Alef Logo
المرصد الصحفي
              

ردة عن الديموقراطية

جميل مطر

2006-07-18

الحياة - 17/07/06//
تعددت الأسباب والوضع واحد. لا يجتمع عربيان إلا وثالثهما الشكوى من الوضع الراهن في المنطقة، وما انتهت إليه آمال شعوبها العربية في حياة كريمة ومستقرة وحرة، وما آلت إليه عزتها وكرامتها واحترامها لنفسها، فالعابثون كثفوا العبث واليائسون يغتربون أو ينتحرون والحمقى يبلون بلاءً حسناً والفاسدون يكنزون، وعلى مقربة من كل هؤلاء، وفي صمت رهيب ومرعب، يتناثر المتألمون ويتكاثر الغاضبون يخزنون غضباً على غضب.
يشعر الناس بأنهم ضحية خديعة عظمى. قيل لهم على امتداد عقود إن بلادهم ستعيش حرة من أي قيد أجنبي، وإن إسرائيل لن تقوم، وحين قامت قالوا لن تعيش، وعاشت فقالوا لن نعترف بها، وإذا أجبرونا على الاعتراف بها علناً أو سراً، لن نخضع لها ولن نترك الفلسطينيين وحدهم، ولن نتخلى عن أسلحتنا ولن نسمح لإسرائيل بأن تفصل بين العرب، أو تفرض عليهم أن لا يقيموا علاقة في المنطقة أو من المنطقة إلا عن طريقها.
وقيل لهم إن الفجوات الواسعة بين الطبقات والجماعات والأفراد ستضيق، ولن يكون هناك عربي يجهل القراءة والكتابة، وسنقفز نحو الحداثة بعلومها وفنونها وآدابها وقيمها الإنسانية بخطوات واسعة. قيل لهم بعد حرب 1973 وفورة النفط إنهم على الطريق ليحتلوا في العالم موقع القوة العظمى السادسة. ولم تمض سوى سنوات قليلة وكانت كوريا الجنوبية هي التي حطمت الأرقام القياسية في سرعة الانتقال نحو التقدم العلمي والتكنولوجي، وفي نهاية العقد نفسه أعلنت الصين أنها بصدد أن تحتل هذا الموقع واحتلته ثم تجاوزته.
وجاء يوم قررت فيه أميركا مع الغرب ومن ورائهما إسرائيل تلهبهما بسياطها أن العرب في حاجة إلى تهذيب وإعادة تدريب بعد فشلهم المتكرر في اللحاق بالتقدم سواء كما يفهمه الغرب، أو كما تفهمه الشعوب العربية. وتصادف أن كان على رأس أميركا والغرب أفراد عقدوا العزم منذ سنوات على «تدمير» أحلام العرب وقواعدهم الصناعية ونخبهم الثقافية على ضعفها جميعاً، وتشغيل القوة الديبلوماسية والعسكرية والاقتصادية الأميركية لتحقيق معظم أهداف إسرائيل في أقل وقت ممكن، وعلى الرغم أن حفنة الرجال الذين قادوا الدفة الأميركية سقطت تحت وقع الهزيمة في أفغانستان والعراق إلا أن تشغيل القوة الأميركية استمر لخدمة إسرائيل، واستمر العرب ينفذون بالوكالة عن أميركا سياسات التدمير، حتى صار التدمير شأناً داخلياً صميماً.
ننظر حولنا بعد سنوات من الإصلاح الاقتصادي والسياسي الموجه، فماذا نرى؟ نرى نتائج مذهلة لمسيرة «إصلاح» قررتها الولايات المتحدة ومارست ضغوطاً قوية على الحكومات العربية وإن غير متساوية أو متوازنة لتنفيذها. ولا ينكر أحد أن «الإصلاح» الاقتصادي الموجه حقق الكثير. من هذا الكثير «تبديد» الثروات والأصول الوطنية تحت عنوان الخصخصة، وإخضاع اقتصادات دول في المنطقة، واحدة بعد الأخرى، لشروط السوق والسياسة في إسرائيل كشرط لتنشيط تجارتها أو تحريرها، وخلق طبقة مالية جديدة كقاعدة حكم للأنظمة القائمة أو لأنظمة قادمة وللسيطرة على قطاعات الإعلام والخدمات وتخليص النشاط الإنتاجي من إشراف الدولة وتحرير التعليم من عقيدة قديمة وإخضاعه لأيديولوجية وقيم حديثة. وفي رأي المؤسسات الدولية كان أهم ما تحقق خلال الإصلاح الاقتصادي زيادة في النمو مصحوبة بانحسار في التنمية.
أما الإصلاح السياسي فكانت له قصة مختلفة. وإن تشابهت البدايتان عند تفاصيل الضغوط الأميركية العنيفة على الحكومات العربية. ولا نبالغ حين نقول إن معظم هذه الحكومات، استجابت للضغوط وإن بتردد شديد وشك عظيم وفي نيتها العودة عن كل إجراء إصلاحي في وقت آخر عندما تسمح الظروف الدولية والإقليمية والداخلية أو كلها معاً. وفي ظني أن الشعوب لم تتحرك بالشكل أو المضمون اللذين كانت تحلم بهما واشنطن وغيرها، لأنها، أي الشعوب، كانت مدركة أن حكوماتها ستتغلب في نهاية الأمر على الإصلاح، فهي أدرى بحكوماتها ونواياها وأساليب حكمها وتعرف حق المعرفة أن من بيده السلطة في هذه المنطقة لن يتخلى عنها أو عن بعضها بإصلاح أو بغيره.
وفي ظني أيضاً أن النسبة الغالبة من النخب المثقفة والمسيسة في مجتمعاتنا العربية لم تثق في أميركا أو في نواياها، حتى أننا قرأنا لكثيرين يعتقدون أن الغرض الحقيقي للإصلاح السياسي الذي تضغط أميركا لتحقيقه لفت اهتمام الشعوب بعيداً عن القضايا الإقليمية والداخلية الكبرى والانشغال عنها بانتخابات ومظاهرات وتشكيل أحزاب وجمعيات أهلية. إن الذين قالوا بهذا الرأي يدللون الآن على بعد نظرهم بالمواقف الشعبية والرسمية العربية الراهنة ومعظمها يتسم بالسلبية وبخاصة المواقف من أزمة الشعب الفلسطيني ومشكلات العراق والصومال والسودان، والموقف من أزمة الديموقراطية في كافة المجتمعات العربية، ويعتبرون أن هذه السلبية البالغة ليست سوى إحدى تداعيات ما أحاط بالإصلاح السياسي من عمليات خداع ومناورة وتلاعب بآمال الشعوب في ديموقراطية حقيقية.
وقعت الردة على الإصلاح لأسباب أكثر من مجرد السبب القائل إن أنظمة الحكم العربية راوغت أميركا وشعوبها أو ضللتها حين سايرتها لبعض الوقت، وفي نيتها عدم تنفيذ إصلاح حقيقي، إذ تشهد التطورات خلال الشهور الأخيرة بأن النخب الحاكمة وجدت تشجيعاً يحرضها على الردة حين عدلت كل من روسيا والصين عن ترددها وسلبيتها في مواجهة حملة الضغوط الغربية وصارت ترفضها بقوة وعدوانية. وأعتقد أن سياسات شافيز وموراليس والشعبية المتصاعدة لتيار جديد في أميركا اللاتينية أثارت مخاوف من عواقب الإصلاح باعتبار أن الإصلاح السياسي الذي مارسته دول في أميركا اللاتينية على امتداد عقدين مسؤول مباشرة عن نشأة هذا التيار المناهض للنفوذ الأميركي والمعارض للنمط الليبرالي «المتوحش» في إصلاح الاقتصاد، وهو النمط السائد الآن في معظم الدول العربية.
ومع أهمية هذه الآراء، ما زلت أكثر ميلاً إلى الاعتقاد بأن العامل الحاسم لم يكن نيات الحكومات في الإصلاح وعزمها الانقلاب عليها في أول فرصة سانحة، ولم يكن تصلب المواقف الروسية والصينية في مواجهة الضغوط الأميركية، ولم يكن الأزمات الاجتماعية والسياسية التي تواجه النخب الحاكمة في أوروبا الشرقية التي حملتها إلى الحكم قوافل الإصلاح الموجه من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. كذلك لم يكن العامل الحاسم صدمة أميركا نتيجة فوز الإسلاميين في كل انتخابات أجريت تحت ضغط تجارب الإصلاح رغم أن المفاجأة كانت بالفعل غير محسوبة. جاء العامل الحاسم، في رأيي، عندما اكتشفت دوائر الحكم في واشنطن وجود عدم تناسب بين الالتزام الأيديولوجي - الديني للرئيس بوش بمسألة الديموقراطية في الشرق الأوسط والالتزام البراغماتي لصانعي السياسة الخارجية الأميركية وفي مقدمتهم الخبراء في مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع بأولوية حل أزمات أميركا في الخارج. كان بوش وعدد من اليمينيين الجـدد يعتقدون أن الرئيس مكلف من قوى «فوق بشرية» بنشر الديموقراطية بين شعوب الشرق الأوسط مهما بلغت تكلفة هذه المهمة. ولم ينتصر تيار البراغماتيين إلا حين تجاوزت التكلفة حدود الاحتمال فقد توالت الهزائم العسكرية والسياسية وتفاقمت الكراهية للسياسة الأميركية ووجدت أميركا الإسلاميين يدخلون أفواجاً في العملية السياسية في كل شبر في الشرق الأوسط خضع لضغوط أميركية ويمارس حكامه الإصلاح الموجه.
جاء هذا العامل الحاسم مدفوعاً بعامل أشد قوة وأكثر حسماً، وهو اكتشاف الإدارة الأميركيـة أن حرب الولايات المتحدة «الأبدية» ضد الإرهاب تفرض عليها إعادة صياغة «فلسفة» الديموقراطية». بعضنا في هذه المنطقة كان يتوجس شراً في كل مرة يقدم فيها النظام الأميركي على إجراء أو تشريع يقلص به حريات المواطن الأميركي، أو يتدخل به في خصوصياته. تسرب إلينا القلق قبل أن يتحول في الأسابيع الأخيرة عند البعض إلى فزع، رغم أن المسألة لا تخصنا مباشرة، بدأ القلق عندما كان الرئيس بوش يوسع من مفهوم سرية الوثائق والاتصالات الرسمية، وتضاعف عندما صدرت تشريعات تسمح بتفتيش مواطنين ومراقبتهم واعتقالهم وتعذيبهم، وتفاقم عندما تقنن حق الإدارة في معرفة ما يقرأه الناس في المكتبات وعلى الشبكة الإلكترونية وما يفعلونه ويتحدثون فيه في منازلهم، ثم جاء الفزع حين صار من حق الدولة في الولايات المتحدة مراقبة التحويلات المالية الشخصية والتنصت على كافة المكالمات الهاتفية وأخيراً عندما اشتبك الرئيس الأميركي مع صحيفتي «نيويورك تايمز» و»لوس أنجيلس تايمز»، بسبب ما نشرتاه عن مراقبة التحويلات المالية واعتبره الرئيس بوش خرقاً للأمن القومي، أي اعتبره إهمالاً يقترب من الخيانة.
لم تكن النخب الحاكمة في كثير من دول العالم غائبة عن هذه التطورات الحادثة في قلعة الديمقراطية. أعرف أن مسؤولين عرباً كبار يبررون للرئيس بوش تصرفات إدارته المناهضة لروح الديموقراطية بالقول إن الإدارة الأميركية في ضائقة شديدة بسبب تلاحق أزمات حربها «ضد الإرهاب»، وأن هذه الضائقة تدفعها إلى إصدار تشريعات وانتهاج سياسات من شأنها تقييد مساحة العمل الديموقراطي في الولايات المتحدة باعتبار أن للحرب كما للأمن القومي والاستقرار السياسي أولويات تسبق الديموقراطية وحرية التعبير واستقلال الصحافة. وتأكد عندي وعند آخرين أن أكثر النخب الحاكمة العربية توصلت إلى اقتناع بأن الولايات المتحدة دخلت للتو مرحلة طويلة ستفرض خلالها قيوداً أشد علـى الحريات
والديموقراطية، وبالتالي لن تكون واشنطن، بعد اليوم، في وضع يسمح لها بأن تتطاول على النخب الحاكمة العربية لتطلب منها رفع قيود عن الصحافة وحرية التظاهر والاحتجاج وتشكيل الأحزاب، أو تتدخل لتحرير مؤسسات وسياسات بينما تقوم هي نفسها بإحكام القائم من القيود وفرض الجديد منها حيث لم تكن قائمة.
وفجأة، وبناء على هذا الاقتناع، تأجلت أو هدأت خلافات الخلافة السياسية في دول بعينها بعد أن انسحبت وسقطت من دائرة الضغط الخارجي، وأعلن نظامان على الأقل عن نيتهما عدم التخلي عن مبدأ ديمومة الحكم، وأقدمت نظم أخرى على تصعيد كافة أشكال العنف والاعتقال ضد خصومها التقليديين وبشكل خاص ضد التيارات الدينية، وقررت في الوقت نفسه فرض التعتيم الإعلامي على كافة القضايا المحرجة، مثل قضايا الفساد وسلوكيات النخبة الحاكمة. ولم تكن مفاجأة، لي على الأقل، حين أعلنت حكومات عربية أنها بصدد الانتقام من كل من سولت له نفسه، خلال عطلة الإصلاح أو عطلة الوهم قبل أن تتبدد، التعرض بالإهانة أو ما يقترب منها لرموز القيادة في النخبة الحاكمة.
المؤكد في كل الأحوال أن سيف الإصلاح لم يعد مسلطاً على المنطقة العربية، ولن يكون مسلطاً بحدة على روسيا في مؤتمر قمة الثماني، أو على الصين. ولا أشك في أن خيبة أمل كبرى أصابت ناشطين في مجال الديموقراطية وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط وخارجه وسياسيين جدداً أو قدامى ونهضويين في العروبة والإسلام السياسي بسبب هذا الاتفاق «الضمني» على هدنة طويلة بين أميركا المأزومة في «حروب إرهابها» وروسيا مستأنفة الصعود والمنادية بنظام متعدد الأقطاب وعدم أحقية أميركا في فرض أفكارها والصين الراغبة في تأمين إنجازاتها الاقتصادية وإعادة ترتيب التوازن الإقليمي بما يتناسب واحتياجاتها الأمنية والاقتصادية. والمنطقة العربية «الصامدة» عند خط دفاعها الاستراتيجي الأهم، خط «الاستثنائية العربية - الإسلامية» والخصوصيات غير القابلة للاستجابة بيسر للإصلاح السياسي والديموقراطية الغربية.
يغفل هذا التحليل عاملاً أثبت وجوده ونفوذه أكثر من مرة وفي أكثر من موقع، لقد تحركت في الشرق الأوسط مياه ركدت طويلاً، ولن تعود للركود مهما قامت سدود وقيود خصوصاً أن آمالاً في المنطقة أحبطت ورموزاً سقطت وفي مواقع عديدة صبراً أوشك على النفاذ، وفي أركان كثيرة في المنطقة وعلى هوامشها وفي قلبها أناس يتحركون بحثاً عن أفراد وليس عن أفكار أو مؤسسات أو تنظيمات.
يحق الآن لمناهضي الإصلاح الابتهاج والاحتفال فقد تحققت لهم أعز أحلامهم. تأجلت الديموقراطية في منطقتنا وتنحسر في معقلها.
* كاتب مصري.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow