاملا أسود درافيدي ( أي يتكلم بلغة الشعب السريلانكي - المترجم ) , شبه عار , و لا يمكن أنه قد مات قبل زمن طويل . قال الناس أن الفيل قد هاجمه فجأة عند زاوية الكوخ و أمسكه بخرطومه , وضع قدمه على ظهره و طرحه أرضا . كان هذا فصل الأمطار و كانت الأرض طرية , و كان على وجهه ثغرة بعمق قدم و بطول ياردتين . كان مستلقيا على بطنه و يديه متصالبتان ( بوضعية الصليب - المترجم ) و رأسه متدل بشدة إلى أحد جانبيه . كان وجهه مغطى بالوحل , عيناه مفتوحتان على آخرهما , أسنانه مكشوفة و على وجهه تكشيرة ألم لا يمكن احتماله . ( لا تخبرني أبدا بالمناسبة أن الموتى يبدون مسالمين . معظم الجثث التي رأيتها كانت ذا منظر شيطاني ) . مزق احتكاك قدم الوحش الهائل الجلد عن ظهره بذات المهارة التي يسلخ فيها الإنسان أرنبا . ما أن رأيت الرجل الميت حتى أرسلت حاجبا إلى منزل صديق في الجوار ليستعير بندقية فيل ( مخصصة لقتل الفيل - المترجم ) . أعدت الفرس بالفعل , لم أرغب بأن تجن بسبب الخوف و أن تلقي بي إذا ما شعرت بالفيل .
عاد الحاجب في غضون دقائق معدودة مع بندقية و خمس خرطوشات , في تلك الأثناء وصل بعض البورميين و أخبرونا أن الفيل كان في حقول الأرز في الأسفل , على بعد عدة مئات من الياردات فقط . عندما بدأت بالتقدم تجمهر كل سكان المنطقة فعليا خارجين من بيوتهم و أخذوا يتبعوني . لقد رؤوا البندقية و كانوا جميعهم يصرخون بهياج بأنني سوف أقتل الفيل . لم يظهروا كثير اهتمام بالفيل عندما كان يخرب بيوتهم فقط , لكن الأمر مختلف الآن عندما كان سيقتل . كان فيه شيء من المتعة بالنسبة لهم , كما كان الأمر ليكون بالنسبة لحشد انكليزي , إضافة إلى أنهم كانوا يريدون لحم الفيل . جعلني هذا مرتبكا بشكل غامض . لم أكن أنوي قتل الفيل – لقد أرسلت بطلب البندقية ببساطة لأدافع عن نفسي عند الضرورة – و لكنك تصاب دوما بالضعف إذا كان هناك حشد يتبعك . سرت أسفل التلة , أبدو و أشعر كأحمق , و البندقية على كتفي , و هناك جيش يتزايد باستمرار يتدافع عند قدمي . في القاع عندما أصبحت بعيدا عن الأكواخ كان هناك طريق محصى و بعده الأرض الموحلة لحقول الأرز بعرض ألف ياردة , التي لم تحرث بعد لكنها كانت ندية بفعل الأمطار الأولى و منقطة بعشب جاف . كان الفيل يقف على بعد ثمانية ياردات من الطريق , و جانبه الأيسر في اتجاهنا . لم يلق أدنى بال لاقتراب الحشد . كان يمزق حزما من الأعشاب يضربها ضد ركبتيه لينظفها و يدفعها إلى فمه .
توقفت على الطريق . ما أن رأيت الفيل حتى عرفت بثقة كاملة أنه ليس علي أن أقتله . إنه أمر جدي أن تقتل فيلا يعمل – إنه مثل تدمير جزء ضخم و باهظ من آلة ما – و من الواضح أنه لا يجب على المرء أن يفعل ذلك إذا كان من الممكن تفاديه . و على تلك المسافة , و هو يأكل بسلام لم يبد الفيل أكثر خطورة من بقرة . فكرت حينها و أفكر اليوم أيضا أن هجمة "جموحه" قد مرت بالفعل , و في تلك الحالة فإنه سيتجول فقط في الأنحاء حتى يعود سائقه و يمسك به . أكثر من ذلك لم تكن عندي أدنى رغبة في قتله . قررت أنني سأراقبه لبعض الوقت لأتأكد أنه لن يتوحش ثانية و بعدها أن أعود إلى المنزل .
لكن في تلك اللحظة لمحت فيها الحشد الذي تبعني . كان حشدا هائلا , ألفين على الأقل و كان يزداد كل لحظة . لقد سدوا الطريق على كلا الجانبين و لمسافة بعيدة . نظرت إلى بحر الوجوه الصفراء فوق الملابس الملونة – كلها وجوه سعيدة و ثائرة بسبب بعض المتعة هذا , جميعهم متأكدون أن الفيل سوف يقتل . كانوا يراقبونني كما لو أنهم كانوا يشاهدون ساحرا على وشك أن يقوم بخدعة ما . لم يحبوني , لكن مع تلك البندقية السحرية في يدي كنت أستحق المشاهدة مؤقتا . و فجأة أدركت أنه علي أن أقتل الفيل بالرغم من كل شيء . توقع الناس ذلك مني و كانت علي أن أقوم بذلك , كان بمقدوري أن أشعر برغبة الألفين تضغطني إلى الأمام بشكل لا يقاوم . و كان في تلك اللحظة و أنا أقف هناك و البندقية في يدي , أن أدركت لأول مرة خواء و عبث سيطرة الرجل الأبيض في الشرق . ها أنا هنا , الرجل الأبيض مع بندقيته , أقف أمام جمهور من السكان الأصليين غير المسلحين – الممثل الذي يقود المشهد على ما يبدو , لكنني كنت في الواقع دمية تافهة دفعت ذهابا و إيابا من قبل رغبة تلك الوجوه الصفراء خلفي . لقد أدركت في تلك اللحظة أنه عندما يتحول الرجل الأبيض إلى طاغية فإنها حريته تلك التي يدمرها . يصبح نوعا من الدمى الفارغة المتكلفة , الشكل الاصطلاحي للسيد الهندي ( الانكليزي – المترجم ) . لأن شرط حكمه هو أن يقضي عمره محاولا أن "يترك انطباعا" عند "السكان الأصليين" , و هكذا في كل أزمة عليه أن يفعل ما يتوقعه منه هؤلاء "السكان الأصليون" . إنه يلبس قناعا و على وجهه أن يكبر ليناسبه . كان علي أن أقتل الفيل . لقد ألزمت نفسي بفعل ذلك عندما أرسلت في طلب البندقية . على السيد أن يتصرف كسيد , عليه أن يبدو حاسما , أن يعرف الصواب و أن يفعل أشياء محددة . أن أتي كل هذه المسافة و البندقية في يدي و ألفي شخص يسيرون روائي ثم أتصرف بعدها بشكل ضعيف , دون أن أفعل أي شيء – كلا , هذا مستحيل . سيضحك الناس علي . و كل حياتي , حياة كل رجل أبيض في الشرق , كانت صراعا طويلا كيلا يضحك علينا أحد .
لكنني لم أرد قتل الفيل . راقبته يضرب حزمة الأعشاب على ركبتيه بذلك الجو المنشغل الذي يشبه أجدادنا الذي تملكه الفيلة . بدا لي أنها ستكون جريمة قتل أن أطلق النار عليه . في هذه المرحلة لم أكن أشعر بحساسية ضد قتل الحيوانات لكنني لم أكن قد قتلت فيلا قط و لم أرغب بذلك أبدا . ( لسبب ما يبدو أنه أكثر سوءا أن تقتل حيوانات أكبر ) . إضافة إلى أنه يجب أخذ صاحب هذا الوحش بعين الاعتبار . و هو حي كان الفيل يساوي مائة جنيه على الأقل , أما و هو ميت فهو سيساوي فقط ثمن أنيابه , خمس جنيهات ربما . لكن كان علي أن أتصرف بسرعة . التفت إلى بعض البورميين ذوي الخبرة الذين كانوا هناك عندما وصلنا و سألتهم كيف كان الفيل يتصرف . قالوا جميعهم نفس الشيء : إنه لن ينتبه لك إذا تركته لوحده , لكنه قد يهاجمك إذا اقتربت منه أكثر من اللازم .
كان واضحا تماما بالنسبة لي ما كان علي أن أفعله . كان علي أن أتقدم , لنقل إلى مسافة خمس و عشرين ياردة من الفيل و أن أختبر سلوكه . إذا ما هاجمني فعلي عندها أن أقتله , أما إذا لم يعرني أي اهتمام فسيكون من الآمن تركه حتى يعود سائقه . لكني عرفت أيضا أنني لن أفعل شيئا كهذا . كنت سيء التصويب بالبندقية و كانت الأرض موحلة و رطبة و كنت سأغرز فيها مع أي خطوة . إذا هاجمني الفيل و أخطأته فستكون أمامي فرصة للنجاة فقط مثل ضفدع تحت مدحلة بخارية . لكن حتى عندها لم أكن أفكر بنجاتي تحديدا , فقط بالوجوه الصفراء المحدقة بي ورائي . لأنه في تلك اللحظة مع الحشد الذي كان يراقبني لم أكن خائفا بالمعنى العادي كما كنت لأكون لو أني كنت وحيدا . يجب على الرجل الأبيض ألا يخاف أمام "المحليين" , و هكذا فإنه عموما لا يخاف . الفكرة الوحيدة في ذهني كانت أنه لو أن أي شيء ما مضى بشكل خاطئ فإن الألفي بورمي هؤلاء سيرونني ألاحق و أمسك و يداس علي و أحول إلى جثة مكشرة مثل ذلك الهندي أعلى التلة . و لو حدث هذا فمن المحتمل تماما أن يضحك بعضهم . هذا يجب ألا يحدث مطلقا .
كان هناك بديل واحد فقط . حشوت الخرطوشات داخل المخزن و استلقيت على الطريق لأحصل على وضع تصويب أفضل . ما زال الحشد يتزايد , و صدرت تنهيدة عميقة خافتة , كما يفعل الجمهور الذي يرى ستارة المسرح تفتح في النهاية , من تلك الحلوق التي لا تحصى . كانوا على وشك الحصول على حصتهم من المتعة بعد كل شيء . كانت البندقية شيئا ألمانيا بديعا مع مهداف ذا شعرة التعامد . لم أعرف عندها أنه عند قتل فيل يجب على المرء أن يصوب ليقطع خطا متخيلا يمتد من فتحة الأذن إلى فتحة الأذن الأخرى . لذلك كان علي لأن الفيل كان يقابلني بجانبه أن أصوب مباشرة إلى فتحة أذنه , في الحقيقة لقد صوبت عدة بوصات أمام هذه النقطة معتقدا أن الدماغ سيكون أكثر نحو الأمام .
عندما ضغطت على الزناد لم أسمع صوت الضربة أو أشعر بالارتداد – إن المرء لا يسمعها أبدا عندما تذهب رصاصته إلى مستقرها – لكني سمعت الهدير الشيطاني للجمهور . في هذه اللحظة و خلال وقت قصير جدا أقصر حتى من الوقت الذي تحتاجه الرصاصة لتصل هناك كما قد يفكر المرء , طرأ اضطراب مريع و غامض على الفيل . إنه لم يتحرك و لم يسقط , لكن كل خط في جسده قد تغير . بدا فجأة مضطربا , و قد انكمش و بدا عجوزا بشكل كبير كما لو أن التأثير المرعب للرصاصة قد أصابه بالشلل دون أن يطرحه أرضا . في النهاية بعد ما بدا وقتا طويلا جدا – قد يكون خمس ثوان كما قد أتجرأ على القول – انحنى بضعف على ركبتيه . سال اللعاب من فمه . بدا أن هرما شديدا قد حل به . قد يتخيله المرء مسنا يبلغ عمره خمسة آلاف سنة . أطلقت النار ثانية على نفس النقطة . لم ينهار عند الرصاصة الثانية بل تسلق ببطء يائس على قدميه و وقف عموديا بضعف , و ساقاه ترتجفان و وجهه متدلي . أطلقت النار للمرة الثالثة . كانت هذه هي الرصاصة التي وضعت حدا له . كان بمقدورك أن ترى ألمه يهز كل جسده و يبطش بآخر ما بقي من قوة في ساقيه . لكن في سقوطه بدا للحظة و كأنه سينهض , لأنه عندما انهارت قائمتيه الخلفيتين تحته بدا و كأنه يرتفع مثل صخرة عملاقة تتدحرج , ارتفع جذعه نحو السماء مثل شجرة . أطلق صرخة مدوية لأول و آخر مرة . و بعدها سقط , و بطنه نحوي مع صوت ارتطام بدا و كأنه قد هز الأرض حتى حيث كنت أستلقي .
نهضت . كان البورميون يتسابقون بالفعل ورائي عبر الوحل . كان من الواضح أن الفيل لن يستطيع النهوض ثانية , لكنه لم يكن ميتا . كان يتنفس بتواتر شديد بلهاث متحشرج طويل , كان الارتفاع الكبير لجنبه يرتفع و يهبط بشكل مؤلم . كان فمه مفتوحا على وسعه – أمكنني أن أرى عميقا حتى مغارات حلقه الشاحب الوردي . انتظرته طويلا حتى يموت , لكن تنفسه لم يضعف . أخيرا أطلقت الرصاصتين المتبقيتين على الموقع حيث اعتقدت أن قلبه يجب أن يكون . تدفق الدم الكثيف منه مثل مخمل أحمر , لكنه لم يمت . حتى أن جسده لم يهتز عندما أصابته الرصاصتان , استمر تنفسه المعذب دون توقف . كان يحتضر , ببطء شديد و بألم هائل , لكن في عالم ما بعيد عن حيث كنت حتى أن رصاصة جديدة لا يمكنها أن تلحق به أي ضرر إضافي . شعرت أنه علي أن أضع نهاية لهذه الجلبة المريعة . بدا مريعا أن أرى الوحش الهائل ملقيا هناك عاجزا عن الحركة , و لم أكن قادرا حتى على إنهائه . أرسلت وراء بندقيتي الصغيرة و أطلقت الرصاصة وراء الأخرى في قلبه و في حلقه . بدا أنها جميعا لم تترك أي تأثير . استمر التنفس المعذب بانتظام مثل دقات الساعة .
في الآخر لم أستطع تحمل ذلك أكثر و انصرفت . سمعت فيما بعد أنه قد احتاج إلى نصف ساعة ليموت . كان البورميون قد بدؤوا يحضرون الأوعية و السلال حتى قبل أن أغادر , و قد أخبروني أنهم قد سلخوا جسده حتى العظام تقريبا بحلول بعد الظهر .
فيما بعد كانت هناك طبعا نقاشات لا تنتهي عن قتل الفيل . كان المالك غاضبا لكنه كان هنديا فقط و لا يستطيع فعل أي شيء . إضافة إلى أنني قد فعلت الشيء الصحيح قانونيا , لأنه يجب قتل فيل هائج مثل الكلب المجنون إذا لم يتمكن مالكه من السيطرة عليه . كانت الآراء منقسمة بين الأوروبيين . قال الرجال الأكبر سنا أنني كنت مصيبا , قال الرجال الأصغر أنه من العار قتل الفيل لأنه قتل عاملا لأن الفيل يساوي أكثر من أي عامل كورينغي ( هندي من مدينة كورينغا – المترجم ) . و فيما بعد كنت مسرورا جدا لأن العامل قد قتل , لقد جعلني هذا مصيبا قانونيا و منحني مبرر كاف لقتل الفيل . تساءلت غالبا فيم لو أن أيا كان قد أدرك أنني قد فعلت ذلك فقط كيلا أبدو غبيا .

ترجمة : مازن كم الماز
نقلا عن www.george-orwell.org
مقال عن حادثة حقيقية لجورج أورويل الكاتب الانكليزي المعروف مؤلف 1984 و إجلالا لكاتالونيا .



تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الطريق إلى الثورة

09-كانون الأول-2012

كلمات عن جورج وسوف

19-كانون الثاني-2010

المكان و طقوس القداسة و انتهاك الإنسان

15-كانون الثاني-2010

عن قضية التكفير

11-تشرين الأول-2009

بين المعري و الفلاسفة المسلمين

06-تشرين الأول-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow