Alef Logo
دراسات
              

رثاء الذات، محورة التضاد في سربية سميح القاسم

حسين حمزة

2008-11-04


مدخل:
إن القصائد التي ألفها أصحابها يرثون فيها أنفسهم قليلة. ولا أذكر - على حدّ علمي - شيوع هذه الظاهرة في الشعر العربي الحديث. كذلك لم تكن هذه الظاهرة شائعة في الشعر العربي الكلاسي. قد يكون الشاعر مالك بن الريب من أبرز الشعراء الذين رثوا أنفسهم في قصيدة له (1)

ساحاول في هذه المقالة أن أحدد ميزات أساسية في قصيدة رثاء الذات. يبدو أن "لا منطقية" رثاء الذات تفضي بالقارئ إلى تخيّل عالمين اثنين يخلقهما الشاعر، وهما: عالم الموت وعالم الحياة. ما يميز عالم الموت أنه نقطة تحوّل نحو نهاية محتومة ومجهولة في الوقت ذاته.

لا يستطيع الشاعر أن يسبر كنه هذه النهاية، لذلك نجد الموت أو الألفاظ الدالة عليه محطة نهائية يستسلم أمامها الشاعر، أو قد تكون ملاذًا أخيرًا يلجأ إليه الشاعر ليدل على عمق المأساة التي يحياها. أما الحياة، فإن الشاعر في قصيدة رثاء الذات يرى صورته وشكل الحياة بمنظار مختلف. فهو في قصيدته لا يذكر محاسن ومآثر المتوفّى، كما يحدث في قصيدة الرثاء العامة التي تنقسم أساسًا إلى قسمين: مدح الميت واعتبار الموت قضاء لا مناص منه(2).
إن الشاعر يتأمل الموت ويحاول أن يقول من خلال قصيدته ما يشبه أمنياته وأحلامه التي طالما أراد أن يحققها أو يراها. تصبح إذن قصيدة رثاء الذات الفرصة الأخيرة أمام الشاعر حتى يعرّي ذاته، وتصبح القصيدة مرآة للذات لا مديحًا لها.

ثم إن الذاتية التي تتصف بها تبتعد عن الحكمة التي تميز قصيدة الرثاء في النظرة الخارجية لفعل الموت في الإنسان، وذلك دون أن تتمحور الذاتية حول الأنا فقط. إذ قد تدل على الشمولية في رمزيتها. من هذا المنطلق تصبح قصيدة رثاء الذات قصيدة بوح - لا يعني ذلك الاعتراف - تفصح عن أحلام وواقع الشاعر أكثر منها قصيدة مدح تحنط ذكرى الميت، وعندئذ تصبح قراءة هذا النوع من القصائد قراءة تهتم بالموقف أكثر منها بالحدث.

نلمس ميزة أخرى في قصيدة الرثاء تتمثل في شخص المرثي وعلاقته بالزمان والمكان، إذ يكون في قصيدة الرثاء الحنين والاغتراب والأسف والبكاء، التي تأتي تعويضًا عن جمود الحياة وجفاف الموت(3)أما في قصيدة رثاء الذات فيتحول ذلك إلى أمر هامشي ويغدو البوح والموقف من الحياة صوت القصيدة وجوهرها.

إضافةً لذلك، تحمل قصيدة رثاء الذات ثنائيات أساسية يفرضها الموقف، لا نجدها في قصيدة الرثاء، وإن وجدت فقد تكون بين ثنائية أساسية، وهي الموت الطاغي ومظاهر الحياة الضعيفة المستسلمة لسطوة الموت. بينما نجد في ثنائيات قصيدة رثاء الذات جدلية من العلاقات المتصادمة فيما بينها أو المتجاورة.
سأحاول إيجاد صدى لميزات قصيدة رثاء الذات عند تحليلنا سربية الشاعر سميح القاسم والموسوم بها في ديوانه "كلمة الفقيد في مهرجان تأبينه"(4).

أما القسم الثاني من عنوان المقالة فهو محورة التضاد، وأقصد بداية بالتضاد، مفهوم الطباق البلاغي، سواء كان ذلك طباق إيجاب، إي إيراد كلمة وضدها، أو طباق سلب، بأن يرد اللفظ تارة مثبتًا وتارة منفيًا. كذلك الطباق الخفي، وهو طباق يكون التقابل فيه بين لفظ صريح وآخر يدل على أحد لوازم اللفظ المقابل للطرف الآخر(5). إضافةً إلى مفهوم الطباق يحمل مفهوم التضاد أيضًا معنى التقابل، فيتجاوز مفهوم التضاد إلى ما يمكن تسميته تضاد الموقف، ولا يكون هذا المفهوم إلا إذا أصبحت تقنية التضاد جزءًا لا ينفصل عن نسيج النص ولم يتوقف عند حد البلاغة القديمة التي توسلها الشاعر ليؤطرها في بيت أو في صورة شعرية. فالشاعر الحديث حوَّل مفهوم التضاد إلى أنا الشاعر مع ما يحيطها في ثنائية يرصد فيها الشاعر علاقة النفي والإثبات كقيمتين خلافيتين تظهران المفارقة بين حالتين متقابلتين(6)وفي ثنائية صراعية في معظمها، تصطدم فيها الكتابة والمحو والأنا والآخر و"البرّاني"و "الجواني" كمفاهيم أساسية في بنية الشعر الحديث.

إن طبيعة بناء الشعر الحديث تقوم على الارتباط بالعالم، أو بمعنى آخر تقوم على رؤية الشاعر الذاتية، وغالبًا ما يتم هذا الربط برصد عمليات التوحد أو التصادم(7)

إن رؤيا الشاعر الحديث التي يستنفرها من أجل تنوير وتثوير الواقع تتقمّص أيضًا أصوات شخصيات تاريخية أو أسطورية أحيانًا أخرى. هذا التقمص يمكن تسميته بتقنية القناع، هو نوع من التضاد بين أنا الشاعر وبين الواقع الذي يحاول أن يبث إليه رسالته مباشرة أو مشفرة، وقد يكون تماهيًا بين شخصية الشاعر والقناع ليؤكد التنافر القائم في الواقع، ومن ثم يتحول التكثيف المجازي التي يملكها القناع إلى تكثيف رمزي لواقع مكشوف وعارٍ(8)

يؤكد ما ذهبنا إليه أن تضاد الموقف هو حالة أو رؤيا يمر بها الشاعر الحديث، وليست وسيلة بلاغية يضمّنها قصيدته. أي أن دلالة التضاد في البلاغة العربية لم تتجاوز معنى الجزئية وأصبحت تشير إلى الكلية أو ما أسميه تضاد الموقف، مثلما سنلاحظ أن مفهوم التضاد هو محور شكلي ملتحم في المضمون إلى درجة التطابق عند القاسم، مما يدل على أن القاسم طوَّر مفهوم التضاد في نصه الشعري، يدلّل على ذلك التوظيف الكمي والكيفي لهذه التقنية.

فيما يلي تبيان المحاور المتضادة في الديوان
العنوان بين الصوت والصمت
إن لا منطقية العنوان تمأسس لثنائية الصوت والصمت باعتبار الصوت كلمة أو كلمة الشكر التي هي مظهر من مظاهر الحياة، والصمت رديف للفقيد الميت أو أنه علاقة بين الحضور/الصوت والغياب/الموت. ثم إن الصوت المتمثل في الجماعة، يشير إليه لفظ "المهرجان"، إذ إن المهرجان هو تجسيد كآلة الصوت والحياة، ولكن في منطق القصيدة يكون المهرجان بكل جلبته صامتًا، أما الفقيد فهو القائل. بهذه الثنائية اللامنطقية تتحول قصيدة رثاء الذات إلى فعل خارج منطق اللغة، إنها قصيدة الذات مقابل المجموع. أو رسالة الميت إلى عالم الحياة.

يلاحظ كذلك المجاز في بداية العنوان "كلمة" فهو جزء يراد به الكل(9)، لكن تتحول هذه الكلمة أيضًا إلى حالة تضاد بين صفحة العنوان كنص مواز أو مرافق وبين القصيدة المطولة التي بلغت ستين صفحة في الديوان. قد يرمز هذا الطول إلى معاندة فعل الموت. إنه نوع من ملء البياض بخصوبة السواد. إن حضور الصوت كما ورد في العنوان "كلمة" وفي لفظ "الشكر" في الديوان يتجاوز البعد المادي ليكوّن حالة تضاد بين أحداث مسيطرة وأخرى مهمّشة في التاريخ على مستوى الذات والمجموع.

2- البداية - النهاية
يقول الشاعر في بداية ديوانه:
"يطيب لي الآن أن أجزل الشكر من كل قلبي القوي
لكل الوفود التي احتشدت من أقاصي البلاد لتشييع
جثمان شخصي الضعيف،
لكل الذين أتاحوا لنعشي رحيلاً مريحًا على رمث أكتافهم،
ولكل الذين اشتروا لي أكاليل زهر بطيء الذبول.
وماذا أقول؟" (الديوان، ص 5).

يقابل الجثمان الضعيف فكرة الحضور الكثيف المتمثل في مهرجان تأبين الشاعر. يجسد هذا الحضور أسلوب التكرار الذي وظفه الشاعر (لكل الوفود، لكل الذين...) ثلاث مرات. فيحدث هذا التكاثر بدوائر ثلاثة بدءا من نقطة في أقاصي البلاد مجهولة، ثم إلى دائرة المشيعين المجهولين كاسم عام، ثم دائرة الأكاليل كعنصر معروف. يقابل هذا التدرج من الخارج إلى الداخل الشكر؛ ترديد صوتي من الداخل إلى الخارج أي من "كل قلبي القوي" على المستوى المعنوي المقابل أيضًا للجثمان الضعيف. فثنائية الضعف والقوة بارزة في بداية القصيدة حيث تكون بذرة النهاية مبثوثة في البداية أيضًا كما سنلحظ ذلك.

تبرز الثنائية كذلك في فعلي الزمن الحاضر والماضي، فالماضي منسحب على طقوسية الموت (احتشدت، أتاحوا، اشتروا، بطئ الذبول)، والحاضر ممثلاً بـ (يطيب، الآن، أجزل، أقول). نلاحظ أن افتتاحية البداية بالفعل "يطيب لي" موظف توظيفا أيرونيا، ويشير إلى التذوّق كحالة نشوة وتحقق، ثم استنفار حاسة البصر في "أكاليل زهر بطئ الذبول" إضافةً إلى حاسة النطق والسمع في فعل الشكر والقول يرجح في النص عشق الحياة مقابل فكرة الموت، فالشاعر يوظف شعرية الحواس في سبيل ذلك.

إذا نظرنا كذلك إلى الشكل الطباعي، وإلى توزيع السواد على البياض في البداية، لوجدنا أن الشكل متواصل خطيًا، مما يدل على النفس المستمر المشبع بالحياة، فلا وجود لفراغات أو لتهدّج في الصوت.

يكرر الشاعر البداية في نهاية الديوان كبناء دائري على هذا النحو:
"يطيب لي الآن أن أجزل الشكر من كل قلبي
لكل الوفود التي احتشدت من أقاصي البلاد لتشييع
شخصي الضعيف: لكل الذين أتاحوا لنعشي رحيلاً
مريحًا على رمث أكتافهم، ولكل الذين اشتروا لي
أكاليل زهر بطئ الذبول
يليق بهذا الأفول
وماذا أقول؟
ماذا أقول؟
ماذا أقول؟
ماذا أقول؟
ماذا...؟" (ص 60)

تتميّز النهاية بأن الشاعر أضاف مكررًا "ماذا أقول". وقد تكرّرت أربع مرّات وكأنها دورة الحياة الممتدّة في أربعة فصول. ثم إن صوت الموت "يليق بهذا الأفول" هو الذي يسيطر على النهاية في ثنائية تقابل بين مظاهر الحياة، النور والظلام، وبين مظاهر الحياة أيضًا كما جاءت في بداية الديوان، وبين مظهر الموت في نهايته. يؤكد هذه الثنائية دلالة اليقين المثبتة في البداية مقابل دلالة الشك في السؤال "ماذا". إنها الكلمة المعزولة، ونقصد بها الكلمة التي تنفرد وحدها بالبيت فتكون الوقفة فيها أبرز من القافية... فالمكان النصي ببياضه يترك الصمت متكلمًا، ويحمل الفراغ كتابة أخرى أساسها المحو الذي يكثف إيقاع كل من المكتوب المثبت والمكتوب الممحو (11).
3- الذاكرة - المحو
التذكر - كجزء من الذاكرة هو نوع من استحضار الواقع الخارجي وتثبيته في الوعي، وبذلك يتحول الواقع في الذاكرة إلى جثة محنطة تبعث فيها الحياة في كل مرة تحدث فيها عملية التذكر. كما أن التذكر قد يكون ردّ فعل لواقع يضغط على الذات من أجل أن يمحو منها أو يثبت فيها حالة معينة. لذلك يمكن أن يكون فعل التذكر للتثبيت طورًا وللرفض تارة أخرى، حيث يكون التثبيت بدلالة الإقرار ورصد الحقيقة وعمق المأساة، أما الرفض فيكون بدلالة الحلم والتغير.
"وأذكر أن ضلوعي صارت توائم قضبان سجني
وأذكر كيف وشمت ذراعي
بحسناء عارية تستظل شراعي

وتحلم، تحلم كيف ستصبح بوصَلَتي في ضياعي
وأذكر كيف رسمت على أنف موتي
سنونوةً، ورسمت الربيع
على باب بيتي
وأذكر كيف نسيتُ الصقيع
وكيفَ نسيتُ صباحا يضيع
على شجر من سحاب
يضيع
وأذكر كيف تذكَّرتُ أني نسيتُ وكيفَ نسيتُ وكيف
تذكَّرتُ أني تذكَّرتُ أني نسيت
وكيفَ أموتُ لأني أعيش

وكيفَ أعيشُ لأني أموت

وأمسك حينًا وأفلت
بآلام هاملت" (ص 14-15)

لا شك أن التماثل في تشبيه الأضلاع بقضبان السجن نوع من التثبيت والإقرار لحالة التذكر التي تثبت دلالة المأساة والاغتراب الذاتي عند الشاعر. ولكي يحاول أن يرفض هذه الحالة يصبح وشم الذراع نوعًا من التجذير يشبه فعل الكتابة ويرفض المحو. إنه من هذا المنطلق علامة أو وسام أو شارة محفورة، لها فعل الكتابة والحفر كما يلخص ذلك اللفظتان بوصَلَة - ضياع. فالشاعر في حالة ضياع على مستوى الذات والكون، لأن استدعاء صورة البوصلَة والشراع يحيل إلى البحر حيث الضياع لا نهائي. فتضاد بنية المكان ما بين سجن ذاتي، ضلوعي - سجني كمكان مغلق، وصورة البحر كمكان مفتوح، يؤكد مفهوم الاغتراب والضياع. وحتى لا يستسلم الشاعر لهذه الحتمية تكون الفتاة الحسناء العارية - رمز الحقيقة والخصوبة - عاملاً يؤكد فعل الحلم مقابل الواقع. أي أن الحلم هو رفض للواقع. ينسحب الأمر كذلك على التضاد الموجود بين الموت والسنونوة ، فالموت هو محصِّلة مطلقة للثبات وعدم الحركة، أما فعل الرسم المتجسد بالسنونوة والمستوحاة من عالم آخر ينحو نحو العلوي وليس كفعل الموت نحو السفلي، يؤكد فعل الحركة كفعل مطلق لأنه خاصية من خواص هذا الطير. لا يتوقف هذا التضاد عند مفهوم الحركة، بل يرفض الشاعر الموت وفي موته ينظر إلى الحياة كموقف. هذا التضاد المتمثل بالطباق بين الفعلين أذكر ونسيت هو استمرار لقطبي التثبت والرفض، الحلم والواقع، السجن والمرآة، البوصلة والضياع، الموت والسنونو. كما أن التكرار الكمي لهذين الفعلين له دلالة الصراع المعلق بين محورين أزليين: الموت والحياة. يؤكد محور التثبت اللفظان( أمسك وأفلت) وكأن الحياة والموت محدودان في مدة زمنية قصيرة، يكون الإمساك رديف للحياة والإفلات تعويم لحالة الألم عند الشاعر/ هاملت.



4- الذات- القناع أو هاملت العربي
في سربية الشاعر، يستوحي تناصيًّا قصة هاملت الذي يحاول أن يعرّف نفسه من جديد إذ تأسره الأفكار عن الفعل(13) كذلك يختلط على هاملت أمران اثنان: ضرورة الانتقام وإحساسه بانقلاب كل ما في الحياة إلى شر، ومن سوي إلى شاذ (14). يستوحي الشاعر قناع هاملت على مستوى الذات، إذ يثبت حالة الشك التي تسيطر عليه. هذا الشك ينفي حتمًا تحديد هويته، فيصبح مسلوب الإرادة عاجزًا عن الفعل.
"أرى شبحًا في الضباب. أخاطبه لا يردّ
وأستل سيفي وأصرخ: من أنت؟ من أنت
يا مَن تحاصرني بالظلال
وتمسك باللغز حينًا، وتفلت
وأمسك حينًا، وأفلت" (ص 15)
ينتصر الشبح على الذات في النص أعلاه، فتتأكّد ثنائية الشك واليقين، منسحبة على فعل الخطاب (استلال، السيف، الصراخ) في تدرج درامي واضح، وعلى رد الفعل السلبي المتمثل به (لا يردّ، تمسك وتفلت).
يؤكد حالة الانتصار فعل الحصار الذي يفعّله الشبح على هاملت، لكنه لا يجعله انتصارًا مطلقًا على مستوى اللغة، فيتراجع، ويبقى مفهوم الإمساك/ التثبيت والإفلات / التعويم حاضرًا في النص.
يتخذ توظيف القناع عند الشاعر شكلاً آخر، وهو منحى التعريف وحشد الأقنعة. كأن الشاعر يريد أن يكثف دلالات الأقنعة المستوحاة ليواجه بها واقعه وليخلص من حالة الشك التي اتخذت شكلين: واعيا وغير واعٍ.
"أبعْدَ العشاءِ الأخير أنا كنت يوضاس. أم صلبوني لأني المسيح.
تعبتُ، علمتُ، جهلتُ. سألتُ أنا هملت أم سميح؟" (ص 41).

في السؤال الإنكاري توظيف واعٍ من الشاعر بأنه تجسيد لدلالة المسيح. وقد ورد التضاد من باب تأكيد دلالة الشك التي يعانيها الشاعر في سفره الطويل في حياته، كي يثبت ذاته. لذلك فإن كلمته في مهرجان تأبينه ما هي إلا إعلان وتحديد هوية كما يراها، دون أن يحول دون ذلك عائق، لأن حتمية السياق / الرثاء تفرض ذلك.

إن الطباق في فعلي العلم والجهل يلخصان بشكل متوازٍ وتعاقبي الثنائيات بين المسيح ويوضاس، لكنه ينزاح في ثنائية هاملت أم سميح ليصبح التضاد متساويًا في الدلالة.

يمكن تفسير حشد الأقنعة أيضًا لدى الشاعر بحالة التقمّص في العقيدة الدرزية، إذ إن الحياة سلسلة متواصلة ومتناسلة من الفعل الحياتي.
"أنا القرمطي الأخير، الطليق الأسير، الشقي الأمير
أنا هملت العربي. اشهدوني
أدر على أحجياتِ الجنون" (ص 53).

قد يكون القرمطي الأخير قناعًا لأبي الطيب المتنبي(15) أما الشقي الأمير فقد يكون أبو فراس الحمداني. يجعل هذا الحشد من الأقنعة المتضادة الجنون أحجية. يتدرب عليها الشاعر حتى يوازي بين ذاته وبين عالمه الخارجي ، بين البرّاني والجوّاني، بين رومانسية الحمداني وثورية المتنبي، وبمنطق ولا منطق هاملت.

يتمحور الشاعر حول ذاته في نسب صفات لها قد تقترب فقط من تلبس القناع.
"أنا رجل النارِ. تسرق ريحُ الشمالِ رمادي فأمشي
على الجمر. آمنت، هاأنذا أقبض الريح جمرًا
وهاأنذا أقبض الجمر بردًا على حسرتي، وسلامًا
على حيرتي" (ص16).
يوظف الشاعر التضاد بين النار والرماد، حيث النار فعل للحركة والرماد تجسيد للموت. وبين الجمر والبرد توظيف لأسلوب القلب على مستوى بنية الجملة. وفي التقابل بين لفظتي البرد والحجر يجعل الشاعر الريح رمزًا للحركة المطلقة المتغطرسة كالشبح، إذ إنها تسرق رماده الذي يمنحه الشاعر دلالة إيجابية، فيمشي على الجمر. تصبح الريح مجازًا رمزيًا لآلية الموت، ويصبح الشاعر ملامح لصورة إبراهيم الخليل في النار، كما ترشح دلالة اللفطين "بردًا وسلامًا"(16).
يكون التضاد المتعلق بأنا الشاعر أيضًا إيجابيًا محملاً بدلالات الجهات المنبثقة من السياق الحضاري للشاعر. وفي توظيف التضاد، سواء كان على مستوى الطباق أو المقابلة، تأكيد لدلالة الضحية كفعل يقيني ودلالة الإغاثة كفعل شك.
"وأشهر سيفيَ شرقًا، لتصهلَ في
الغربِ قهقهة
الظافرين على قبر أهلي
ويسقط قتلاي حولي
وأشهر سيفيَ غربًا ليغمد خنجره
الشرق في الخاصرة
وتفلت من قبضتي نخلة عند أبوابِ
بغداد
أمسكُ في غبش الموتِ مئذنة
استغيثُ الحُسينَ
فتنبت كفاي من راحة القاهرة
وأمسكُ، أفلت، أمسك
تفلت" (ص55).
إن توظيف التضاد الاتجاهي يجسد دلالة واحدة وهي الغدر المتسمة بالسخرية بين الصهيل الذي يرمز إلى الأصالة فيمسخ لقهقهة. تتكرر مقاطع اللفظ دالة على الغدر شرقًا وغربًا. تتضاد السخرية القادمة من الغرب والطعن الآتي من الشرق مع رد الفعل المتمثل في صورة مكانية وصوتية (نخلة، مئذنة) تدلان على الامتداد والتجذر والفخر والأصالة في آن واحد، لتكون المحصلة باستغاثة الحسين، تتماهى مع الضحية، ويكون فعل الإمساك دالاً على بصيص حياة كما يدل فعل الإفلات على انكسار الضحية.

5- العمى والبصيرة
العمى والبصيرة مفهومان فلسفيان يدلاّن في إحدى تجلياتهما على أن العمى شرط أساسي للبصيرة، بمعنى أنه الوجه الآخر من البصيرة. إذ أن البصر ينقل صورة الذوات من العالم الخارجي كيفما اتفق، لكن حساسية التعامل مع ما نستقبل يتوقف على البصيرة وليس على البصر. والشاعر في سربية قد رأى كل شيء إلا ذاته، وفي ذلك تضاد بين الرؤية والرؤيا، فهو يرى العالم بموجوداته لكنه لم ير ذاته، فطن إلى البرّاني ولم يفطن إلى الجواني. هذا التضاد يفيد الضياع من جهة ويفيد كذلك الكلية أي أن بنية الطباق تفيد الاشتمال من حيث دلالاتها من جهة أخرى.
"بلادي المرايا
أحدّق فيها طويلا
أرى الغال والهَون والفرسَ والرومَ والهندَ والسّند
ياجوج ماجوج والإنسَ والجنَّ بيضًا وسودا
وصُفرًا وحمرا
ولا الوجهُ وجهي
وليست يديَّ يدايا
مرايا
مرايا
بلادي المرايا
أحدّق فيها طويلا
أرى كلَّ شيء .. سوايا" (ص 27-28).


ينعكس التضاد كذلك في ثنائية الواقع والمرايا. فالمرآة تصوّر الواقع، إلاّ أن الشاعر يمنحها دلالة الانتقاء، فهي تعكس كل الذوات إلاه، عندما يوظف أسلوب النفي (ولا الوجه وجهي وليست يديَّ يداي). فدلالة النفي تعبير عن التمزق الداخلي مستندة إلى التضاد الذاتي(17)



6- الولادة- العقم
تبرز ثنائية الولادة - العقم في سربية الشاعر بشكل واضح. يبطن الشاعر نصه بقصة الخلق التوراتية(18)ويدل التضاد على التفاؤل في محاولة من الشاعر محو ثنائية الشك واليقين، فيصبح صوت الشاعر إلهيًّا بمعنى أن الصفات في بنية الطباق التي ينسبها الشاعر لنفسه لا تجتمع إلا في ذات خالقة. وهنا تأكيد على بنية الرفض والتغيير.

"أبارك، ألعن، أومن، أكفر، أومن. لا بدّ من طاقة
في سماء الصفيح، ولا بدّ من بركة في المناخ الجليد
تذوب ثلوج الأساطير. يطلع عشب جديد على
سطح بيتي العتيق. وتبني سنونوة عشَّها في شقوق
جداري الأخير. وروحي ترفّ على الغمر قلت
لروحي مرارًا: يكون من الليل نورٌ وسوف يسمّى
نهارًا وسوف يبارك خالقنا خلقه. ويكون من
الصخر ورد وسوف تكون السنابل.



سوف تكون الولادات
والله يرضى علينا" (ص 34-35).

تنعكس بنية التضاد الدالة على التفاؤل كميًّا في توظيف الأفعال ذات المعنى الدلالي الإيجابي: أومن أباركُ ثلاث مرات، مقابل ألعن أكفر مرَّتين. يؤكد ذلك أيضًا نهاية المقطع حيث التسويف الدال على التفاؤل (سوف تكون الولادات).

إن فعل الكينونة المرتبط بفعل الخلق كن فيكون(19) ينحو منحى التفاؤل في النص. كذلك يحمل النص في توظيف الشاعر للا النافية للجنس (لا بدَّ) دلالة الإطلاق، ويصبح التضاد بين الصفيح المادي البارد والجليد وثلوج الأساطير، وبين الخصوبة (عشب جديد على سطح بيتي العتيق)، دالاً على الصراع المحسوم مسبقًا بتغليب الإيجابي على السلبي، الحياة على الموت والانبعاث على العقم. هذا الانبعاث لا يتم في ظروف عادية بل من بيئة هي في طبعها صلبة عقيمة لا تملك خاصية الخصوبة/ الصخر، وفي ذلك تأكيد على فعل الكينونة -كن- كفعل علوي.



7- الذكورة- الأنوثة
يبدو أن ثنائية الذكورة-الأنوثة تحيل إلى ثنائية القوي والضعيف، الصوت، الصمت. فأنا الشاعر هي المسيطرة ، وصوته هو الواضح في نص السربية كله، وصراخه المجسدّ لصوت هاملت في علاقته بأوفيليا هو البادي.

"وأصرخ أوفيليا أسعفيني
خذي بيدي إلى كتفيك، ووجهي إلى معصميك
ارفعيني إليك.. ارفعيني
لعلي أبصر ما أسمع
وأسمع ما أبصر
وينبت ما أزرع
ويظهر ما أضمر
لعلّي أومن.. أو أكفر‍
...........
لماذا تنكرتُ حين أشاروا إليها بإصبع تهمتها الدامية
"هي الزانية
هي الزانية" (ص44-45).

تحيل بنية التضاد إلى حركية الاتجاه من هاملت كمرسل وإلى أوفيليا كمستقبل. كما سنلحظ في النص أن الشاعر يتوجه إلى أوفيليا مسميًا إياها مرة واحدة، ثم يحيل إليها الخطاب بالضمائر المرتبطة بالأسماء والأفعال الطلبية. يمكن اعتبار ذلك نوعًا من التضاد بين الظهور والاختفاء، الحضور والغياب، الذي تمثله أفعال الأنا الدالة على التمركز (أبصر/ أسمع) وبين الإحالة إلى أوفيليا بضمير الغائب (هي) الدال على التهميش. تشير هذه البنية كذلك إلى الندم الواقع في صوت الشاعر ليتحوَّل خطابه إلى حالة من جَلد الذات وتأنيب الضمير (لماذا تنكّرَت حين أشاروا إليها). ويميل هذا التنكّر تناصيًا إلى موقف بطرس من السيد المسيح، مع إزاحة السياق والموقف(20). يؤكد الشاعر كذلك بالفعل الطلبي (ارفعيني) حالة التوسل عنده، فيخلق بنية تضادية مكانية بين ما يراه لأوفيليا من مكانة ملائكية في حاضره الآني وبين ما كان يراه من انحطاط خلقي. قد يحمل هذا التضاد أيضا دلالة التطهر من عقدة ذنبه.

يؤكد الشاعر كذلك الحواس في النص أعلاه بين البصر والسمع وهو في ذلك يستخدم استراتيجية بلاغية تنتمي حقيقة إلى مجال "نزع الألفة" Defamiliarization، فبحسب الناقد شوكولوفسكي تعمل اللغة الشعرية جزئيًا على الأقل ليس لتطوير الاتصال بل لإعاقة ونزع الألفة عن العملية العادية للغة(21)

يفرض هذا القلب نوعًا من التضاد يتشكل بين التمني كحالة ذاتية والواقع غير المرغوب فيه كحالة خارجية.ثم إن الصورة الطلبية التي يأمل بها الشاعر من أوفيليا هي صورة تدل على الاحتواء من أوفيليا للشاعر، يفيد هذا الاحتواء حالة من الاختمار يبرزها الطباق في قول الشاعر (يظهر ما أضمر) إذ تكون الحركة من الداخل نحو الخارج. وإذا كانت الصورة مطروقة بفعلي الزرع والإنبات المتعالقين طبيعة بثنائية الذكورة والأنوثة، فقد يكون في دلالة الاسم أوفيليا : "القضيب" تأكيد لذلك. فهي تمثل موضوع الرغبة الذكورية عند هاملت لأنها مخلوق العوز وظل هاملت وحالة شيئية لرغباته أو صورة لعلاقة أنا الشاعر بذاته الطفولية(22).

إن ارتباط الإثبات والظهور بالماء يستدعي رمزية العلاقات المتضادة بين أوفيليا وهاملت التي انتهت إلى الغرق، ورمزية الماء تحيل إلى الأنوثة مقابل جفاف الذكر(23)

يتضح مما سبق أن الشاعر سميح القاسم وظَّف تقنية التضاد بكل تجلياتها من طباق ومقابلة وإثبات ونفي، في نسيج نصه الشعري، ولم يتوسله أداة تعبيرية بمفهومها البلاغي القديم، وإنما منحها ما أطلقنا عليه تضاد الموقف. وبذلك يكون الشاعر قد وظّف تقنيات التضاد متجاوزًا دلالتها الجزئية إلى الكلية، وقد تشابكت دلالات التوظيف وتفرّعت بناء على السياق الشعري في سربية القاسم، مما يمنحه سمة التحديث في هذا المجال.





(1)عبد العزيز سبيل، "ثنائية النص، قراءة في رثائية مالك بن الريب"، عالم الفكر، مج 27،ع1، 1998،ص 78.

(2) جي بريل.، دائرة المعارف الإسلامية، مادة مرثية، ج 29، مركز الشارقة للإبداع الفكري، 1998، ص 9247.

(3) عبد العزيز سبيل، م.س. ص 78
(4) سميح القاسم، كلمة الفقيد في مهرجان تأبينه، مؤسسة الأسوار، عكا، 2000.
(5) الأزهر الزناد،دروس في البلاغة العربية نحو رؤية جديدة، المركز الثفافي العربي، الدار البيضاء، 1992،ص 174.
- أحمد مطلوب، معجم المصطلحات الأدبية، مكتبة لبنان، بيروت، 1996، ص 370.
(6) مصطفى السعدني، البنيات الأسلوبية في لغة الشعر العربي الحديث، منشأة المعارف، د.ت. ص 225.
(7) محمد عبد المطّلب، بناء الأسلوب في شعر الحداثة، دار المعارف، القاهرة، 1993، ص 149.
(8) عبد الرحمن بسيسو، قصيدة القناع في الشعر العربي المعاصر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1994، بيروت، ص 10.

(9) يوسف أبو العدوس، المجاز المرسل والكناية، الأهلية، عمان، 1998،ص 70.
(11)محمد بنيس، الشعر العربي الحديث، ج 3، دار توبقال، الدار البيضاء، 1996، ص 51-150.

(13)ن.م. ص 130.
(14)جبرا إبراهيم جبرا، وليم شكسبير، المآسي الكبرى، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000، ص 13.

(15) حسين الواد، المتنبي والتجربة الجمالية عند العرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمان، 1991، ص 366.

(16)قرآن كريم، سورة الأنبياء، 69.
(17) علي جعفر العلاق، الدلالة المرئية، دار الشروق، عمان، 2000، ص 141.
(18)سفر التكوين، الأصحاح الأول، آية 1-5.
(19)قرآن كريم، سورة البقرة، 117، آل عمران، 59.

(20)إنجيل متى، الأصحاح 26، آية 35.
(21) تيري دي يونغ، "اللغة في دنيا المرآة، سميح القاسم وتحديث الجناس" ترجمة نزيه قسيس، إضاءات، ع 4، حيفا، 1997، ص44.
(22)ألين شوالتر، أوفيليا، "النساء والجنون ومسؤوليات النقد الأنثوي"، ترجمة عبد المقصود عبد الكريم، القاهرة، ع 9-، 1997، ص 45.

(23)ن.م. ص 46















































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

رأس الحكمة...

07-آذار-2014

تمتمات صغيرة

03-كانون الثاني-2012

خطاب التجلّي

26-تموز-2011

عجوز

30-تشرين الأول-2009

دم الغزال

10-تشرين الأول-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow