Alef Logo
كشاف الوراقين
              

مقاربة نقدية / الدوران حول مركز الالتباس

غريب عسقلاني

2008-10-27

"تداعيات على ضفاف رواية ميس إيجبت للروائية سهير المصادفة"

- 1 -

1 .. عند عتبة السؤال.

في روايتها الثانية "ميس إيجبت", تشتبك الشاعرة والروائية سهير المصادفة مع الراهن المصري في محاولة جادة ومعمقة مع ما آلت إليه أحوال مصر في مطلع الألفية الثالثة, باستقصاء أسباب النكوص عن مشروع دولة محمد علي الذي نقل مصر من مجتمع زراعي بدائي قدري يلوذ بإيمانه الفطري الضارب في تكونه منذ وجد على الأرض" رزح طويلا تحت وطأة العبودية والجهل إلى دولة عصرية, تأخذ من التحديث وسيلة للارتقاء, يساعده على ذلك ثلة من التنويريين الذين عاصروه ووافقوه على فض الاشتباك بين سلطة الدين وسلطة الحكم, وكشفوا عن الطاقات الكامنة في الإنسان المصري ما سهل قيام منظومة متكاملة ومتفاعلة أخذت مصر إلى نهضة حقيقية شاملة شهدت تكوين الاقتصاد المصري"بنك مصر" وإرسال لبعثات التعليمية وتحديث شبكات وطرق الري وتطوير طرق ووسائل المواصلات وتطوير مؤسسة الأزهر الشريف, وقيام حياة نيابية مهدت لظهور الأحزاب السياسية التي شاركت في الحكم مشاركة فعالة وتهيئة المناخ المعرفي والفكري الذي يدفع نحو التطور والمعاصرة..

ما الذي حدث والبدايات تقود إلى نهايات إيجابية؟

ما الذي شوه الصورة ووأد مفاعيل الحياة في مصر؟

وما الذي جعل من مصر بيئة استهلاكية ملحقة غير مشاركة في الانتاج؟

وعند أي المفاصل حدث الاختراق؟ ومتى حدث الاندفاع نحو الخلف؟

ومن غَبش الصورة وقلب المعايير؟

وهل تعيش مصر حالة من القهقرى, جعل الحاضر ابنا غير شرعي للماضي القريب؟!

أسئلة تطرحها الكاتبة/ الراوية بذكاء يصل ذروة الاشتعال, بحذر قد يدخل في حدود الغموض, وتوجس يقف بين الشك واليقين, وتلتزم الصمت وترهف السمع عند مفارق التأويل, وتضع الإشارات عند مفاصل الدروب وعلى نواصي التواريخ الفارقة, وكأني بها تمارس بكاءً من نوع فريد, ليس تطهرا من دنس طارئ, وليس وسيلة للطهارة بالمعنى القيميّ في زمن رُوضت فيه القيم تحت سياط السلفيات, والتي تتجلى في أبشع حالاتها بالسلفية الدينية التي شطرت المجتمع إلى الأنا الحق والأنا العدو المطلق, ولا سبيل بينهما غير الافتراس, والافتراس قد يطال كل "أنا" تستيقظ على الذهول مما يحدث..

فهل ما حدث رجم غيب؟

أم هو نتيجة لما أصاب البنية من عطب وعيب؟

أم هو فعل مقدر لأخذ الحاضر إلى غيبوبة الغياب/ الغيب, بعد أن تحولت مصر إلى مساحة الانكسارات والانتصارات التي تأسست على جهل الطامعين وتجار التواريخ المكتسبة خارج مسارات الزمن؟! ما يجعل أسئلة الرواية حول من قتل نفرت جاد " ميس إيجبت".. حارقة لازمة

أعتقد أن الرواية أعادت تكييف الأسئلة في السؤال المضاد, والأهم وكأني بها تقول:

وهل هناك من يستطيع قتل روح مصر؟؟


- 2 -

2 - ملك كليل العينين

تقوم الرواية على بنية دائرية مراوغة, تأخذ القارئ إلى مركز الدوران لتطرده بعيداً على قوس المحيط من جديد, بفعل تبدل الأحداث والأمكنة التي تنقل القارئ من مدار إلى مدار.. تقترب تارة, وتبتعد تارة على لغة شعرية تسكن روح الكلام, وتشاغب على ظاهر المنطوق منه,.. وتداعيات يتداخل فيها المنولوج مع البوح مع الاستشراف عند الغامض من الأصوات الداخلية وتسلل الكاتبة /الراوية, بحذر حذق ,وعلى حين غرة من القص, باستباقات زمنية نحو مستقبل يتجاوز اللحظة إلى مستقبل آتٍ, فيقطع على القارئ بعض اتجاهات التأويل المضلل.. وقد تصل الاستباقات إلى زمن سيأتي بعد زمن القراءة.. وكذا الهمس عند الضرورة بإستدراكاتٍ تفسر بعض غامض الأمور.. فتقوم الراوية الكاتبة بدور المراقب الفاعل ما يجعل الدوران حول المركز سمة الكتابة كما هي سمة القراءة لجذب القارئ إلى قناعات المؤلف.. وذلك بحضور الضحية أكثر إلحاحا بعد غيابها المادي, وكأنها غادرت مؤقتا لتعود وتقيم المحاكمة ضارية طازجة لما حدث وما زال يحدث في مصر المحروسة..فيكون ضحاياها هم المناط بهم الكشف عن قاتلها, وفي مقدمتهم ملك الكشف عن الجريمة اللواء شرطة تاج العريان الذي تعرى من قناعاته ومناعاته في لحظة كشف خاطفة تأخذه الى نهايته ليصبح الحي الميت الذي يعيش الذهول حتى الهذيان..

" الملك كليل العينين.. له أذن واحدة وأنف يشم ما ترشحه له الكلاب..يدا الملك مصطبغتان بدم الحقيقة وقامته المهيبة بلا ظل وقلبه يهيم وحيداً في عراء الليل. يتحول تدريجياً إلى حوت أبيض ليس له أعداء على الإطلاق حيث تخافه كل الحيوانات البحرية حتى الحيتان القاتلة الأخرى.. "

هذا الملك يصحو فجأة على عجزه وفشله أمام "نفرت" جاد بعد تشوبه لحمها وسرقة جزء من عضوها الجنسي وحرق بؤرة وردتها.. ولكنها تبقى امرأة نابضة تعلن عن ذاتها كما الحقيقه..

" تقترب من الثامنة عشرة من عمرها، خمرية اللون، بلا شك كانت تتورد عند أية لمسة أو نظرة أو ارتفاع طفيف في درجة حرارة الجو فلا ينام بسببها عدد لا بأس به من الرجال، عارية تماماً إلا من زغبها. . خصر يستطيع المرء إحاطته بذراع واحدة، فخذان مصقولان ومهيآن لطيران غامض ما، ساقان مخروطيان كما أنزل بكتاب نسى الآن اسمه واسم مؤلفه، فم شهواني ورومانسي في آن واحد ، مفتوح قليلاً كما لو كان في انتظار قبلة من عاشق.."

هذا للجسد الباذخ يضع "تاج العريان" وجها لوجه أمام موته قبل الموت, ويحرمه من سلاحه الوحيد وسره العجيب في الوصول إلى القاتل الحقيقي, باستعادة مشهد القتل على مرايا عيني الضحية والمفتوحتين على ذهول الذهاب.. حيث يتحول" تاج العريان" إلى جثة قرين تنقل الرسائل من الجثة المغدورة.. لكنهم هذه المرة, وتحت سطوة التقاليد, أغلقوا عيني "نفرت جاد" قبل وصوله, وأسدلوا الستار عن مرايا عينيها ما جعله يهبط إلى قرار الفقد, ويتعرى حتى من اسمه أمام الغياب.. يندب حظه الذي هو مقدمة موته الأخير..

".. لماذا سمحت لهم بأن يغلقوا عينيك؟ ولماذا قتلوك أيتها الجميلة ؟ هل أرادوا التخلص منكِ لأنك زائدة عن حاجة حياتنا القبيحة ؟ أم أرادوا تخليدك على هذه الصورة - جثة فاتنة – كي لا ينساك قط رجل مثلي يخطو أولى خطواته نحو العجز والشيخوخة؟! "

فهل يدرك تاج العريان وبشفافية لم يدركها أنه يعيد توصيف الملكة "نفرتيتي" أجمل جميلات العالم والتي توجت ملكة جمال الكون وتجلت أيقونة خالدة وما تزال.؟

ولكن من يكون الملك تاج العريان..؟

رجل من الجيل الثاني لسلالة ملوك ثورة يوليو تناسل عن مجد أبيه اللواء المتقاعد محمد العريان, الذي ينحدر من سلالة خدم تحولوا إلى ملاك صغار بكدهم وجهدهم الذاتي وفطرتهم البيضاء, محمد العريان أخذته مواصفات الكفاءة ليصبح ضابطا في العهد الملكي, تأخذه أقداره ليكون من سلم الملك فاروق قرار مجلس الثورة بقرار خلعه عن عرش مص, ومغادرته البلاد وتولية ابنه الأمير الرضيع احمد فؤاد ملكا تحت الوصاية.. هذا الضابط يشهد كيف تقلع الباخرة بالملك إلى غير رجعة, ويشهد رجفة بدنه عند مغادرة الملوك عروشهم, وهو ما لاقى استهجان أبيه الفلاح القنوع الذي فضل استنبات الصحراء عن هبات الأموال المسروقة, وها هو تاج العريان الوريث الشرعي لمحمد العريان لواء المدرعات الذي شهد انكسارات مصر وشهد انتصارات اكتوبر, اختار مغادرة مؤسسة الجيش ,1985 وفي جعبته القليل من الأسرار العسكرية, والكثير من الفضائح ليقيم امبورطوريته المالية مستثمرا, ويقيم في قصر العريان المنيف مستفيدا من منجزات العصر..

تاج العريان وفي لحظة كشف يقف حائرا أمام علاقته بأبيه الذي يعيش آخر أيامه حالة بين الموت والحياة.. بين الصحو والغيبوبة..يلوك شيئا غامضا.. يسقط في الهياج لدرجة الهمود ,ويغرق في البكاء لدرجة العويل, ويمارس السطوة حتى حدود الدعة والاستكانة.. يشف كملاك, ويجأر مثل أسد جائع في غابة قفر, تتناثر من هذيانه حقائق وتقديرات تضع النقاط على الحروف..

ما الذي فعلته "نفرت جاد" بالملك تاج العريان إلذي فاق وزنه المائة كيلوجرام من لحم رجراج على وجه تركي يميل إلى الاحمرار.. وانف دائم التقطيب حتى لا يصير مثل وجه امرأة سمينة حلوة..

" واضح أنني أودع اليوم قدرتي الجنسية وإلى الأبد .. لماذا أنا متأكد أن عيني نفرت جاد المغلقتين لو تركتا مفتوحتين لما استطعت رؤية شيء ؟ هل فقد بصيرتي مرتبط بفقد قدرتي الجنسية؟ "

وهو الذي ضاجع مختلف الألوان من النساء من مختلف الطبقات والشرائح, لم تخذله طاقته عن الفحش يوما يعيش حالة تناقض عجيب, ويكشف هروبه إلى لحم الأخريات, لأنه لم يكن يوما سعيدا بزوجته الدمية "نسل شاة " المنحدرة من أصول تركية, والتي لقنتها أمها أن من ضرورات الشرف أن تكون تحته هامدة كحشية, وأن العملية الجنسية نوع من العار المحلل والدنس المشروع, وأن عليها التخلص من آثاره فور وقوعه, وتعود إلى شئونها الأسرية والأنثوية الأخرى, لتثبت له على مدار العلاقة أنها القطة المغمضة الجاهلة, وليست الأنثى الهائجة على رجل حتى لو كان زوجها, فلم تفرح به مرة واحدة حتى لو كلفها ذلك اتهامه لها بالعهر..

".. لم تجرب أن تتذوقنى للنهاية فكان عقابها أن تتحول تدريجيا إلى تلك الكتلة الهلامية الجيلاتينية التي أصبحت عليها الآن. أنا أيضاً حيوان فلطالما تمنيت أن أسبها وأنا فوقها ولم أفعل، تمنيت أن أجعلها عاهرتي وعشيقتي التي ارتكب معها الإثم، ولكنني كنت أبحث عن ذلك فوق أسرة نساء أخريات محتفظاً بها كما شاءت وشئت – أبو الهول – الذي يحرس بيتي وأولادي وشرفي.. شرفي ؟!.."


- 3 -

3 - ماذا يلوك.. ماذا يخفي؟!


يلوك محمد العريان شيئا مبهما يخجل منه أمام الممرضات والدكتور الكاشف وأمام كمالة على وجه الخصوص.. هل يلوك نفرت جاد هو الآخر؟ هل تسللت إليه في غفلة منه وسكنته وصارت ضحيته, كما كانت أمها اخلاص وأمثالها من ضحاياه؟..هل يعود العريان القهقرى ويراودها على لحمها..؟

نفرت جاد ما زالت بؤرة الحكاية ومركز القص.

".. فتاة في الثامنة عشرة استطاعت أن تجيد لغتين، وركوب الخيل، وتكون بطلة تنس، وقارئة نهمة، وفى الوقت نفسه هي ابنة داعرة، قضت طفولتها وهى تلعب على أرض كوافير ربما شاهدت فيه إبرام صفقات بيع اللحم الأنثوي بما فيه لحم أمها شخصياً، بل ربما تكون قد شاهدت كادرات لأمها وهى تمارس مهنتها.."

يدور القص بتأثير قوة الطرد المركزي, يقفز بالحالة من مدار إلى مدار أوسع, ثم يعود بقوة جذب المركز الذي يسحب الأحداث والشخوص إلى مدارات أقرب إلى البداية.. والبداية حضور اشد في غياب ضحية فجرت الأسئلة فأصبحت أكثر ألقا .. وها هو محمد العريان يصعد من غيبوبته إلى منتهى الحضور, ومنتهى العقل ومنتهى الصلف منذ كان ضابطا صغيرا في تشكيلات الضباط الأحرار.. وما زال..

" يقف على رصيف رأس التين يتأمل الملك ببزته البحرية البيضاء وقامته المهيبة، ما الذي جعل بدنه يقشعر برغم أن الملك لم يعد ملكا، سار أمام قرقول الشرف، والبيرق يتم تنكيسه ببطء من الصاري، تقدم إليه حاملاً البيرق فأخذه الملك ووضعه مطوياً على ذراعه، والتقت أعينهم لثوان فابتلع نظرة ازدراء ذى الجسد الضخم حتى أخذ صوت المركب يعلو على صوت السلام الوطني، كادت دموعه تطفر من عينيه وهو يستمع إلى موسيقى "فيردى"، هيئ له أنه يستمع لسلام بلاده لأول مرة، لم يتصور أبداً إنه إلى هذا الحد رائع ويكاد لا ينتهي، ظل يتابع المركب وهو يصغر شيئا فشيئا حتى ابتلعته المياه الزرقاء ، ما الذي جعل عينيه تدمعان قليلاً ؟ ويعود وهو يجر قدميه جراً، لقد كان يكره هذا الملك ويؤمن بأن " فاروق" هذا خمورجى ونسوانجى ومن أعوان الاستعمار وأنه حامى حمى الفساد .."

وعندما أبلغ أباه عن طرد الملك الخائن العميل رد علية أبوه بجفاء:












































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

إطار لصورة رمادية

14-نيسان-2018

إطار لصورة رمادية

30-تموز-2015

مدونات دعبول السلام

13-تشرين الأول-2012

قصة قصيرة / غيمة الدموع

16-أيلول-2012

بلورة المرجان

18-نيسان-2012

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow