Alef Logo
ابداعات
              

الخروج عن النّص

رشا فاضل

2008-11-24



المشهدالأول
ترتفعُ الستارة. وحدَها على الخشبةِ. تختفي أصواتُهم. تمتزج وجوهُهم، لتصبحَ وجهًا واحدًا. تتلاشى ملامحُه فيما بعد. لا ضوضاءَ. ولا أحدَ أبدًا.
تحملُ مِنْديلاً. بحنانٍ تَلْثُمه، وهي تتنفسُ آخر لحظاتِها معه. تغيب في دفئه، الذي لم يفارقْه بعد. تنتبه إلى أنَّ الجميعَ يرقبُها، وأنَّ ثَمّة مَن يعطيها التعليماتِ من خلفها. يذكّرُها بالكلمةِ الأولى، التي يجبُ أنْ تُقال، لا بالمِنديل المخبئ بين ثنايا ثوبها.

تستيقظُ من دفءِ حلمِها، لتغيبَ في الكلامِ المحفوظ عن ظهرِ قلبٍ. تسترقُ السَّمعَ إلى دقاتِ قلبِها المتسارعةِ. إنَّه يخفقُ. يخفق بقوةٍ. تُعاود إخراج المِنديل المخبئ بين ثنايا ثوبها. تَلْثُمه بحنانٍ. ترفعُ وجهَها نحوَ السماءِ فاتحةً صدرَها. يبتهلُ قلبُها للإله الماثلِ في كلِّ ذرةٍ كونيةٍ أنْ يحفظَه. أنْ يغفرَ لها أنها نسيتْ أنْ تُعفّرَ خُطاه بقدحِ ماء ككلِّ مرةٍ.

تشعرُ أنَّ قدميها لا تستطيعان حملَها. تجلس على مقعدٍ من الخيزران. تُحاولُ أن تتجاهلَ دقاتِ الخافقِ الصغيرِ. ثَمّة مَن يعطيها الإشارات، لتكفَّ عما تفعله. أنْ تعتذرَ وتنسحبَ، لكنَّها لا ترى أحدًا. لا تكترثُ. تستسلمُ للمقعدِ الهزازِ، الذي يحتضنُها، وهي تضم كفيها إلى صدرِها بقوةٍ.
( مازالت قبلتُه كجسدِ طفلٍ وُلِدَ للتوِّ، غضّة وطرية )

يُعاودُ قلبُها الخفقانَ. يخفقُ. تقفزُ إلى مخيلتِها ساعتُه اليدويةُ، وأعقابُ السجائرِ، التي سحقَها. تتلمّسُ عيناها أشياءه الصغيرةَ بحنانٍ.
لا تريدُ الإنصات أكثرَ. تنهضُ. تُحاولُ الانشغالَ بتذكّرِ دورَها، الذي مازالتْ تتذكّرُه جيدًا. لم تنسه، كما يجدرُ بها أن تدّعي. تُحاولُ أن تسترَ توترَها بالصمتِ، بترديد الكلماتِ التي حفظتْها عن ظهرِ قلبٍ. تشعرُ وللمرةِ الأولى أنَّ دورَها مضحكٌ. أنَّ كلماتُها هزيلةٌ، كسيحةٌ لا معنى لها.

فجأةً يخرجُ صوتُها صدى لأجراسِ الحزنِ ( كلُّ شيءٍ عداه باطلٌ، وقبضُ ريحٍ ) ليس ثَمّة مَن يُصفّقُ إذ لم ينتبه أحدٌ من الجمهورِ، أنَّ تلك الجملةَ، التي حملَها صدى تردد في أرجاء المسرحِ تعني نهايةَ المشهدِ.


*

المشهدالثاني


تمتلئ القاعة بالضجيج..
يستغرب الحضور من هذا الضجيج المنبعث من خلف الكواليس.. من كل الذين يمسكون أوراقهم بأيديهم، وهم يلوحون لها أن تكف عن المهزلة التي تقوم بها.. وتنسحب بهدوء.. ثمة الكثير ممن حفظوا دورها، ويستعدون لأخذ مكانها على المسرح.. لكنها ما زالت تنظر إليهم ولا تراهم..
لا ترى سوى تلك الابتسامةِ النورانيةِ، التي ارتسمتْ على وجهه وهو يراها تُجهّز أغراضه في كلِّ ذهابٍ له لساحةِ المعركةِ. كانت ملامحُه تشي بأمرٍ لا تريدُ معرفتَه. طردتْ من رأسها الأفكارَ السوداويةَ، وهمّت بمغادرةِ الرقعة.





المشهدالثالث

لم يعودوا يتحدثون بالتلميح، بل أخذوا يصرخون بها أنْ تتوقف عن هذه المهزلة، وهذه النكبة التي نكبتهم بها. تلتفتُ إليهم ولا تراهم. لا تراهم !

تتقاذفُها مشاعرُ كثيرةٌ. ثَمّة طفلٍ يُداعبُ حمامةً، وتداعبه هي الأخرى.. بين تدانٍ وتباعدٍ. فجأةً تفرُّ الحمامةُ. تُحلّق بعيدًا تاركةً الطفلَ يغرقُ في بحرٍ من الذهول.
هذا ما رأته في حلمها في ليلة البارحة.

على الطرف الآخر جنديٌ يُحيّي الضباطَ بابتسامةٍ نورانية، وقلبه تتسارعُ خفقاتُه نحو المجهول. نحو وجهةٍ لا يعرفُها. ينساق إليها حاملاً استسلامه وابتسامتَه وصورةَ امرأةٍ وسّدتْه قلبها، وأرضعته دمها، وأحاطته دومًا بابتهالاتٍ طالما شقّت سكون الليل.


المشهدالرابع
تفشل في إخفاء ولعِها الصعب به. تتحدثُ مع نفسها بصوتٍ عالٍ. كلماتُها متقطعةُ، غير مفهومة. وثَمّة من يُوشك على الجنون، يقف خلفها يائسًا من إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مسرحيته المنتظرة.

تنظر إلى الوجوه. تتطلع إليها الواحد تلو الآخر، تبحث عن وجه حبيبٍ مألوفٍ. عبثًا تُحاول أنْ تجدَه. يخرج صوتُها غاضبًا خائبًا ( لا شيءَ! الجدرانُ عاريةٌ. الوجوهُ غبارٌ! )
تُخرجُ المِنديلَ بعصبيةٍ ( لن أغفرَ لك تلك الابتسامةَ. لن أغفر لنفسي إني نسيت قدحَ الماء ).. يُتابع الجميعُ كلماتِها بتمعنٍ.
( الحرب، تلك المواجهة الخرقاءُ وحشٌ بلا قلب، غبي وأبله، هدفُه الأول والأخير هو القتلُ. لا يهمُ لصالح مَن. القتل هو القتل ).

ينفجر قلبُها ببكاءٍ حارٍ لا تعرفُ سببه.
تجثو على ركبتيها. ترفع يديها نحو السماء. تدعو. وفي حنجرتها تجمعُ أدعية كلِّ مَن حولها. بصوتها المخنوقِ بالدمع:
( ياربُّ. احفظْه من الرصاص الغادر، من محرقة الموت، التي ابتلعتْ أباه ذاتَ يومٍ. أبوه لم يتركْ لي سوى ضحكةً نورانية أخرى )

يحتدمُ الصراعُ. يركض مع رفاقه. صوت أمِّه المعاتبُ الحزينُ يعلو على صوتِ القنابل والعيارات النارية. يركضُ بسرعة نحوَ ضفة الأمان.

تكبُرُ ابتسامتُه. سيصل. سيصل. يضمُّ سلاحَه إلى صدره، ليتمكنَ من الركض بسرعةٍ أكبرَ. يخفق قلبُه بشدةٍ. يرى وجه أبيه، وقد علته الابتسامةُ ذاتُها. يمدُّ له يده. فجأةً تتعثرُ خُطاه! يسقطُ سلاحُه من يدِه. ينظرُ إلى صدره. ثَمّة رصاصةٍ استقرتْ في قلبه. بين وجه أمِّه وأبيه يهوي على الأرض المفروشةِ بدمائه. يستقر رأسه على السلاح، وقد ارتسمتْ على وجهه تلك الابتسامةُ النورانية، بينما تحملُ المرأة على الأيادي غارقةً في بحارِ دهشتها وغيبوبتها، وهي تُمسكُ قلبها، الذي أجفل إثرَ صرخةٍ في أعماقها. وسط تصفيق الحضور وهتافهم لها ودهشتهم بهذا الأثر الفيزيائي الذي اعترى جسدها.





































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow