Alef Logo
الغرفة 13
              

دفاعا عن فيروز .. يا جبل ما يهزك ريح

ألف

2009-02-24

*فيروز و الأخوين رحباني ...فصل من سيرة مأساوية!

• لماذا وقفت أسرة عاصي الرحباني موقفاً رافضاً لزواج ابنها من فيروز؟
• ما هي التهمة التي كانت توجهها فيروز إلى عاصي ومنصور؟
• تزعم صاحب الصياد سعيد فريحة حملة صحفية لحض عاصي على الزواج من فيروز!
• لماذا أُصيب عاصي بانفجار في دماغه أدى فيما بعد إلى وفاته؟
• أسباب انهيار العلاقة بين فيروز والرحابنة


• عندما أقامت بلدية انطلياس مرة احتفالات بذكرى عاصي الرحباني لم تحضر فيروز ولم يحضر زياد!
بقلم: جهاد فاضل:
لا تقلّ ليالي الرحابنة حزناً، في الوقت الراهن على الأقل عن ليالي الشمال الحزينة التي غنتها المطربة الكبيرة فيروز ذات يوم. فقد تبدى هذا الحزن مرة بأجلى صورة في الاحتفالات التي أقامتها مدينة انطلياس، شمال بيروت، بمناسبة مرور عشرين عاماً على وفاة عاصي الرحباني، لا بسبب المناسبة التي تبعث وحدها في النفس أسى عميقاً، بل بسبب ما آلت إليه المؤسسة الرحبانية من تشرذم وانقسام. فإذا كان من المفترض أن تكون فيروز ومعها ابنها زياد الرحباني، في مقدمة المحتفلين بهذه الذكرى، فقد غابا غياباً تاماً عن المناسبة. وعندما سُئلت اللجنة التي نظمت هذه الاحتفالات عن سبب غياب فيروز وزياد، جاء الجواب حزيناً بدوره. فقد قالت اللجنة إنها اتصلت بفيروز وأعلمتها أنها بصدد إقامة سلسلة من الفعاليات في ذكرى غياب عاصي العشرين، فلم تمانع فيروز ولكنها اعتذرت عن عدم الحضور لانهماكها، مع زياد، كما قالت، في ترتيبات مسرحية صح النوم التي سيقدمانها على مسرح بعلبك ذاك الصيف. ولأن اللجنة لحظت في هذه الفعاليات كلمة للأسرة، فقد ألقى هذه الكلمة مروان الرحباني ابن منصور، ثاني الاخوين رحباني .
ولم يحضر منصور هذه الاحتفالات لا بسبب التحضير لمسرحية جديدة له، وإنما بسبب العمر وأحوال الصحة. كان منصور تجاوز الثمانين وإذا سار، ولو لعدة أمتار، فلابد من أن يتوكأ على رفيق، أو على عصا. ولكن الذهن لايزال مشتعلاً بالذكريات وبالمشاريع، ولو أنه لم يكن يغادر بيته في أعالي انطلياس إلا لضرورة قصوى.
فيروز ملازمة لمنزلها في الروشة ببيروت منذ زمن بعيد يرقى إلى ما لا يقل عن ثلث قرن. وقد انفصلت عن زوجها عاصي الرحباني انفصالاً نهائياً عقب الجلطة الدماغية التي تعرض لها في 27- 9 - 1972، وهجرت منزلها الزوجي لتستقر وحدها في بيروت، ولا تزور منزل الأسرة في انطلياس إلا مرة واحدة في الأسبوع تعطي تعليماتها للخادمة وتقفل راجعة إلى منزلها. وبعد موت عاصي غابت نهائياً عن انطلياس، مدينة الرحبانة، ولعل آخر ظهور لها فيها، كان في كنيستها، لتقبل التعازي بزوجها.
ومنذ رحيل عاصي انقطعت كل علاقات فيروز بالرحابنة، فناً وعلاقات شخصية وتبادل زيارات. فإذا ثبت أن هناك صلات شخصية بينها وبين أحد من أقرباء زوجها الراحل، فإن هذه الصلات تتم بالصدفة أو بما يشبه الصدفة، فمن الأكيد أن الصلات الفنية وكذلك صلات المودة الصافية مقطوعة بينها وبين الرحابنة انقطاعاً لا عودة فيه. فمنذ عشرين عاماً، بل منذ ما قبل ذلك، وأنهت فيروز كل تعاون فني مع الرحابنة لتحصر هذا التعاون بزياد ابنها. ولم تنفع كل الوساطات التي اضطلع بها سعاة خير لتقريب القلوب بينها وبين منصور على الخصوص. فقد رفضت رفضاً صارماً أية علاقة، وأي تعاون. وهذا إن دل على شيء فعلى أن في القلب ما فيه، وعلى أن ما مضى، قد مضى إلى غير رجعة.
إذا كانت فيروز تقول في أغنية شهيرة لها: بكير طل الحب عا حيّ اللّنا ، فإن هناك كثيرين يشكون في أي حب يمكن أن يكون قد انعقد في أي يوم من الأيام بينها وبين الرحابنة، وبمن فيهم عاصي، رحمه الله. ذلك أن أي استرجاع بارد ودقيق لسيرتها مع الرحابنة، من شأنه أن يؤدي إلى حقيقة أكيدة وهي أن تعاونها المبكر معهم كان وليد حاجة الرحابنة إلى صوت يوصل إلى الناس فنهم وإبداعهم بعد أن كانوا يؤلفون أغانيهم للكورس لا لمطرب أو لمطربة. فمن يراجع سيرتهم، يجد أن ألحانهم الأولى أداها الكورس، كما أدت قسماً منها شقيقتهم سلوى وصوتها عادي جداً. إلى أن لفت حليم الرومي نظر أحد موظفي الإذاعة اللبنانية الجدد، وهو عاصي الرحباني، إلى انضمام مطربة شابة ناشئة اسمها نهاد حداد، إلى فرقة فليفل بالإذاعة، ثم إلى كورس الإذاعة نفسها، وأنه يجدر به أن يتعرف إليها فقد يجد فيها الصوت الذي ينقصه. وقد قام حليم الرومي بعد ذلك بجمع نهاد حداد التي سيخيرها لاحقاً بين أحد اسمين فنيين هما فيروز أو شهر زاد وعاصي الرحباني لتنشأ من وقتها تلك الشراكة الفنية التي أنتجت، مع ثالثهما منصور، إحدى أهم الظواهر الفنية العربية على مدار القرن العشرين.
كل من نهاد وعاصي كان بحاجة ماسة إلى الآخر. كان عاصي بحاجة إلى صوت ، في حين كانت نهاد صبية صغيرة واعدة بحاجة إلى من يأخذ بيدها وهي في أول مشوارها في الحياة وفي الفن والغناء. عاصي، عند تعرفه إليها، فقد كان قد استكمل إلى حد بعيد لياقته كعازف وكملحن وكمشرف على أركان فنية في الإذاعة. وكان حتى خلال عمله قبل التحاقه بالاذاعة كبوليس في بلدية انطلياس، يعزف في مقاهي الدورة، ويؤلف مسرحيات تُعرض في القرى البعيدة عن انطلياس أو المجاورة لها.
رواة السيرة الرحبانية يقولون إنه كان من الطبيعي أن ينشأ استلطاف وأن تنشأ صداقة، بين الاستاذ وبين تلميذته ، وأن يتطور ذلك إلى العواطف ثم إلى التفكير الجدي بالزواج. كما كان من الطبيعي أن تكون التلميذة أسرع من الاستاذ في خطواتها. ذلك بأنها كانت في السادسة عشرة أو في السابعة عشرة من عمرها، وهو عمر كثيراً ما يتبنى نظرية حرق المراحل، ويؤجج المشاعر. وعندما تبلور التعاون بين فيروز و الاخوين رحباني (وهو الاسم الذي وقع به في مرحلة الاذاعة اللبنانية الشقيقان عاصي ومنصور)، وشاعت أغاني فيروز الأولى، أصبحت أخبار هذا الفريق الفني الجديد تملأ أعمدة الصحف والمجلات اللبنانية. في هذه المرحلة بالذات بدأت الصحافة اللبنانية تتحدث عن أزمة عاطفية تعيشها فيروز. ما هي هذه الأزمة؟ موجزها أن عاصي متردد بالزواج من فيروز نزولاً عند ضغوط والدته وشقيقاته، والآخرين أيضاً، وأنه يريد لعلاقته مع تلميذته أن تستمر فنياً، ولكن من دون زواج.
ينتمي الاخوان رحباني إلى أسرة جبلية أو ريفية محافظة. وقد خضعا معاً، ومنذ الصغر، لتربية منزلية قاسية. وفي شبابها المبكر، وعندما كانا يتجادلان حول مسألة من المسائل، كانت جدتهما غيتا تصرخ بوجه منصور الذي يصغر عاصي بسنتين: اسكت ولاه! اخوك أكبر منك .. أي أن عليه أن يذعن لرأي شقيقه الأكبر منه. وفي البيئات الجبلية اللبنانية التي طلع منها الاخوان يتعين أن يذعن الشاب لرأي والديه وأهله في مواضيع مصيرية كموضوع الزواج. وكان من رأي الأسرة أن عاصي مستقبله قدامه، وأن بإمكانه أن يتزوج ساعة يشاء من بنت بيت كريم، ومن بنت حلوة مثل النهار.. وقد ذعروا عندما شاهدوا فيروز، وتعرفوا إلى ظروفها. فقد وجدوا أنها لا تستكمل المواصفات اللبنانية التقليدية فشكلها ليس بالشكل الحسن على الاطلاق. فتاة قروية ساذجة ليس لها شيء من حلاوة الملامح في الوجه، وفيها عيوب جسدية كثيرة. وهي غير متعلمة أو مثقفة وليس لديها سوى صوتها . ولكن لا يتزوج أحد في لبنان الصوت . فالصوت يستمع إليه المرء في الإذاعة، أو في حفلة ومهما كان من أمر جماله، فهو غير كافٍ لإتمام عقد زواج هو أبدي أو شبه أبدي عند النصارى.. ثم إن أهل هذه الفتاة حالتهم حالة. منزلهم عبارة عن غرفة واحدة في طابق يضم حوالي عشرين غرفة في كل منها عائلة مستقلة تسكنها، وليس في هذه الغرفة منافع صحية. فالمنافع الصحية تقع في آخر الكوريدور بالطابق. والأب عامل مطبعة يعمل في الليل ويرتاح في النهار. وعندما زارت أسرة عاصي منزل فيروز، زمن الإذاعة اللبنانية، فقد الجميع عقولهم.
تردد عاصي في الزواج من فيروز في البداية. انتقل موقفه إلى الصحافة. انحازت الصحافة في أغلبها إلى فيروز وحملت على عاصي، وحضته على الزواج، داعية إياه إلى أخذ قراره بعيداً عن ضغوط أهله. تزعم رئيس تحرير الصياد سعيد فريحة الحملة منتصراً لفيروز. طال التردد زمناً ليس بالقصير. ساهم الشاعر سعيد عقل في حسم الموقف. فبعد زيارة له مع عاصي إلى بيت فيروز، ساعده على حسم موقفه. وبتاريخ 23 يناير من عام 1955، أي قبل نصف قرن تقريباً من اليوم، تزوج عاصي حنا الرحباني من الآنسة نهاد وديع حداد في كنيسة سيدة البشارة للروم الأرثوذكس بحي الفرنيني بالأشرفية، واصفاً حداً لهذا التردد الذين طال، والذي حسمه- إلى حد بعيد- تضامن المجتمع اللبناني مع فيروز. فقد اعتبر كثيرون أنه لا يجوز للتقاليد والمواصفات اللبنانية التقليدية أن تقف حجر عثرة أمام زواج فنانين واعدين!
فيروز المطربة الكبيرة الواعدة وعت كل شيء، وحفظت كل شيء في قلبها، واستعدت للانتقام من كل من وقف بوجه أحلامها وذلك عندما انتقلت من الحبيبة إلى الزوجة . وكان أول ما فعلته، في اليوم التالي لزواجها، هو فتح حساب في البنك باسمها تودع فيه حصتها الخاصة من كل عمل مشترك لها مع الاخوين ، لتنصرف بعد ذلك إلى إدارة معاركها مع الرحابنة جميعاً، وبدون استثناء أحد منهم، بمن فيهم عاصي المتضامن على الدوام مع منصور!
لم تكن علاقة فيروز بالاخوين رحباني وبالرحابنة بوجه عام، علاقة طبيعية، أو صافية، إلا نادراً. وهناك من يجزم بأن خللاً ما كان يشوب هذه العلاقة من البداية، وأن الأيام لم تفلح في إصلاح هذا الخلل. فعاصي قد يكون اضطر بنظر بعضهم، إلى الزواج من فيروز لأسباب مهنية أو مصلحية، ومن غير اقتناع كبير بهذا الزواج. لم تكن تمثل فيروز بالنسبة إليه، وبخاصة بالنسبة إلى أسرته، فتاة الأحلام التي يُفترض أن يُقبل عليها، أو أن يقبل بها. ولكنه في لحظة ما، وبعد تردد طال سنوات، حزم أمره وأثبت في مستنقع الزواج رجله، بالإذن من أبي تمام. كانت فيروز قد انتقلت من وضعية فتاة الكورس المبتدئة إلى وضعية المطربة المرموقة المعتبرة التي إن رغب عاصي بالتخلي عن الزواج منها، فقد يكون يقامر بمستقبله. صحيح أن هناك مطربات كثيرات غيرها، ولكنها باتت في تلك اللحظة هي المطربة التي يتطلع الجميع إليها ويعتبرونها الأقوى أو الأفضل بين جميع المطربات اللبنانيات الأخريات. خاف عاصي إن لم يتزوج منها أن ينتهي مجرد ملحن أو عازف، مثله مثل العشرات من الملحنين والعازفين الذين يعيشون في الظل. استجمع عاصي شجاعته، ورسم على وجهه ملامح العاشق، وبحث عن سلال الورد والزهور، وقال إن الحب العظيم، مهما عانى، لابد أن ينتهي بالزواج.. فرحت فيروز بالطبع بالرغم من كل ملاحظاتها القاسية على هذا الزواج، وبالرغم من كل المنغصات التي عرفتها خلال علاقتها مع عاصي. فعاصي هو الشخص الأول الذي أحبته، كما هو الفنان الكبير الذي ينتظره مستقبل عظيم.
ولكن حساب الحقل لم ينطبق على حساب البيدر في هذه العلاقة المأزومة من البداية. لم تستطع فيروز أن تنتزع عاصي لا من أسرته، ولا بصورة خاصة من شقيقه منصور. واجهت فيروز في الرحابنة عصبة، وكتلة، غير قابلة للانقسام أو للاختراق. حاولت عبثاً انتزاع عاصي من هذه العصبة وتكوين وحدة معه. وحاولت عبثاً فصله، أو على الأقل، إيجاد مساحة بينه وبين منصور. فالاخوان أخوان، اسماً وفعلاً. بل هما شخص واحد أنكر كل منهما ذاته ليدخلا معه في شخصية واحدة يتعذر معها الحديث عن سيرة لأحدهما دون سيرة الأخر. اخوان وصديقان حميمان لأسباب كثيرة منها أنه كان بينهما عند الولادة سنتان لا أكثر، ومنها إنهما رعيا الأبل معاً، بلغة أحمد شوقي. وقد تبين لفيروز مع الوقت أن الزواج لم يُضف شيئاً يذكر إلى حال عاصي معها. ظل عاصي رحبانياً مئة بالمئة، وظل الرحابنة جميعاً فريقاً واحداً في مواجهة هذه الغريبة عنهم في كل شيء، والتي قبلوها لأجل ابنهم، ولم يقبلوها أيضاً.
لم تحب فيروز الرحابنة، ولا هي احبتهم، وقد تراوحت علاقتها بهم بين الرسميات والبروتوكول واللياقة في البداية، لتنفجر حمماً وعواصف بعد ذلك. ويمكن أن يضرب المثل بالأحقاد التي ذر قرنها بين الفريقين قبل أن تؤدي إلى قطيعة كاملة بينهما منذ أكثر من ربع قرن. وأن أنسى لا أنسى مشهداً رأيته بنفسي ذات يوم في منزل الأسرة بانطلياس. أم عاصي تتفجع على مصير ولدها المأساوي بعد تعرضه لانفجار في رأسه، وتنتحب كما تنتحب الأم الثكلى، ولا تريد أن تتعزى، لأنه لا عزاء بعد الحال التي وصل إليها عاصي!
يمكن استدعاء عبارة الجحيم لوصف العلاقة التي سادت بين فيروز وعاصي في السنوات القليلة التي سبقت أزمته الصحية وهي الأزمة التي انتهت بموته. كانت فيروز قد امتلأت ثقة بنفسها ورغبت في أن تحيا الحياة التي تريدها بعيداً عن أي نفوذ للزوج الذي كان يسمع ويرى ويرفض أن يصدق. بدأت تسهر خارج البيت الزوجي ولا تعود إليه إلا مع خيوط الفجر. وكان الجيران يسمعون بعد عودتها من السهرة تفاصيل تلك الخناقات التي تدوم ساعات، ويحضرون أحياناً لفض الاشتباك وإصلاح ما أفسدته ساعة الشر لعنها الله!
ومع الوقت بدأت ساعات الشر تغلب ساعات الخير، وبدأ كل من الزوجين يصر على مواقفه المبدئية: عاصي مع المحافظة، وفيروز مع الانفتاح الذي يشمل العودة إلى المنزل مع الفجر. عاصي مع الكلاسيكية المحضة في الشؤون الحياتية، وفيروز تعلن أنها تريد أن تعيش كما تعيش المرأة العصرية.
انفجر دماغ عاصي بعد ليلة ليلاء ارتفع فيها الصراخ ولم يتمكن غلق الأبواب والنوافذ دون وصوله إلى أصدقاء بعيدين تجمعوا للبحث عن حلول وقواسم مشتركة. في صباح تلك الليلة حمل عاصي نفسه إلى مكتبه الفني بشارع بدارو ليتابع العمل مع منصور على مسرحية كانا يؤلفانها. بعد ساعة أو ساعتين من وصوله: منصور! رأسي عم يوجعني . ولم ينفع الأسبرين في تهدئة الرأس المثقل بالهموم فانتقل المريض الذي كان يواجه قدره المأساوي إلى عيادة أحد الأطباء ومنها إلى المستشفى.
أخذوا عاصي ذلك الصباح الحزين إلى المستشفى على جناح السرعة. وعلى جناح السرعة دخلت فيروز نفس المستشفى بحجة تعرضها لانهيار عصبي نتيجة تأثرها بما جرى لزوجها. وذلك من أجل إبعاد الظنون وطرد الشكوك، وعدم اعطائها أي فرصة للتسرب إلى قلوب الناس وعقولهم.
بعد ذلك تظهر فيروز بعدة لقطات بروتوكولية انقاذاً للمظاهر. ترافق منصور وعاصي في سفرة إلى الخارج لعلاج عاصي. ولكن لتعود إلى لبنان وتشتري شقة في محلة الروشة، تاركة منزلها الزوجي للزوج الذي كان في وضع إنساني وصحي شديد البؤس، ولبقية أولاده ومنهم ولد معاق يعاني الشلل. وكانت هناك أيضاً بنتان لها لديها مشاكلهما أيضاً توفيت إحداهما بعد ذلك.
لم تنجح فيروز في مسائل الأسرة كما نجحت في مسائل الفن والغناء. فقد استمرت مدة 12 سنة في حالة خناق مع شقيقتها هدى دون أن ترى أحداهما الأخرى. ولم تكن علاقتها مع شقيقتها الثانية آمال بأفضل من علاقتها مع هدى. وشهدت علاقتها مع شقيقها جوزف أزمات كثيرة.
على أن ذروة فشلها في مسائل الأسرة تمثلت بعلاقتها مع آل الرحباني. فلم تتمكن من إقامة أي ود معهم. وعقب كل انفصال بينها وبين عاصي، كانت تقول له: اترك منصور، فأعود إلى البيت .. وكثيراً ما كانت تحرض منصور على عاصي، أو تشكوهما معاً إلى أصدقاء لهما بسبب إدمانها على لعب القمار. وبعد أن أقامت في إحدى المرات دعوى على منصور بتهمة سرقة مال الفرقة، تراجعت عن تلك الدعوى بعد أن تبين لها أن لا سرقة أبداً في الموضوع، بل تسديد لديون توجبت على الفرقة..
ومات منصور بعد ذلك وقلبه محترق على عاصي وعلى أسرة تشظت وتناثرت كما تتناثر أوراق الخريف!


من يريد تحطيم فيروز والأسطورة الرحبانيّة؟ باسم الحكيم




مقالة واحدة كانت كفيلة بوضع النار في الهشيم. صحافي لبناني يكتب في جريدة قطريّة عمّا يعدّه محطات من «سيرة» الفنّانة الكبيرة فيروز والرحبانيَّين... ويروح ينبش في القصص العائليّة عن مادة لتحقيقٍ ليس ما ينقضه أو يثبت صحّته... سوى رد فعل ريما الرحباني الذي جاء قاطعاً، وكذّب الأقاويل، وهدّد باللجوء إلى القانون

نشرت صحيفة «الراية» القطرية مقالاً بعنوان «فيروز والأخوان رحباني فصل من سيرة مأساوية» (بتاريخ 7 شباط/ فبراير) للكاتب جهاد فاضل، تناول تفاصيل الحياة الخاصة والأسرية للفنانة فيروز وعلاقتها بكل من عاصي ومنصور الرحباني وشقيقاتها وشقيقها من آل حداد. التفاصيل الواردة في المقالة التي يزعم كاتبها أنّه شهد أو سمع بعضها دفعت بريما عاصي الرحباني إلى الخروج عن صمتها. هكذا، جاء ردّ ابنة فيروز حازماً، نفى كل ما ورد في مقالة «المدعوّ جهاد فاضل» بتعبيرها.
لكن ما هي مناسبة نشر مقالة عن سيرة فيروز المأساوية مع الأخوين الرحباني بعد أقل من 40 يوماً على وفاة منصور الرحباني؟ وإذا كانت الصحافة قد تناولت في مناسباتٍ عدة العائلة الرحبانيّة وفيروز إثر رحيل منصور الرحباني، فإنّ معظم ما كتب لم يخرج عن الصيغة التكريميّة للراحلَين، وفتح صفحات من تاريخهما منذ انطلاقتهما وصولاً إلى إكمال منصور الرحلة وحيداً بعد عاصي. وحتى لمّا وضعت الأقلام التجربة الرحبانية على مشرحة النقد، فإنّها نأت بنفسها عن صيغة التجريح والتطاول على رمز من رموز الأغنية اللبنانية. أما كاتب المقال في «الراية»، فخرج عن ذلك العرف، واصفاً فيروز بـ«فتاة قروية ساذجة»!
أسهب جهاد فاضل في التحدث عن عدم حب فيروز لمنصور، ومحاولاتها الحثيثة للتفريق بين الشقيقين اللذين تلازم اسماهما في شخصية واحدة، هي «الأخوان الرحباني» حتى لحظة وفاة عاصي، عارضاً أسباب خلافها معه ومع شقيقتيها هدى وآمال وكذلك مع شقيقها جورج. ويصف فيروز بأنّها «ليس لها شيء من حلاوة الملامح (...) إضافة إلى كونها غير متعلّمة وليس لديها سوى صوتها»! كُتب الكثير بأنّ فيروز، رغم كونها تنتمي إلى عائلة فقيرة، وأنها لم تكتسب من العلم سوى القليل، سطع نجمها ولم يمثّل ذلك عائقاً في رسم مستقبل مسطّر بالتألق والمجد والشهرة. لكنّ صاحب المقال يذهب أبعد في كتابته عن أسلوب حياة فيروز، كأنه «يشنّ حملة منظّمة» وفق ما جاء في ردّ ابنتها ريما. يكتب مثلاً أنّه بعد الخلافات مع زوجها، «بدأت تسهر خارج البيت الزوجي، ولا تعود إليه إلا مع خيوط الفجر»... فهل يهمّ ذلك جمهورها حقّاً، بمعزل عن كونه كلاماً دقيقاً أو ملفقاً يعود إلى زمن بعيد جدّاً؟
يصرّ الكاتب على أن ما أورده في المقال الذي أثار استنكار الوسط الثقافي والفنّي، لم يكن بهدف الإساءة إلى فيروز. يقول لـ«الأخبار»: «أحترم فنّها وأقدّره، كذلك فإنني أحد المعجبين بصوتها». ويضيف: «هناك من كتب أكثر من ذلك بكثير، ومع ذلك لم يواجه باللوم أو التأنيب... وليس هدفي التشهير أبداً». ويرى جهاد فاضل أن «هناك نوعين من الكتابة عن فيروز، الأولى تتناول أغنياتها ومسرحياتها الرحبانيّة، والثانية تغوص في سيرتها، وأنا اخترت الطريق الثاني، وأتناول سيرتها بالأسلوب الذي أراه مناسباً». وينفي أنه طالب شهرة، بل أنا زاهد بها وأرفض الظهور في البرامج التلفزيونيّة، وأفضّل أن أبقى كاتباً حرّاً». وينفي عنه شنّ حملة لتشويه صورة فيروز، «لأنني استندت في ما كتبته إلى أمور معروفة سمعتها من أقرب الناس إليها من عائلة حدّاد، إضافة إلى استنادي إلى ما ورد في كتاب للناقد المسرحي عبيدو باشا.
من جهته، يؤكّد الناقد عبيدو باشا أنه توقف عند القيمة الفنيّة للأخوين رحباني وفيروز في كتابه: «إنّهم هم العاصيان المنصوران وفيروز الرحباني» كما يؤكّد، مشيراً إلى أنّ كتابه لا يحمل في أي جزء منه، تشهيراً. ويوضح: «لم أطّلع على الموضوع، لكن إذا كان الكاتب قد استند في أي جزء من أجزاء مقاله على معلومات استقاها من كتابي، فعليه أن يحدد المرجع الذي استند إليه بصورة غير قابلة للبس».
أما ريما الرحباني، ابنة فيروز وعاصي، فظلت بعيدة عن كل ما تناول والديها في الصحافة. لكن ما ورد في مقال جهاد فاضل استفزها، لما فيه من معلومات، تتضمن «تجريحاً ومغالطات عن سيرة حياة الراحل عاصي الرحباني وفيروز». ونفت صحّة ما ورد في مقالة فاضل جملة وتفصيلاً، محذرةً من أن «تروى أو تكتب أو تؤلف أو تنشر أو تحكى أو تدس سيرة أو قصص أو روايات عن حياة عاصي الرحباني بأي شكل من الأشكال»، محتفظة لنفسها بحقق اتخاذ الإجراءات والملاحقات القانونيّة ضد أي مخالفة.
أما القارئ، فننصحه بأن يذهب إلى أوّل محلّ أسطوانات ويشتري بعضاً من أعمال فيروز والرحابنة، ثم يضع إحداها في الجهاز رافعاً صوت جهاز الموسيقى، بعيداً عن الذين يبحثون في القاذورات عن الفضائح أو يتلصصون من ثقب باب التاريخ على الحياة الخاصة للناس، بحثاً عن الحكايات المثيرة.


عدد الثلاثاء ١٧ شباط ٢٠٠٩
فيروز: مريمُ الإبداع لن يخدش نقاءَها أولادُ السّمّ / محمد علاء الدين عبد المولى


في ثقافة الحوار والاختلاف تسود مفهومات ملتبسة مشوشة، يتسلل من خلالها ضعاف القلم والروح ليستغلوا حرية الرأي والتعبير في نفث سمومهم المزمنة على كل ما هو جميل وفاعل في تاريخ الروح والإبداع في ذاكرتنا... وكأنّ الدّيمقراطيّة مفتاحٌ يمتلكُه من لا يعرف أيّ باب سيوائمه، لذلكَ يذهبُ ويجرّبُ مفاتيحَه الصّدئةَ على أبواب لا تسلّم نفسَها لأمثال هذا الصّدأِ النتنِ...
منْ هذه الأقلام قلمُ الصحفيّ المدعوّ جوزيف فاضل (الذي قام بتغيير اسمه إلى جهاد ليسمح له بالنشر في صحف النفط لأن اسم جهاد قد يعطيه صك غفران مما يتخيله مانعا لنشره، فتلك حدود فهمه ومنتهى علمه) وهو قلمٌ مشهور بكمية السم الأسود المخزن من عقود من الزمن الأسود، يبثه بين آونة وأخرى على رموز ثقافتنا وإبداعنا، متشفيا من القيم الجميلة والمطلقات التي شكلت تاريخنا الروحي منذ طفولتنا حتى أبدنا...
ويعرفه الوسط الصحفي العربي، الدّخيل عليه، نموذجاً واضحاً للتّهجّمِ الدّائم على شخصية الشّاعرِ نزار قباني، منتهكا حتى حرمةَ اسمه وشكله ولون عينيه، معيدا شهرةَ نزار إلى جماله ووسامته وأناقته، ولون عينيه... لا نبالغ فهذا ما قاله حرفيا في كتابه الرّديء (نزار قباني الوجه الآخر) الذي قمنا بالرد عليه وتفنيده في كتابنا (دفاعاً عن الشاعر نزار قباني) وكان الكتاب ضرورة لا بد منها أمام أمثال هؤلاء...
والآن... جاء دور فيروز... بحجّة أنه صحفي ويريد تسليط الضوء على حياتها الشخصية، يقوم بتقديم المعلومات التي لا تمت بأدنى علاقة للتجربة الفنية ولا الموسيقية ولا الغنائية ولا تتعلق لا من قريب ولا بعيد بالفضاء الخاص الذي استقلت به فيروز في حياتها... لأن الوعي الهائل الذي يتمتّع به جوزيف فاضل (المجاهد في ميدان صحافة القبح) لا يمكن أن يؤدي به إلا إلى الانشغال بملامح وجه هذا المبدع أو ذاك، فنزار قباني استغل أنه جميل ووسيم ففرض نفسه على الوسط الشعري، ولكن الآن تنقلب الآية فتصبح فيروز وجها بلا أي ملامح جمال... طوبى لك أيها الصحفي من الدرجة العا......رة... مرة أخرى تثبت المستوى المتدني المنحط من الذوق والاختيار... طوبى لك هذه الثقافة الهائلة التي تتمتّعُ بها، والتي سرقتها من عالم سري يرقص فيه جمهور الشياطين السود المتفحمين من القبح الذي ينزّ على لحاهم... طوبى لك معيارك الدنيء لقراءة الجمال... يجب ألا نستغرب ولا ندهش منك حقا، فالشيطان الذي يستولي على روحك سيفوت عليك فرصة اكتشاف المطلق الجميل في شخصية فيروز... فهو مطلق لم يخلق لأمثالك... فيروز التي لو انتزعنا وجودنا من وجودها لسقطنا في هاوية البشاعة الدموية... اسحبوا فيروز من حياتكم وتخيلوا كم هي حياة قبيحة ولا نكهة لها... فيروز التي تنكه الوجود بطعم الآلهة، وتسكب على موائد أيامنا نبيذ النبلاء وفرح الأجراس بقيامة الإنسان، فيروز التي كونت ذائقتنا وشكلت ثقافتنا العاطفية وحددت لنا كيف نحب وكيف نغار وكيف نفرح وكيف نتمتّع بالوطن وكيف نرقص من نشوة في حضرة الآلهة الزرقاء... فيروز التي تقف على قمة السحر، تشير إلى الكائنات فتخفف من عدوانيتها، تأمر الذئاب فتتحول إلى حمامات، تنظر في البحيرات الراكدة فتمتلئُ بالنرجس الذي ينتظر عرسانه ليحدقوا فيه ويغرقوا في ماء الجمال... فيروز التي يخضر بمقامها الشعر النبيل، ويفتتح الشعراء مواعيدهم مع الوحي، هي التي تمدهم بأسباب الذهاب في وديان عبقر المدهشة، فاتحة لهم الأمداء المطلوبة للكتابة، تزودهم بمعجم جديد يجمع أسماء الزهور والعشاق والأقمار وعدد النجوم وميلان الخصور في غسق الرحمة... فيروز التي لم يبق شاعر ولم يمتحن قدرته على أن يكون جميلا إلا بالكتابة عنها... ولم يبق عاشق ولم يستند إلى سلالم صوتها وهو يتملى في عيني حبيبته المتمترسة هي الأخرى في قدح من الفيروز... فيروز أمنا العظيمة التي رأفت بنا، ورحمتنا وأعطتنا الشفاعة من الذنوب التي ارتكبناها بحق الأعشاب والطيور والفراشات، أمنا التي من نبالة وشهامة، من قمح وعيد، من فصح وجرس ولادة، فيروزنا التي ترتعش لها عروق اللغة، وتحتشد الكتب بعناوين مفاجئة، تكون لائقة بحضورها وأدائها المقدس... فيروز تلك يتجرأ عليها شيطانُ أصفر فيراها غير جميلة... تلك والله من علامات يوم القيامة... لنعذر الشيطان الأصفر، فهو مشغول بتجميع وجوه الجميلات على فضائيات العري المثير... لنبارك له تمتعه بجميلاته... لك جمالك ولنا جمالنا... يا من سترى بيتهوفن قبيحا، وسقراط أقبح، يا من سترى السياب رجلا بشعا، والمعري دميماً ومنفّرا، يا من سترى غاندي كتلة من العظام، نبارك لك هذا القدر الفذ من القبح المزمن لا شفيت منه أبداً... كيف ستنظر للمبدعين الكبار إذاً إلاّ بمسطرتك النشاز التي تقيس بها ملامح الوجوه وقدرتها على التهييج المبتذل... ماذا تعني أيها الشيطان الأصفر في صحافة صفراء مريضة، بكلامك إلا هذا؟؟؟ حدّق في نفسك جيدا في المرآة إذاً، نصيحة نمنحها لك دون مقابل...
عندما ينقلب الجمال إلى وجهة نظر ترى في فيروز شيئا غير جميل، عندها لتسقط وجهة النظر، ولتسقط حرية القول والديمقراطية لتذهب إلى الجحيم... لن نقف على الأرضية القبيحة نفسها ونقول إن فيروز وجهٌ جميل طفوليّ عذب يحمل كل طيبة الروح وانحناء الأم على داخلها، لن نقف على أرضيتك وندافع باللهجة نفسها، فنحن لا نرى سببا لنقنع أمثالك بجمالنا الفيروزي الذي نشكر الله وحرمك من رؤيته ومعاينته، فهو جمال للخاصّة من أبناء الشمس والنبات والشعر... وأنت ابن من أبناء الـ...........
فيروز التي حازت بكل جدارة أن تكون جزءا مهمّا من رأسمالنا الرمزيّ والمعنويّ، يأتي بين آونةٍ وأخرى من يغيظه وجود هذا الكمّ من الجمال والإبداع، وكأنه يعاني من عقدةٍ مزمنة لا يشفى منها إلا بالتهجم على هذا الرأسمال الرمزيّ للأمة عبر أجيالها... هي أقلامٌ مشبوهةٌ مأجورةٌ لا عمل لها إلاّ محاولة تهشيم القيم الجمالية الراسخة في أعماقنا، منْ شعرٍ وغناء وموسيقى...
فيروز التي يفتخر الشاعر محمود درويش بأنه (فيروزيُّ التّكوين) لم تخلق لأمثال جهاد جوزيف فاضل، لم تخلق لرجل يستحي من اسمه (جوزف = يوسف) وهو رمز الجمال في الذهنية الشرقية، رجل لا يحتمل أن يحمل اسم يوسف معه حق في أن يرى للمبدعين من منظور المراهقين الذين يقيسون جمال المطربة بما تثيره في أعضائه التناسلية... وإلا فليس هناك من مبرر لما يدّعيه هذا الشيطان الغريزيّ... ونشكر الله أنه غير معنيّ بجمال أمنا البتول فيروز المريمية...
لهذا سوف يجد هذا (الشّيء الصحفيّ)، الذي لا يليق به أيّ اسمٍ آخر، سوف يحد أن فيروز فتاة قرويّة ساذجة... فمن الطّبيعي أن يجحد هذا الشيء أهمية أن تكون فيروز حتى الآن الفتاة القرويّة الساذجة... لأنه يريد النقيض من هذا: يريدُها فتاة إعلانات تحت أضواء المدينة، تغني لترقص الخصور وتنفث الغلايين وتشرب أقداح الويسكي الزرقاء على أرائك المخمل والمسؤولين... النقيض من المفهوم القروي الساذج هو البنت المعاصرة المتفتحة بصوتها وتنّورتها وثقافتها المفرنجة المطعّمة من كل لغات الأرض... يجب أن تخرج فيروز من بيتها كل نهار حتى تتسوق وتلهث وراء أحدث الأزياء، وتزور في طريقها منتج الأغنية لترى أين دفتر الشيكات...
لن يدرك عقلُ هذا الشيء (الفاضـ....) [ يمكن ملأ الفراغ بالحرف الذي يراه القارئ مناسباً ] أنّ مشروع الرّحابنة كان من أسباب نجاحه ارتكازه على ثقافة الريف وغنائه وسذاجته وطيبته وحكاياته وأساطيره ولياليه وأعراسه وعشاقه وأعيد كرومه وقناديله ومجانينه وجداته وكرومه... وأنه ليس هناك مثل أمنا فيروز من يقوم بهذا كله... لن يدرك أمثال هذا أن الفتاة القروية هي نصف أدوار فيروز في مسرحياتها... وأنها المعادل الموضوعيّ للجمال الطبّيعي المتحرّر من العقد التي تعشش في ذهنه المدني المعاصر... الفتاة البريئة البنت المظلومة العاشقة الخجول الفتاة التي تأتي في الأزمات الروحية في المسرحيات لتحل المشاكل كلها بجماليتها وروحيتها الشفافة وكونها الرحباني الأزرق المؤسس على الحب النقيّ والفكر الرعويّ الأول حيث يتّحد الكائن مع فطرته الأولى التي لن توجد إلا في شخصية القروية، والقرويّ الذي تمكّنَ على يدِ عاصي ومنصور من استنبات شجرة الحضارة من عشبة الريف الفيروزيّ، واستطاع توليدَ قمر العالم من شمعة في كوّةِ بيتٍ ريفيّ يدلف المطر من شقوقه...
هل نعطي هذا (الشيء) درساً في الغناء الرعويّ وأهميته في تاريخ موسيقى وغناء الشعوب؟ هل نقول له استمع إلى رعويّات وريفيّات زكي ناصيف، واستمع إلى رعويات النشيد الفلسطينيّ البسيط الذي يؤرخ للجماعة البشرية في أسطورتها وحبها وعبادتها وخمرها ورحيلها ومأساتها وحنينها؟ هل نقول له استمع إلى كلاسيكيات الموسيقى العالمية علّ الله يهديك وتكتشف الوزن الحضاريّ للفن الريفيّ الحقيقيّ الذي جسدت فيروزتنا الغالية شكله الأبهى في فنها وحياتها...؟
هل نذكرهُ بأنّ الأنبياء لم يولدوا في نيويورك ولا هونكونغ ولا لندن... بل جاؤوا وهم يمتطون حميرَ الحكمة والبساطة، فاستطاعوا بذلك إدخال الروح البشريّ في متعة الإيمان، وتكنوا من نشرِ وصايا المحبة والصداقة والله... لم يكونوا يسكنون أبراجا مشيدةً، كانوا يسكنون الأكواخ وتقرقع أمعاؤهم من جوعٍ... ولكن كانت أرواحهم ممتلئة حتى الفيضان بكل الفضاءات اللازورديّة... لم يكن الأنبياء خريجي السّوربون ولا كامبردج ولم يكونوا يرتادون مكتبة الكونغرس ولا مكتبة الاسكندريّة، بل كانت تعاليمهم وإشراقاتهم هي من يحتلّ الصفّ الأول في هذه الجامعات والمكتبات... هؤلاء الأميون الذين رسموا ثقافات الشعوب على مدى آلاف السنين... كانوا بسيطين وفقراء وسذّجاً... أي غير مأزومين ولا مشوّشين... على أية حال ننصحك بقراءة معنى (ساذج) في المعجم العربيّ: (السّاذجُ: الخالص غير المشوب وغير المنقوش)... فطوبى للسيدة العظيمة فيروزتنا أمنا الحنونة... أنها خالصة نقيّةٌ غير مشوبةٍ ولا إضافات على شخصيتها... طوبى لها قرويتها...هل تعرف لماذا كان عاصي يصرّ على نقاوة شخصية فيروز؟ لأنها يجب أن تبقى كذلك، لأنها المثل الأعلى للنقاء... للقروية الممتلئة بصفاء النبع ورائحة الطّيون والبيلسان وهديل الحمام... لأن قرويتها النقية سمحتْ لها أن تنطق اللغة العربية بشكل فطريّ سليمٍ، وتحافظ على نقاءِ الحروف الخارجةِ من مخارجها الأصليّة، لأنها تعلّمت على يد (القرويّين عاصي ومنصور) كيف تقرأ شعر المتنبي وأبي فراس ومجنون ليلى وسعيد عقل ونزار قباني، فلم تخطئْ مرّة في لفظِ حرفٍ ولا تشكيل كلمةٍ، في الوقت الذي أخطأ فيه حتى محمد عبد الوهاب الذي يقال إنه تعلم أحكام التجويد على يد المقرئ العظيم محمد رفعت، ولأنّ فيروز شربتْ من ماء الرّيفِ، ولم تلوّثها متاريسُ المدينة المدجّجة بالدم، وظلّتْ ظلاّ من ظلالِ العريشة وهي تعطي عناقيدها للزوّار العابرين... هل تعرف شرفَ أن يحافظ المبدع على فطرة اللغة؟ على انتمائها الأول الأول؟؟؟
هل نذكّره بأنّه لا هوميروس ولا بوذا ولا المتنبي ولا المعرّي ولا العقّاد ولا محمود درويش ولا حنا مينة ولا زكريا تامر ولا فيلمون وهبي... درَسوا في كبرى جامعاتِ العالم، بل كبرى جامعات العالم تفتخر بتدريسهم واستضافتهم... وأن من هؤلاء من لم يأخذ حتى شهادة الدراسة الابتدائية، ولكنهم جميعا تمنح في أعمالهم شهادات أكاديمية من كلّ المراحل...
بماذا نذكّر هذا الشيءَ الصّحفيّ؟؟؟ ربما لن يجد في هؤلاء جميعا إلا كائنات قبيحة هي الأخرى وحققت شهرتها بطرقٍ ملتوية وبالواسطة... لأنّ من يتجرّأ على نزار قباني وعلى فيروز سيتجرّأ على هؤلاء... فتلك مهنته الوحيدة: نشرُ القبح في العالم ومساعدة آلة العسكر التي تدمّر الأرض والآثار والتاريخ والجغرافية، فيقوم هو بتدمير رموز الجمال والإبداع...
أمّا لأمّنا فيروز فنقول...
أنتِ العاليةُ العاليةُ... لذلك سيبقى يحسدك الواطئون... أنتِ النموذج الأبهى للجمال الخلاّق، لذلك سيبقى يموت غيظاً منكِ أولاد السمّ... أنتِ مريمنا البتول التي يهاجمونها الآن في الإعلام الصهيونيّ ويهاجمكِ العربُ الأدعياءُ في الوقتِ نفسه... وهذا ليس مصادفةً يا سيدةَ النقاء... فالطهرانيةُ قيمةٌ تقلقُ الأعداءَ وتقضّ مضاجعهم أينما كانوا ومهما حملوا من أسماء... (عاصيكِ ومنصوركِ وأنتِ) ثالوثٌ يشكّلُ الوجه الآخر للثالوث المعروف... وها هم يتعمّدون تشويهَ الصورة الزرقاء له هنا وهناك... ولكن لن يستطيعَ يهوذا بعد الآن الوشاية بالجميل... لن يتجرّع السمَّ إلا أولاده الشرعيون... فامضي يا أمّنا يا حنونة... يا أيقونة الزّمن الخالص والنّقيّ... لا تلتفتي للملاعين المطرودين من نعمة الربّ، الباحثين عن شهرة زائفة وحضورٍ كذابٍ... يا أمّنا المريمية الفيروزيّة... لكِ نتّجهُ في أعيادنا وأحلامنا وأيّامنا ونواصلُ الإيمان بكِ ثالوثاً للحقّ والخير والجمال... هذا الثالوث الذي يعلن براءته اليوم مرة أخرى ممّن يشنّع على الأنقياء البررة... ويلفّقُ الليل من خيوطه الشريرة ليحاولَ حجبَ نور الله واللهُ مظهرٌ نوره ولو كرهَ الكافرون...
أخيراً... للسّيدة ريما الرحباني بنتِ الفيروز المقدّس نقولُ: نحن أخوتك وأخواتكِ... نحن معاً أبناء النور الفيروزيّ من حقنا أن تطالبينا بأن نكون معكِ في كلّ ما ترينه ممكناً... لأن من يعتدي على أمّنا فيروز ولو همساً فإنه يكون قد ارتكب معصية لا غفران لها... ويجبُ أن نقفَ في وجهه ونرجمه بكل ما أوتينا... نحن لسنا من المعجبين بصوت فيروز... ولا نتعاطى مع صوتها في فترات الاستراحة واللهو... نحن من الذين خلقهم صوت فيروز من جديد... ورباهم وعلّمهم فقه الروح والجمال... نحن من الذين أخذ صوتها بأيادينا إلى حقيقتنا وجعلنا نبصر أرواحنا منعكسةً على فضة الأبدية...
نمدّ لكِ أقلامنا وأرواحنا وشموعنا وحبنا... لأنّ من حوّلتنا إلى مواطنين في كوكب الله الخالد، من حقها أن نكون معها سياجاً يحميها ويردّ عنها الأذى... ولن يستطيع جيشٌ من القبيحين أن يخدشوا كريستال مملكة فيروز...
نحن الذين لا نرضى ولا نقبلُ أن ترمى سيدتنا لا بلفظةٍ ولا نأمةٍ ولا حتّى بوردة... نضعُ لغتنا وكتابتنا وذائقتنا في خدمتكِ فانظري ما تأمرين...
هي قافلةٌ من أرواحٍ وجَمال وعبقريّة سوف تمضي وتمضي وتمضي... أما الكلابُ... أما الكلابُ... أما الكلاب...
( كلنا شركاء ) 23/2/2009

ريما الرحباني: سأقاضي من يشوّه صورة فيروزبيروت الحياة - 20/02/09//


شيدت فيروز مملكة لم يخرقها قلم طيلة نصف قرن، وتمكنت من جذب الخبر اليها حتى للكتابة عن تواريها خلف الغموض.
ليس من السهل اجتياز حصونها العالية، وإن حصل، غالباً ما تعلن الصحافة الهزيمة وتكف عن نقدها وتستسلم لصوتها. غير ان مرحلة السلام هذه دهمتها أخيراً حروب صغيرة، تظللت خلف تاريخ فيروز لتنسج حوله روايات اتخذت شكل الحملات المنظمة.
وأكدت ابنتها المخرجة ريما الرحباني ان والدتها «تتعرض الى حملة منظمة ومدروسة تطلق من حين الى آخر من البعض، لتشويه صورتها او زجها في سجال او بهدف الاسترسال في الاساءة اليها في حال عدم ورود نفي منها او من مكتبها الاعلامي وهي طبعاً لم ولن ترد».
وكانت مواقع الكترونية ومجلات وصحف تناولت في الآونة الاخيرة الحياة الشخصية لفيروز وزوجها الراحل عاصي الرحباني قبل وفاته عام 1986. كما صدرت كتب ومؤلفات من دون مشورتها، اضافة الى أنباء عن زيارات وحفلات في الخارج يقول البعض انها من صنع خيالات كتابها، لكن ابنتهما قالت: «سألاحق كل شيء من الآن وصاعداً». وأضافت ريما: «اذا كان التزامي الصمت في الماضي قد سهل للبعض امر التطاول وتكثيف الاضاليل وشن الافتراءات، فهذا لا يعني أنني من الآن وصاعداً لن اقوم بالرد المناسب وباتخاذ الموقف الملائم والحاسم، امام تشويه تاريخ عاصي الرحباني وفيروز».
وعلى رغم شهرتها العالمية، فإن فيروز نادراً ما تعاملت مع الصحـــافيين على مــدى مسيــرتها الفـــنية الطويلة، اذ إن الاخوين عاصي ومنـــصور الرحباني اللذين شكلت معهما هرماً فنياً، كانا يهتمان بذلك.
وريما الابنة التي اشتهرت من خلال اغنية «ياللا تنام ريما» التي غنتها لها والدتها في فيلم «بنت الحارس»، قررت استعادة هذا الدور بطريقتها دفاعاً عن الأم والأب الذي غيّبه الموت قبل 22 عاماً.
وقالت: «انا ريما عاصي احذر من ان تروى او تكتب او تؤلف او تنشر او تحكى او تدس سيرة او قصص او روايات عن حياة عاصي الرحباني بأي شكل من الاشكال وبأية صورة من الصور كائناً من كان مطلقها سواء كان بصفة صديق او رفيق او قريب او بعيد». وعبرت ريما عن شعورها هي وفيروز بأن بعض من كتبوا يسعون الى تشويه صورة عاصي وفيروز عبر السرد المغلوط. وأكدت ان سرد حياة فيروز وعاصي «محصور بورثة عاصي الرحباني الشرعيين دون سواهم وبهذه الصفة احتفظ لنفسي بكل الحقوق لاتخاذ الاجراءات والملاحقات القانونية التي اراها مناسبة وفي حينه ضد اي مخالفة».
وأشارت ريما الى «ان التعرض للحياة الشخصية لا يعني الغير أساساً، فكيف إن كان سردها قد أتى محرّفاً ومحوّراً ومشوّهاً ومختلقاً ومفعماً بالاكاذيب ومفبركاً كلياً؟».
وأكثر ما يؤلم ريما هو بعض الأقلام الجارحة التي تستسهل الكلمة وتضرب تاريخاً بناه صاحبه بتعب السنين وشقاء الايام في الدروب الوعرة: «التطاول على المقامات جارح، هناك اناس قضوا عمرهم في بناء ذواتهم حتى وصلوا الى هذا المكانة بين الناس، ليس مقبولاً التطاول على المقامات والرموز. يمكن أي شخص ان يقول ان هذا الفنان له اسم كبير ولكن انا لا احبه ولا يعجبني... لم تبق هناك حرمة، حيناً يوقعونها على عقود لم توقعها اصلاً، وحيناً آخر يقولون انها تطالب بأجر معين، وأحياناً يتعرضون لحياتها الخاصة مع عاصي الرحباني».


















تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow