Alef Logo
ابداعات
              

موت آخر

لبنى ياسين

2009-05-18


انبثق أمامي فجأة بهامته الباسقة , لكنانحناءً ما أصاب شموخها , فأصابني بالذعر , وقفت في حضرة انكساره مندهشا حد الألم، بادرته بالسؤال :
لمــاذا ؟ .. لمـاذا ذهبـت إلى هناك يا رجــل ؟ لماذا ورطتنفسك؟
رفع نحوي عينين متعبتين إلى حــد الإعـياء و لم ينبس ببنت ألــم , بلتابع سحب قدميه ميّممـًا شطر منزله , لحقــت به .. و في سكون الليـل المدقـع لم يكنثمة صوت سوى صوت اجتـثاث قـلبه من هاوية الوجع المدمر, كان في عينيه شئ ما .. شئكسرته العتمة و محـا بريقه الألم , لم يغـب سوى شهور قاربت أن تـنهي حبلها بسنة .. لكني أحسست أن دهوراً وقـفت بيني و بينه , و كما تقابل شخصا غادرته لسنين فتحس انهصار شخصا آخر , أصبح هو شخصا آخر, هناك في داخله كان ينبت عشب بـّري يرفضاجتـثــاثـه و لو حتى بالتـنويـه .
أوصلته حتى داره .. تراكض الجميع يرحبونبعودته ويسلمون عليه بلهفة موجعة بينما هو تائـه النظرات , لم يعـر أحـداً اهتمامهوكأنمـا فقـد القـدرة على التواصل مع العالم الخارجي وانكفـأ إلى عـوالـمه الداخليةيجــّر ذيول خيـبته وألمـه .
تركتهم و مضيت في حال سبيلي , قـلت سآتي غـداًللاطمئنان على صحــة أغـلب الظن ما عاد يملكها , لربما استطعـت التواصل مع إنسانقـدم حواسه الخمس للتقاعــد المبكـر .
استوقـفتـني زوجته (أختي) .. قالت ليابقَ الليلـة عندنا فهو صديقـك المقـّرب , وربما ساعـده بقـاؤك .
لكنني وجدتفي ذلك إزعاجا ً سافراَ له , لقد اجتـاز مسافة طويلة للوصول إلى محافظة البرتـقـال(ديــالى ) حيث منزله , أغـلب الظن انه يـــتوق إلى وحـدة ٍ و سـرير ٍ و ظــلام ٍو صمــت .
تسابقـت الأفـكار على رأسي طيلة الطريق , كيف وصل إلى مدينتـناالصغيرة بحاله هــذا ؟ أعلى أقـدام الخيـبة أم على أجنحة الوجع ؟ و ما الشيءالفظيـع الذي مر به حتى يقـلبه إلى هذا الكائـن الغـريب في اقـل من سنة ؟؟ هـو .. الرجـل الذي كان يستـفيض مرحــًا , كان يحمل معه حقيبة الفرح أينما حل يفتحهاأمامنا ..كحاو ٍ ماهر , و ينثر محتواها عبقا ً يزيح به ضباب الملل و كآبة الأيام , لم يكن ثمة رجــل بيننا أخف ظـلاً أ و أكثر ضحكا أو اقـل هـَمّاً منه .. فما الذيقـلبه بهذا الشـكل ؟؟ .
مضيت إلى منزلي , لم أنم ليلتـها , غالبني النعاس و لميغـلبني , و كبْوم ٍ مكابـر بقيت ساهـد الطرف سادرا ً حتى خيوط الصباح الأولى , استسلمتُ بعـدها لكوابـيس مــوت مؤلـم مدمـر .
حلمت به .. كانت الذئـابتطــارده مطاردة عـنيفة , ثُم أحاطت به و تكالبت عليه تنهش لحمه , رأيتهـا تهاجمه .. تعـض أطرافه فـتـتساقط أشلاؤه شـلــواً تلو الآخـر , و رأيته يعاود التـقاطأشلائـه و يضعها كيفما اتفـق لـتـلتـصق بجسـده , تـشــّوهَ شـكله .. صار أشبه بمسخمرعب , لكنه لم يفـرط بقطعة من جسده المتمـزق ولا حتى بظفـر , ما زال الجسد جسدهرغم كل التـمزق , رغم كل التشوه , و برغـم جميع الألـم .. ثم انبثــق الدم من جسدهوأصبح نهــراً .. جـرى نهـر دمـه بتدفـق مهـول .. فيضانـاً اقـتـلع كل ما وقف فيطريقه حتى ثـلة الذئاب التي حاولت في البداية أن تشرب من نهر الدم , كان مصيرها هيالأخرى الغـرق في فيضـانه.. بينما هـو ما يزال واقفاً حيث هـو, صامداً يحاول معالجةأعضائـه الكليمة و إعادتها إلى مكانهـا .
أوجعـني كابوسي .. واستيقظـت غارقـاًفي عـرقي بـدلاً من أن اغــرق في دمه , كنت اخـتـنــق .. واكتشفت للتــّو أنعـينـيّ لم تغـمضا لأكثر من ساعـتين .. لكن الصباح أعـلن عن إشراقـه مزيحـاً ستائرالظلماء عن وجه الكون بجيوش من أشعة الشمس .
ارتديت ثيابي كيفما اتفق ناسياً أناغسل آثـار خرائب الليل و فيضاناته عن ملامح وجهي , ويـممـتُ مسرعا شطر داره ثانيـةو قد نـال مني كابوس الـدم ذا ك .
فتحـت أختي الباب واجمة وكأنها أصيـبت منهبعـدوى الذبول و الصمت .. قـلت لها:كيف حالـــه ؟؟
رد ت:
ــ لاحـال لديه تسأل عـنه .. لم يـأكل .. لم يتـكلم .. لم يصغ ِ .. و لو آ ل الأمر إليهلما تنفس , ارتـمى فـوق سريره بعـد أن أغـلق الباب وراءه في محاولة لإبلاغـنا بوجوبالبقاء خارجا بطريقة مهذبة , دخلت إليه بعـد قـليل فوجـدته غـارقاًً في نوم متعـب , بيـنما تجمعـت ملامح وجهه وتقـلصت وتمركـزت في منتصف وجهه , فخـرجت مغـلقة البابورائي لعـل النوم يزيح عنه شبح الإعياء الذي يهيمن عليه .
اتجهتُ إلى غرفـتهبعـد أن قـدّرتُ انه نام فترة مناسبة تماما لإيقاظه بعدها .. طرقت الباب , وإذ لمأتـلـقَّ جوابا فتحته بهدوء شديد و دخـلت , كان قد حرص على استضافة الظلام في غرفتهبإغلاق النافذة الوحيدة و إسدال الستائر جيدا , وجدته كما وصفته أختي تماما , ولـولا إيقاع أنفاسه المتعـبة لاعتقـدتــه ميتـاً .
هززتـه برفـق مرددا بصوتهامس: استفق فقـد أفرد الصباح جناحــــه .
دون أن يفتح عينيه أجابني:
أي صباح ؟ أنت تهـــذي .
قـلــت له:
قــم وحـدثـنا, فقـداشتـقـنا لأحاديثـك المرحــــة .
فتح عينيه بشح ٍ شديد كأنما خاف أن يهرب منهماالنوم قائلاً :
ــ و ما نفع الكلام .. افتح الباب و انظـر خــارجاً .. هـل بعـدهـذا كله كلام يُـقــال ؟
قـلــت له:
ــ قــم يا رجـل ..أولادك بانتـظارك .
قال لي :
ــ قـلْ لهم إذن ألا ّ ينتـظروني .. فلم أعــد هـنا.
أربكـتـني كلماته .. هـزتـني في العـمق .. بل قل أوجعـتـني , وحرت في أمره لكنياحترمت رغبته و خرجت مغـلقـا ً ورائي بابـا أظنه يريـده بابا ًً لـلحــده .
جلسنا في الصالة .. لم تكـن صالة بمعـنى هـذه الكلمة , إلا أنها مع ذلك كانتتؤدي وظـائـف الصالة وغرفة الضيوف وغرفة الطعـام معا في النهار .. أما ليلا فكانلها عمل إضافي غير مأجور إذ أنها تتحول إلى غرفة نـوم للصبيـين الكبيرين الذينتجاوزا سـن ّ الثالثة عشر فتم فصلهما عن أخواتهما الإنـاث , وخصصت هذه الصالةلنومهما بعد أن تفرغ ليلا من أشغالها الأخرى . أحضرت أختي إبريق الشاي , وجلستقبالتي , كانت تمنع دموعها من الإفلات من فتحتي عينيها و هي تسألني بسذاجة طفـل ماالذي يجري ؟؟
بماذا أجيب و ليس لدي أي شئ يحمل بريق إجابة .
قلت لها : صبرايا أختي .. إنها مسألة وقت , ما مر به ليس بالقليـل ,الحمد لله انه عاد .. أما كناقد يئسنا من ظهوره ثانية؟؟
ردت أخـتي : حقــا ً !!! لقد أصابني اليأس من عـودته , و اعتقـدت انه ربما ... وسكتـت برهة لتنجو بنفسها من احتمال موته و لو شفهيا , ثمأضافت :
ــ لا قـدّر الله !! الحمد لله الـذي أعـاده لنا سالما ً.
شعـرتبوخـزة غـريبة للسخرية تمتـزج بجملة ( عاد سالما ً) .. وربما تطال وخزتها هـذهكلمــة ( عــاد ) أصلا َ, فأنا شخصيا لم أجـد شيئا عـاد منه حتى اللحظة .
بقيتإلى جانب أختي اشد أزرها إذ لم يعـد لديّ ما أقوم به طيلة النهار سوى انتظارياليائس لاستيقاظـه من مـوت مؤقـت يـريد أن يعتـقـده دائمـا .
فـتـح باب غرفـته .. خرج إلينا بخطوات وئيـدة وكأنه يضنّ عـلينا بحضوره , هالني شكله في الضـوء , فلـم أكـن قد رأيتــه من خلال نـور واضح قبل اللحظـة , كان مـيتـاً يخطـو على أرجـلحـي .. كان ميتـاً حقـا ً .. و قد فقد مع فرحه كثيراً من وزن جسده المتعب... و كرشاً كان يبارينا بها وفي عينيه تلك النظرة التي تفيض ألماً حتى فرغـت من المعـنى وامتلأت وجـعــــاً .
لم يحفــل بنـا ولا بشيء حولــه .. لم يحاول حتى أن يخـصّأي شئ كان قـد فارقه قرابـة السنـة بنظـرة خاصة ولا حتى زوجته المشتاقة .
جلسعلى كرسيه وكأنما كان قد تركه قبل النوم فقـط , بدون كلام , فـقط بـكل ذلك البؤسالمطـلّ من عينيه الذي لم تفارقـني مفـردات له حتى اللحظـة لم أفهمهـا .
قامتأختي بتجهيز الغــذاء الذي يحـب , وربما الأصح أن أقول العشاء , نظرا لأفول الشمسمصادرة معها دفئا لم اشعر به, إلا أن إصرار أحـد منا لم يثـنه عن مقاطعتـه للطعـام .. فما عاد الطعام من اهتماماته مطلقــــاً .
أ رِ قٌ هـو .. تـَعِـبٌ .. مهـزومٌ .. مخـنوقٌ .. متألـمٌ .. ضائـعُ ..غاضب.. لكنه حـتماً ليس بجـائع .. علىالأقـل ليس إلى الطعـــــــام .
احتراماً مني لشهيته المفقودة لكل شئ .. قاطعتبدوري الطعـام .. وأومأت لأخـتي بأن تـتركنا وحـدنا عـلّ رياح الصداقة المتينة التيربطتـنا منذ نعومة أظفارنا تهب على هـمومه و تشد أزر رغبة دفينة في إزاحة عبء ثـقيلعن كاهله فتــأذن له بالبــوح .
ــ هـيا يا صديقي , فأنـا بئر أسرارك كنت وماأزال .. أنا من شاركك آلامك وأفراحـك و مغامراتـك ومقالبـك وتقـلباتـك وأسـراركالصغيـرة تـلك التي كانت يومها بحجـم المحـيـط .. ما زلت أنا رغم تقـلبات الدهـرعلينا , رغـم الأوقــات الصعبة التي مرت على كل منـا , رغم كل شئ .. لم ينقـص منصداقـتـنا سوى شـوائب الزمن فازدادت متـانة مع تقــدم العـمــــــر .
بكى صديقي , وانفرطـت لؤلؤتـان غاليتـان من عـينيه نزلـتـا باستحياء وإبـاء ذكوري على خـديه , أوجعـتـه دمعـتــاه وهـما تنهمران قسرا على مرأى مني , فما زال يريـد أن يـبدوقويا.. ربما ذلك الجانب مني الذي اصبح قريبـه بالمصاهـرة هو تحديدا ً ما أوجعهببكائه أمامي , تمتـم بكلمات لم تكن مفهومة أبـدا .. بضع كلمات منها زايلها الغموضففهمتهـا , لكنها وصلتني دونما ترابط كما في الكلمات المتقاطعـة , ثم انفجر بالكلامدفعة واحدة .. و أجهش بالبــكاء كمـا لم أ رَ رجلا ً يبكي من قـبل , أصبحت عباراتهتأتيني متقـطعة الأوصال , أليمة الأشلاء , لكني صرت افهم و أحس كل ما كان يقوله ومالم يقـلــه , صرت اشعـر بحـواسه و أرى بعـينيـــه .
قال لي بصوت متهدج يكاديطغى عليه صوت أنفاسه المكلومة المتـقطعة :
ــ تصور امرأة تـُخـلّـد انتصارها بصورة فوتوغرافية فوق عـري رجـولـتي , و تقـف بوضعـيـات فاحشة و بأخـرى مذلـّة فوق جسدي العاري , ضابط هـي في الجيش الأمريكي , لم أذق طعـما أمـّر من الذل .. و اللهلم اعـرف طعـما أمــّر منه , وودتُ لو أشبعتها ضربا ... وددتُ لو قتلتها ألف مرة ... وددتُ لو متُ... لو تفجرتُ ... لو احترقتُ ... وأحرقتُ كل شئ معي , لكنني مازلتُ حياً .
في هـذه اللحظات بالـذات شــاركته البــكاء , أجهشت ألمــا و مرارةو وجعا .. أجهشت ذلاً .
أردت أن اصرخ به لا تبــك ِ فالجــرح جرحي أيضا , لكنصوتي اختـنـق مع دموعي , فلم اعـد قادرًا إلاّ عـلى العـويل كالنساء .
آه ياجـرحي الهرم وأنت تمتـد خنجرًا في الخاصرة يطال كرامتي كما طال كرامته قبلي .
سكتَ قليلا , كنتُ أعلم أن في جعبته الكثير من الألم المتحصن خلف قسماتهالموجوعة , لكنه آثر أن يذيل حديثه بالصمت ...مواريا ً عوراته النفسية خلف سكونه , بعد أن كُـِشفتْ عوراته الجسدية أمام عيون لصوص الحضارة , فرحت أغيـّر مسار الحديثصوب أطفاله عــله يسلـو , ومضات غـبيــة اختبأتُ وراءها عـندما أدمته الــذاكرة فيمحاولة للنيل منه ثانيـة .. إلا انه لم يكن يسمعـني .. لم يكن يـراني , كان وحــدهتماما في الغــرفة .
تركته و خرجت ... مضيت تائها في سواد الليل .. اختلط بكائيبعويلي بذهولي بصمتي بتشردي .. بذلي.. لم اعد اعرف من أنا.
تتقاذفني الأزقةالضيقة و متاهات الضياع في داخلي , وددت لو خلعت حواسي الخمس ووضعتها عند اقربجمعـية خـيرية .. فـلربما احـتاجها غـيري ليعـزز صلاته بما حوله لكي يـرى و يسمع ويحس جيــــــدا بما يـحــــد ث..و ربما كان اكثر شجاعة مني فاستطاع أن يفعل شيئا ً .
على أطـلال خرائـبي مشــيت .. على وهــم ٍ كان اسمه أنــا .. على ذيـولالخيـبة الحـمقاء اسرج فتيـل حـزني , فــــــلا أستطيـــــــع أن احـــــــزناكـثــــــــــــر .
يا له من مـــــوت مفجـع ٍ أنــاخ بلعـنـتــه على كل ماحــولي .. و تركني إمعانـاً منه في تعـذيـبي و إذلالـي .. أ للمـوت مفاضلاتوتفضيــل كما للحـــــــــياة ؟؟
فـقـدتُ قـدرتي على الرؤيـة بمباركة العـتــمةالتي حــلت فجــأة حولي وفي داخلي و صرت أتخبط في محاولة مستميتة لتحديد وجهتي , لكني و لدهشتي وجدت نفسي حيث أنا .. على خطوات من منزل أختي , كأني غادرتـه للـتـّو , كان نور الصالة مضـاءاً مما يعـني انه ما زال هناك يلوك أوجاعه وتلوكـــــــــــه .
أحنيت شموخ رأسي بألم مخيف و مضيت صامتا نحو منزلي , مشّيعابقايا أمل باغتني يوما ما , لا اعرف من أين أتى , لكنني اعلم تماما كيف مات .
--------------------------------------





تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

إلا أنت....

13-آب-2009

للحالات "الخاصة" فقط

29-حزيران-2009

قصة / شارب زوجتي

22-حزيران-2009

و للحديث بقية

16-حزيران-2009

(الانسة تيفشولوجي)

29-أيار-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow