Alef Logo
دراسات
              

النبيّ إلياس بين التوراة والقرآن

فراس الســواح

2008-12-14

بعد وفاة سليمان عصى الأسباط العشرة التي تسكن المناطق الشمالية ابنه رجعام وبايعت بالمُلك عامله السابق في هذه المناطق المدعوّ يربعام، ولم يبق لابن سليمان إلا سبطا بنيامين ويهوذا. وبذلك انقسمت المملكة إلى مملكتين واحدة شمالية عاصمتها ترصة دعيت بمملكة إسرائيل ( أو السامرة فيما بعد )، وأخرى جنوبية دعيت بمملكة يهوذا وعاصمتها أورشليم. ومن المفترض أنّ هذه الأحداث قد جرت خلال السنة الأولى من وفاة سليمان، أي عام 931 ق.م .
بعد أن تتابع على حكم المملكة الشمالية بعد يربعام ثلاثة ملوك، آلت السلطة فيها إلى القائد العسكريّ المدعو عُمري، وذلك نحو عام 885 ق.م. وعُمري هذا هو أوّل ملك إسرائيليّ موثّق تاريخياً، ومعه تبدأ أخبار مملكة إسرائيل بالتقاطع مع وثائق الشرق القديم. أمّا يهوذا فلم يرد ذكرها خارج التوراة إلا بعد مئة وخمسين سنة من ذلك التاريخ، نحو عام 732 ق.م. بني عُمري مدينة جديدة أسماها السامرة وجعلها عاصمة له. وقد كشف علماء الآثار المحدثون عن هذه المدينة تحت تلّ لا يبعد كثيراً عن مدينة نابلس الحالية، وأزاحوا التراب عن قصورها الملكية وأبنيتها الإدارية، التي تستلهم نمط العمارة الفينيقيّ الذي كان سائداً في ذلك الحين.
ومن الشواهد النصّية على قيام أسرة عُمري في السامرة، لدينا نقش على جانب كبير من الأهمّية عُثر عليه بموقع ديبان المؤابية في شرقيّ الأردن، مكتوباً بالقلم الآراميّ – الفينيقيّ وبلهجة كنعانية قريبة من لهجة إسرائيل ويهوذا التي تدعى اليوم بالعبرية. يقول النصّ في سطوره الأولى:" أنا ميشع ملك مؤاب من ديبان. أبي ملك على مؤاب ثلاثين سنة، وأنا ملكت بعد أبي وبنيت هذا المقام للإله كموش، لأنه أعانني على كل الملوك ونصرني على أعدائي. أمّا عُمري ملك إسرائيل فإنه أذلّ مؤاب أياماً كثيرة، ثم خلفه ابنه وقال: سأذلّ مؤاب في أيامي. ولكنّ كموش جعلني أراه مهزوماً أمامي .... الخ. " (1) .
وابن عُمري المذكور في نقش ميشع، وهو الملك آخاب الذي حكم إسرائيل بعد أبيه مدّة اثنتين وعشرين عاماً. وهو موثّق تاريخياً في نصّ لشلمنصر الثالث ملك آشور، يصف فيه حملته على بلاد الشام عام 854 ق.م، ومواجهته في موقع قرقرة على نهر العاصي لحلف عسكريّ سوريّ بقيادة هدد عدر ملك دمشق. والنصّ يذكر الملك آخاب في معرض تعداده لأسماء ممالك الحلف الاثنتي عشرة: " هبّ إلى ساح المعركة هدرعدر ملك أمريشو (= دمشق) ومعه 1200 عربة و1200 فارس و20.000 جندي، وإرخوليني ملك حماه ومعه 700 عربة و700 فارس و10.000 جندي، وآخاب الإسرائيلي ومعه 2000 عربة و10.000 جندي .... الخ. " (2) .
في عصر آخاب هذا نشط النبيّ إيليا، أو إلياس وفق اللفظ السرياني. وكانت أعلى كرامة أعطاها الله لهذا النبيّ هي التحكّم بالمطر ينزله بدعائه ويمنعه بدعائه. وكان الملك آخاب قد تزوّج الأميرة الفينيقية إيزابيل ابنة ملك صيدون، فجاءت معها بعبادة الإله بعل وعبادة الإلهة عشيرة، فانساق آخاب لرغباتها وعبد بعل وأقام له معبداً في عاصمة السامرة، وعمل مقامات دينية على المرتفعات له وللإلهة عشيرة، ومارس عبادات وطقوس الخصب، وعمل كلّ ما من شأنه إغاظة الربّ إله إسرائيل (الملوك الأول: 16) .
وكانت كلمة الربّ قد جاءت إلى إيليا وهو في موطنه بجلعاد شرقيّ الأردن، لكي يمضي ويبشّر في مملكة السامرة. فدخل على الملك آخاب وانتقد سلوكه وأخبره بأنّه سيمنع المطر عن أرض إسرائيل عقاباً لها على خطاياها وخطايا آخاب، وقال: " حيّ هو الربّ إله إسرائيل الذي وقفتُ أمامه. إنه لا يكون طلّ ولا مطر في هذه السنين إلا عند قولي. " ثم خرج من عنده وتوارى. فقال له الربّ: "انطلق من هنا واختبئ عند نهر كريث الذي هو مقابل الأردن، فتشرب من ماء النهر؛ وقد أمرت الغربان أن تعولك هناك. " فذهب وأقام هناك فكانت الغربان تأتي له بالطعام .
ولما جفّ النهر لأنه لم يكن مطر في الأرض، أمره الربّ أن يذهب إلى نواحي مدينة صيدون إلى بلدة صرفة، وهناك سوف تعوله أرملة أُوحي لها بخدمته. فذهب وأقام عند الأرملة، فكانت أوعية الدقيق والزيت خاوية لدى قدومه، فامتلأت وصار تمتلئ من تلقاء ذاتها كلّما فرغت. وبعد مدة مرض طفل الأرملة الوحيد ومات، فأخذ إيليا الصبي ومدده على سريره ثم صرخ إلى الربّ وقال: " يا ربّ لترجع نفس هذا الولد إلى جوفه. " فسمع الربّ لصوت إيليا فرجعت نفس الولد إلى جوفه فعاش (الملوك الأول: 17) .
ونحو نهاية السنة الثالثة للجفاف، خرج إيليا وفق تعليمات الربّ وجاء فدخل على الملك آخاب وقال له أن يأتي بأنبياء البعل الأربعمئة والخمسين إلى جبل الكرمل ويجمع الشعب هناك، ليثبت لهم بأنّ البعل إله زائف وأنّ الإله الحقّ هو الربّ إله إسرائيل. وعندما جاء الأنبياء واجتمع الشعب قال لهم إيليا: " إلى متى تعرجون بين الفرقتين؟ إذا كان إله ِإسرائيل هو الله فاتبعوه، وإذا كان بعل فاتبعوه. أنا بقيت نبياً للربّ وحدي وأنبياء البعل أربعمئة وخمسون. فليعطونا ثورين ويختاروا لأنفسهم واحداً ويعطونني الآخر، وليقطّع كلّ منا ثوره ويضعه فوق المحرقة ولا يشعل ناراً. ثم تدعون باسم آلهتكم وأنا أدعو باسم الربّ، والإله الذي يجيب بنار تأكل الذبيحة فهو الله. " فأخذوا الثور الذي أُعطي لهم وقربوه ودعوا باسم البعل من الصباح إلى الظهيرة قائلين: يا بعل أجبنا. فلم يكن من صوت ولا مجيب. ثم تقدم إيليا وصلّى إلى الربّ فسقطت نار الربّ وأكلت المحرقة والحطب. عند ذلك أمر إيليا الشّعب أن يمسكوا بأنبياء البعل فجاء إليهم وذبحهم جميعاً. ثم التفت إلى الملك آخاب وقال له: اذهب إلى بيتك وكل واشرب لأنّ هطول المطر قريب. ثم صعد إلى ذروة الجبل وخر إلى الأرض وجعل رأسه بين ركبتيه، وما لبثت السماء أن اسودّت من الغيم والريح وكان مطر عظيم. وعندما سمعت إيزابيل بما جرى لأنبياء البعل، طلبت قتل إيليا، فهرب واختبأ في برّية بئر السبع (الملوك الأول: 18) .
توفّي الملك آخاب وخلفه ابنه الأكبر أخزيا. وفي نهاية السنة الثانية من حكمه أصيب بمرض أقعده، فأرسل رسلاً إلى معبد بعل في مدينة عقرون الفلسطينية لتستخير نبوءته بخصوص مرضه. فقال الربّ لإيليا: قم اصعد إلى رسل ملك السامرة الذاهبين إلى عقرون وقل لهم: ألا يوجد في إسرائيل إله لتذهبوا إليه حتى ذهبتم تسألون بعل عقرون؟ إنّ السرير الذي صعد عليه أخزيا لا ينزل عنه لأنه موتاً يموت. وعندما عاد الرسل بعد أن لقاهم إيليا وتحدّث معهم وهم لا يعرفوه، سألهم الملك: ما هيئة الرجل الذي كلمكم بهذا الكلام؟ فقالوا: إنه رجل أشعر مُتَنطق بمنطقة من جلد على حقويه. فقال: هو إيليا النبيّ. فأرسل إليه رئيس خمسين مع جنود ليأتي به إليه، وإذا هو جالس على رأس جبل. فقال له: يا رجل الله الملك يقول: انزل. فأجابه إيليا: إذا كنتُ أنا رجل الله فلتنزل نار من السماء وتأكلك أنت والذين معك. فنزلت نار من السماء وأكلته هو والذين معه. ثم عاد الملك فأرسل رئيس خمسين آخر، فحصل لهم الشيء نفسه. وعندما أرسل إليه الملك رئيس خمسين ثالثاً، صعد إليه وجثا على ركبتيه وتضرّع إليه ألا يفعل به كما فعل مع الآخرين.فقال الربّ لإيليا: انزل معه ولا تخف. فقام ونزل معه ودخل على أخزيا وقال له: من أجل أنك أرسلت رسلاً لتسأل بعل زبوب إله عقرون، فالسرير الذي صعدت عليه لا تنزل منه بل موتاً تموت. فمات أخزيا حسب كلام الربّ وملك يهورام أخوه عوضاً عنه (الملوك الثاني : 1) .
في نهاية حياته التبشيرية، قال إيليا لتلميذه أليشع الذي كان يرافقه: أمكث هنا لأنّ الربّ أرسلني إلى نهر الأردن. فقال أليشع: حيّ هو الربّ وحية هي نفسك، إني لا أتركك أبداً. فانطلقا معاً، وعندما وصلا ضفة النهر أخذ إيليا رداءه ولفّه وضرب به الماء فانفلق إلى هنا وهناك وعبرا على اليبس. ولما عبرا قال إيليا لأليشع: ماذا أفعل لك قبل أو أؤخذ منك؟ فقال أليشع: ليكن نصيب اثنين من روحك عليّ. فقال: إن رأيتني أؤخذ منك يكون لك كذلك. وفيما هما يسيران ويتكلمان إذا مركبة من نار وخيل من نار ففصلت بينهما فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء. وكان أليشع يرى وهو يصرخ: يا أبي، يا أبي، ولم يره بعد ذلك. (الملوك الثاني: 2) .
وقد وردت آخر إشارة إلى إيليا في سفر ملاخي، وفحواها أنّ الله سوف يرسل من السماء النبيّ إيليا كعلامة من علامات اليوم الأخير: " هأنذا أرسل إليكم إيليا النبيّ قبل مجيء يوم الربّ العظيم والمخوف، فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم. " (ملاخي 4: 5). من هنا فقد طابق مؤلّفو الأناجيل بين إيليا ويوحنّا المعمدان الذي ظهر للتبشير بظهور المسيح. ففي روايته لظهور الملاك وبشارته لزكريا بولادة ابنه يوحنا، استخدم الآية نفسها من سفر ملاخي، حيث قال الملاك لزكريا: " طِلبتك قد سُمعت، وامرأتك أليصابات ستلد لك ابناً وتسمّيه يوحنا، ويكون لك فرح وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادته، لأنّه يكون عظيماً أمام الربّ، وخمراً ومسكراً لا يشرب، ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس، ويردّ كثيراً من بني إسرائيل إلى إلههم، ويتقدم أمامه بروح إيليا وقوته ليردّ قلوب الآباء إلى الأبناء، والعصاة إلى فكر الأبرار. لكي يهيئ للربّ شعبا مستعداً. " (لوقا 1: 13-17). والمقصود هنا أنّ روح إيليا سوف تحلّ في يوحنا المعدان كعلامة من علامات قدوم ملكوت السماوات. وبهذا المعنى قال يسوع نفسه عن يوحنا: " فإن هذا هو الذي كُتب عنه: ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيّء الطريق قدّامك. " ( متى 11: 10)
في القرآن الكريم :
لا يرد في القرآن الكريم من سيرة إيليا الطويلة التي أوردنا أهمّ مفاصلها أعلاه، ومن أعماله ومعجزاته، سوى صراعه مع العبادات البعلية التي كانت سائدة يومها في إسرائيل. وفي هذا السياق يذكر القرآن اسم الإله بعل، وهو الإله الوحيد الذي يرد ذكره في الكتاب من غير آلهة الجزيرة العربية، مثل ودّ وسواع ويغوث ونسر واللات والعزى ومناة. نقرأ في سورة الصافّات عن تنديد إيليا، أو إلياس كما يدعوه القرآن، بقومه لانصرافهم عن عبادة الله إلى عبادة البعل ما يلي :
" وإنّ إلياس لمن المرسلين، إذ قال لقومه: ألا تتّقون، أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين. الله ربّكم وربّ آبائكم الأوّلين. فكذّبوه فإنّهم لمحضرون، إلا عباد الله المخلصين، وتركنا عليه في الآخرين. سلام على إل ياسين (3). إنا كذلك نجزي المحسنين، إنه من عباد المؤمنين. " ( 37 الصافات: 123-132).
وقد عرف عرب الجاهلية شكلاً من أشكال البعل متمثّلاً في الإله " هُبل " الذي جيء بصنمه من بلاد الشام ونصب في الكعبة، على ما يورد المؤلّف العربي ابن الكلبي في كتابه " الأصنام ". ووجه الصلة بين الإلهين هو أنّ الاسم هبل في بعض اللهجات الشامية في بلاد الشام مؤلّف من سابقة التعريف "هـ" التي تقوم مقام أل التعريف في اللغة العربية، ومن "بل" الذي هو بعل على ما يلفظه التدمريون وأقوام شامية أخرى. وبما أنّ "بل" أو "بعل" يعني في اللجهات الكنعانية "السيّد" أو "الربّ"، فإنّ من جاء بالصنم من بلاد الشام لم يكن يقصد إلى جلب عبادة جديدة وإله جديد إلى مكّة، وإنما إلى جلب صورة لإله الكعبة تحت لقب "هبل"، أي الربّ (4) .
استطراد
إيليا في التقوى الشعبية:
من عجيب المفارقات أنّ النبيّ إيليا الذي قضّى حياته في صراع مع العبادات البعلية، قد تحوّل هو نفسه إلى شخصية بعليّة في التقوى المسيحية الشعبية، يلعب دور إله الخصب السوريّ القديم بعل لدى الشرائح الفلاحية في بلاد الشام وبعض الأقطار المتوسطية الأخرى. فهذه الشرائح التي بِتَحَوِّلها إلى المسيحية خلال القرون الميلادية الأولى، قد فقدت شفيعها الزراعيّ الذي يهبها المطر وخصب الأرض والماشية، وجدت في شخصية إلياس الذي صعد من عالم البشر إلى العالم القدسيّ، بديلاً عن الإله بعل وأقرانه من الآلهة المتحكّمة بمظاهر الطبيعة، ودعته بمار إلياس، أي القديس إلياس.
وقد رأت التقوى الشعبية عدداً من نقاط التشابه بين الإله بعل ومار إلياس. فالإله بعل كان متحكّماً بالمياه بعد إخضاعه لإله البحر والأنهار المدعوّ بالكنعانية "يم" ، وكذلك إلياس الذي تظهر سلطته على المياه من خلال فلقه لمياه نهر الأردن. وبعل كان متحكّماً بالمطر يرسله حين يشاء ويمنعه حين يشاء، وكذلك إلياس الذي كان بدعائه يرسل المطر أو يمنعه. ومسكن بعل كان في أعالي جبل صفون أو الأقرع كما يدعى اليوم، وكانت مقاماته الدينية تنوضع على الجبال وقمم المرتفعات؛ وكذلك إلياس الذي كان مكانه المفضّل جبل الكرمل وعليه ذبح أنبياء البعل، والذي كان يلجأ إلى أماكن آمنة في أعالي الجبال، وقد كلّمه الربّ وهو على جبل حوريب في سيناء مثلما كلّم موسى من قبل. وبعل كان يُسمِع صوته للأنام هادراً من خلال الرعد، ويلوّح بسلاحه الذي هو البرق، ويضرب خصومه بحربته التي هي الصاعقة؛ وكذلك مار إلياس الذي كان يستجلب ناراً من السماء، هي الصاعقة ولا شكّ، لتدمير خصومه، ومركبته النارية التي تجرّها خيول من نار، هي التي تُحدث الرعد والبرق لدى احتكاك حوافر جيادها بصخور أعالي الجبال.
ومقامات مار إلياس منتشرة اليوم على طول السلسلة الجبلية الساحلية السورية، وفي بعض المناطق الجبلية الداخلية. ونموذجها مقام مار إلياس الحيّ بمعرة صيدنايا، الذي يشرف من موقع شاهق على سهل دمشق، ودير مار إلياس في شوبا بجبل لبنان، ومقام مار إلياس على جبل الكرمل، وهو المعروف حتى الآن شعبياً باسم جبل مار إلياس.
بهذه الطريقة حافظت التقوى الشعبية على شفيعها الزراعيّ القديم، والشخصية الماورائية الأقرب إلى همومها المعاشية. وعندما تحوّل معظم سكان سورية المسيحيين إلى الإسلام، حملت الشرائح الفلاحية معها شفيعها الزراعيّ وألبسته لبوساً إسلامياً تحت اسم الخَضِر، على وزن نَضِر، ويعني الأخضر وسيّد الخضرة الزراعية. وقد جرت المطابقة بين هذه الشخصية وشخصية العبد الصالح الذي رافق موسى في رحلته إلى مجمع البحرين، وفاقه علماً ومعرفة (سورة الكهف : 60-82) رغم أنّ القرآن الكريم لم يذكر اسم ذلك العبد الصالح.
ولكي يمنح الخيال الشعبيّ لهذا الوليّ الإسلاميّ نعمة الخلود التي تمتّع بها إلياس، فقد دبّج المؤلّفون الإسلاميّون قصّة مفادها أنّ الخضر قد رافق الملك الجبّار "ذو القرنين" في رحلته للبحث عن نبع الحياة الذي يهب الخلود لمن يشرب منه. وقد جعل ذو القرنين الخضر على رأس جنوده، وسار حتى وصل مغرب الشمس فسأل عن النبع فقيل له إنّه وراء أرض الظلمة، فاختار من عسكرة ستة آلاف ودخل أرض الظلمة. وبعد مسيرة يوم وليلة أصاب الخضر نبع الحياة فشرب منه، وأخطأه ذو القرنين.
وتظهر في القصص الشعبيّ الإسلاميّ، مثل الف ليلة وليلة وسيف بن ذي يزن والأميرة ذات الهمّة، الخصائص الإخصابية للخضر. فهو الذي يكلّل الأشجار بالخضرة، وينشر عباءته الخضراء بساط عشب على السهول والتلال، وخلال ظهوراته يُشاهد جالساً على طنفسة خضراء. والفلاّحون في فلسطين كانوا حتى وقت قريب يستنزلون المطر بالدعاء إلى الخضر ويدعونه بالاسم التبادليّ مار إلياس، عندما ينشدون: " يا سيدي خضر الأخضر اسقي زرعنا الأخضر، يا سيدي مار إلياس اسقي الزرع اليباس." وكان يهود فلسطين قبل الاحتلال الصهيونيّ يدعون إيليا باسم الخضر. وفي تركيا العثمانية كان الاسم الشائع للخضر هو خظرلياس، الذي يجمع بين اسم الخضر واسم إلياس.
خلال عصر الحروب الصليبية والتبادل الثقافيّ الذي حصل بين الثقافة العربية والثقافة الأوربية، ظهرت إلى الوجود شخصية بعليّة جديدة تجمع الخضر ومار إلياس إلى نموذج فرنسيّ هو القديس جاورجيوس، أو مار جرجس كما يدعى في بلاد الشام. وقد نُسجت لهذا القديس سيرة حياة تقول بأنّه كان بطلاً من أبطال الإيمان المسيحيّ، عاش في مدينة اللد بفلسطين خلال القرن الثالث الميلاديّ، وأنه أنقذ ابنة الملك التي اعتنقت المسيحية من تنّين هائل صرعه بحربته. وبهذه الطريقة تمّ ابتعاث الأسطورة السورية القديمة عن صراع بعل مع التنين لوتان وقتله، وتمّ الجمع أيضاً بين القديسين الزراعيين الثلاثة، وراح المزارعون السوريون يقصدون المقامات المكرّسة لهذه الشخصيات الثلاثة على أنّها شخصية واحدة. والاسم جاورجيوس في اليونانية يعني الفلاّح. وهو يدعى في الأقطار الأوربية بجورج الأخضر، وذلك كناية عن علاقته بالزراعة. والفلاحون الأوربيون يحتفلون بعيده في 23 نيسان باعتباره احتفالاً بقدوم الربّيع.



وبعد ظهور شخصية القديس المحارب مار جرجس، عادت شخصية الخضر لتكتسب منه خصائصه القتالية مثلما اكتسب منها ومن إلياس الخصائص الزراعية. والفولكور الشعبيّ طافح بروايات عن قوّة الخضر الخارقة. فالمزارعون في بعض أنحاء سورية يدعونه بأبي حربة، والمرويات عن قوّة ذراعه تزخر بالإشارة إلى صخور ضخمة رماها من مسافات شائعة. إحدى هذه الصخور وهي أسطوانية الشكل منزرعة على الشاطئ قرب مدينة طرطوس، تقوم النسوة العاقرات بزيارتها والتضرّع إلى الوليّ من أجل الإنجاب. وفي بيت جالا قرب القدس، هنالك صخرة عليها ما يشبه أثر القدم يقال أنّ الخضر قفز من فوقها، ويزورها الناس هناك لطلب الشفاء.5



الهوامش:
1 - انظر النص الكامل للنقش في كتابي : الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم ، ص306 ، 309 .
2 - راجع النص الموسع في كتابي : آرام دمشق وإسرائيل ، ص 208 – 209 .
3 - إل ياسين : صيغة أخرى للاسم إلياس .
4 - من أجل تفصيلات أوفى عن هذا الموضوع، راجع بحثي المنشور في الجزء الثاني من موسوعة تاريخ الأديان التي تصدرها دار علاء الدين بدمشق، تحت عنوان " ديانة العرب قبل الإسلام " .
5 - للتوسّع في موضع القديسين الزراعيين الثلاثة انظر :
- الدكتور حسني حداد : أساطير الخصب القديمة والمعتقدات الشعبية في سورية ، ترجمة أحمد الهندي ، مراجعة وتقديم فراس السواح ، دار الكندي ، سورية 1989 .
- الدكتور حسني حداد ، وسليم مجاعص : بعل هداد ، دار أمواج ، بيروت 1993 .

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

دراسات في علم الأديان المقارن: تاريخ المصحف الشريف

22-أيار-2021

هل كان موسى مصرياً

08-أيار-2021

هل كان موسى مصرياً

01-أيار-2021

الديانة الزرادشتية وميلاد الشيطان

24-نيسان-2021

في رمزية حجر الكعبة الأسود

13-شباط-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow