Alef Logo
المرصد الصحفي
              

حق التمرد والعقاب المتشنج

زياد عدوان

2009-06-07


شاهدت على الموقع الالكتروني youtube (المججوب في سوريا بدلالة تنسجم جيداً مع هذه السطور) مقابلة مأحوذة من محطة تلفزيونية أمريكية استضافت فيها مذيعة أمريكية سيدات من المجتمع السوري. ورغم حرص المذيعة على انتقاء نماذج مختلفة من السيدات السوريات، فقابلت وزيرة، وعازفة كمان في العشرينيات من عمرها، وناشطة اجتماعية، وسيدة محجبة، إلا أن أجابات السيدات كانت متشابهة إلى حد يصعب على المرء التفريق بين خطاب أي منهن. بدت جميعهن هادئات مبتسمات وواثقات وراغبات بالدفاع عن محاسن سوريا، إلى أن سألت المذيعة عن تمرد الشباب السوري. كانت الإجابة موحدة تقريباً بين السيدات التي وجدن أن الشباب السوري متمرد ضمن خصوصية العادات والتقاليد! وكأن عادات وتقاليد الناشطة الاجتماعية والمحجبة والموسيقية والوزيرة هي عادات واحدة. ثم ازدادت جرعة التوحد أمام المذيعة الأمريكية عندما سألت الأخيرة عن الجنس. فاتفقت السيدات على ردة فعل واحدة وهي ابتسامة يشوبها الإحراج قبل الحديث عن العموميات.
طبعاًَ لا يحتاج الجنس إلى دفاع من كاتب هذه السطور، فموضوع كالجنس كفيل بالدفاع عن نفسه، وبالتعبير عن ضرورته. ولكن ما دفعني للوقوف أمام تلك المقابلة هو موضوع التمرد وحق التمرد. أذكر أن أماً لصديق كانت تشتكي من أن جيلنا (جيلي وجيل ابنها) يفتقر لأشكال التمرد. وبينما وجدت التدخين والكحول شكلاً للتمرد في زمنها أصبح هذان التعبيران عادتين لا يحسب لهما حساب الآن. أجبتها وقتها: لعلها المخدرات؟ فقد ارتبط تناول المخدرات، وليس الإدمان عليه، بالمتمردين على المجتمع. وانتهي كلامي هنا. كان رد فعل الأم، وهي مترجمة فورية تجوب العالم بلا انقطاع، شبيهاً برد الفعل لو تم طرح الموضوع على السيدات الأربع. انتهى الموضوع أمام صمت اكتفى بتشنج الأم، كما انتهى موضوع التمرد والجنس أمام الصمت والإحراج عند السيدات الأربع.
ليس الكلام هنا تجن على سيدات أثبتن الحاجة إلى فاعليتهن في مجتمعات (أدمنت) الذكورية، خاصة وأن التشابه الذي وقعن به، سواء بكلامهن أو بانفعالاتهن، كان سيكون نفسه لو تم توجيه السؤال إلى رجال بدلاً من النساء. لم تعبر أي منهن عن الكبت، وعن التحريم. كان هناك تشابهاً أيضاً بين خطاب السيدات والخطاب الرسمي والاجتماعي الذي يصر على تجاهل الموضوع. ولعل رد الفعل الأول عند التفكير بموضوع التمرد اجتماعياً ورسمياً هو التفكير بنوع العقاب للتصدي له. لا مجال أمام الأمية المتفشية للتسامح والتفكير والتأمل والإصلاح.
لم تحدد السيدات الأربع تمرد شباب مجتمعهن. دافعن جميعاً عن الشباب السوري وعن التصاقة بعاداته، وكأن التمرد هو صفة سلبية تهين المجتمع السوري. ولكن التمرد كان وما يزال وسيبقى سلوكاً للانعتاق من رتابة الحياة وضيق التقاليد والتطلع إلى أشكال أخرى من المعرفة. وكما كان التمرد عن طريق الجنس بوابة للدخول في عوالم عديدة واكتشافات هائلة في علم النفس وتمرداً على المعارف الراكدة، كان لعالم المخدرات أثراً مشابهاً في مجالات المنطق والفلسفة والأدب والفن. وجد الكثير من الفنانين والأدباء في هذا العالم باباً آخر يجولون به في عوالم عقولهم في القرن التاسع عشر. كان الحشيش وقتها ملاذاً لمعظم الأدباء والفنانين في باريس، فقام بودلير وبلزاك وديلاكروا وأخرون بإنشاء ما كان اسمه في منتصف القرن التاسع عشر نادي الحشاشين في باريس. بودلير نفسه كتب مقالين عن الحشيش معلقاً في الجزء الثاني من المقال الثاني على كتاب توماس دي كوينسي (اعترافات آكل الأفيون الانكليزي). وكما كان الحال في فرنسا وجدت المخدرات رواجاً لها في العالم كله، فكان لويس أرمسترونغ يصعد خشبة المسرح بعد أن يدخن سيجارة حشيش، وكانت لنينا سيمون العادة ذاتها، دون أن يكونا مدمنين بالضرورة. أما الناقد والفيلسوف الألماني ولتر بنجامين فقد علق على تجربته الأولي للحشيش بأنه (استطاع أن يفهم إدغار ألان بو أكثر) كما دون العديد من الملاحظات والأفكار في كتابه (عن الحشيش).
بقيت المخدرات محط أخذ وجذب بين الفنانين والكتاب والمتمردين والمتطلعين إلى احتمالات جديدة للحياة (وغالباً حلم بوجود حياة أفضل). بعد الحرب العالمية الثانية التصق تمرد اليسار بتناول الكحول كاقتراب من حالة العمال وصورة البروليتاريا المنهكة من الظلم. عاد اليسار والأدب والفن بعدها إلى الحشيش عبر أسماء لها وزنها على مستوى العالم كالموسيقي جون كيج، والمسرحي غوميز بينيا والممثل جاك نيكلسون. كما لم يقتصر تناول المخدرات على الكتاب اليساريين، بل انتقلت في مراحل عديدة إلى عقول الكتاب اليمينيين كألدوس هسكلي ليعتبرها الجميع وعياً متمرداً. وبالمقابل احتد النقاش حول ارتباط الحشيش بالإبداع، فرفض أندريه بريتون تناول المخدرات لسبر أغوار العقل والنفس، معتبراً أن المرء يستطيع الولوج إلى أعماقه دون الحاجة إلى الكيماويات.
لم يكن أياً من المبدعين الوارد ذكرهم في هذا المقال مدمناً، وبالتالي لم يستسلم أحدهم لا لأشكال العنف في الحياة العامة ولا لإدمان المخدرات. كانوا جميعاً ضد أشكال الإدمان في الحياة الرتيبة، كإدمان الاستهلاك وإدمان العزلة، وإدمان الرشوة، والغش، وإدمان الحروب على التلفزيونات وإدمان البرامج التلفزيونية نفسها (وهل يتصور أحدنا الحياة بلا تلفزيون في سوريا). ولا أعتقد أن أنماط السلوك الآنفة الذكر هي عادات سيئة بقدر ما هي إدمان فعلي لا يعرف المرء ما الذي سيفعله من دونها. أما الإدمان على الحشيش على سبيل المثال فهو أمر أكثر صعوبة من إدمان التدخين العادي. ولا زالت مراكز الأبحاث الأوربية متخبطة بين تشريع الحشيش بشكل خاص، كونه أقل ضرراً وإدماناً من الكحول ومن التدخين العادي من جهة، كما نشرت الصفحات الأولى من الجرائد الانكليزية العريقة كالغارديان والتايمز، وبين المعتقدات المرتبطة بالحشيش بشكل خاص وردود الفعل المحافظة على هذا الإثبات من جهة أخرى.
وكما التقت أبحاث عديدة على أن الأدمان يختلف من شخص إلى آخر ويعتمد أيضاً على نوع المادة، اختلف تعامل القانون معها. فليس كل المتعاملين معها مجرمين بالضرورة، كي يجردوا من حقوقهم المدنية ويمضوا أشهراً وسنوات كالمجرمين خلف القبضان. وبالتالي اختلفت أحكام التاجر عن الأحكام الصادرة تجاه المتعاطي، تماماً كما اختلف التعامل مع المدمن وعلاجه قبل عقابه. وبسياق الحديث عن التنوع الهائل في عالم المخدرات يجب التنويه إلى اختلاف تأثيرها على المبدعين أنفسهم. فليس كل متناول للمخدرات مبدع بالضرورة.
وإن كانت قوانين العالم كلها مترددة أمام تجار المخدرات ونفوذهم، وبغض النظر عن قانونية المخدرات وشرعيتها، يفتح موضوع المخدرات نقاشاً أجدى عن علاقة تعاطي هذه المادة بالإبداع. هناك الكثير من اليقين بأن المخدرات ليست سبباً للإبداع، ولكن أحد ما يقف وراء الإبداع هو حرية التمرد وحق الفرد بمناقشة عادات وأعراف مجتمعه ومشاكستها، كل حسب طريقته، ولعل المخدرات وغرائبية التفكير أحد الطرق هذه. وقد يكون تأثير المخدرات على العقل المنطقي ما دعى العديد من الشعراء والكتاب إلى وصفها بالوعي المتمرد. ولم تكن لمساجلات بودلير وبريتون وبنجامين الظهور لو أنهم اصطدموا بأحكام تعتبرهم مجرمين بحق القانون وتسجنهم بسبب سلوكهم. أثبت جميعهم قدرتهم على الحياة والتفكير دون وصاية، الأمر الذي أعطى البشرية الكثير من الآراء والأفكار حول جدوى المخدرات بغض النظر عن الرؤيا الاجتماعية لها، والتي تشوبها الكثير من المعتقدات البدائية والأفكار المسبقة.
وفي الوقت ذاته، لم تقتصر علاقة المخدرات بالفن والأدب على أوربا وأمريكا الشمالية فقط، بل امتدت إلى أرجاء العالم من اليابان إلى أمريكا اللاتينية، ومروراُ بالوطن العربي، وبالعظيم السيد درويش، على الرغم من إنكار حفيده (المتحجب) إيمان البحر درويش وإدعاءه أن جده لم يتناول (نثرة حشيشة). المقارنة محزنة مع المشهد الفني والأدبي الآن، ولكن لا بد من التطرق إليها أمام خجل التمرد الذي يشوب نشاطاتنا الأدبية والفنية الرتيبة. فالأحكام جاهزة أمام أي سلوك غير مألوف، بدءاً من الجنون والتأثيم، ووصولاً إلى المساءلات القانونية. لم تعد مهمة أدباؤنا وفنانونا مجابهة المحرمات و(التابو) ومشاكسة رتابة الحياة اليومية وإدمانها على الخراب. فصعوبة المهمة تكمن في توحد الأعراف السائدة والتحريمات الاجتماعية مع القانون، ليصبح الموقف الرسمي متوحداً مع الموقف الاجتماعي، تماماً كما جرى عندما منعت مسرحية الكاتب سعد الله ونوس في حلب واصطف وزير الثقافة مع المنع. وبدلاً من أن يعطى فنانون جديدون يعزفون الروك والموسيقى الكلاسيكبة الفرصة للحديث عن تمردهم على الموسيقى السائدة، يتم استجواب فنهم قانونياً بسبب شغب جماهيرهيم، كما يتم تأثيم أعمالهم بذريعة أن أعمالهم مستوردة، وهي تهمة ترى أن أشكال الفن هذه مستوردة للمخدرات وكل ما هو سيء بالضرورة. وهكذا تصل الاستكانة إلى الواقع والأعراف والمحرمات إلى مرحلة غاية في التكلس أمام تفاقم قيم كقيم باب الحارة.
الآن، وبعد أن أصبحت سرعة التأثير والتأثر في هذا العالم شديدة على نحو لا يقاس، تفاجأ كبار الحارة القديمة من كم الأمور التي نغصت رتابة مجتمعاتهم وقوانينها وأعرافها. تفاجؤوا من الدعارة، والمثليين، والمخدرات، كما تفاجأوا من رقي الفنون وجرأتها. وما كان من الجميع إلا التسلح بشعار العادات والتقاليد، ...المطاطة. ارتدّت مدننا إلى أنفسها، وأصبحنا في مدن تود التمدن ولكن بعادات قروية. فتجريم تاجر المخدرات والمتعاطي والمدمن هو ذاته، بدلاً من وجود ردود فعل أخرى كالإنصات والتسامح والحوار والعلاج. يظهر العقاب كالحل الأول والأوحد، لتنصب أشكال العلاقة مع المخدرات في خانة واحد وهي التجريم قانوناً والتأثيم اجتماعياً، ويصبح المتعاطي ومن جرب المخدرات والمدمن مجرمين بنظر القانون مجرم مثلهم مثل التاجر. يحاكم الجميع أخلاقياً وقانونياً ولا يجد قانوننا بداً من مجاراة الأعراف، كيف لا وهو القانون نفسه الذي يثبت تردده مرة بعد مرة أمام جرائم الشرف.
وفي هذا السياق لا بد من تذكر بودلير الذي قال عن هذه المادة الغريبة والجديدة إنها (شيطانية حقيقة). ما يجعل العبارة هذه إشكالية هي موقف صاحب (أزهار الشر) و(دعاءات الشيطان) من الحياة ومن ضيق أفق البرجوازية الفرنسية المأسورة بتقاليدها. كانت الحياة بالنسبة لبودلير جحيماً، وبالتالي كان لا بد من التمرد على شر الحياة الواقعية بهذا الشيطان. ولم يكن سلوك بودلير تمرداً على الحياة الحديثة فقط، بل لعل تمرده الأرقى كان على الشعر، حين فتح الآفاق والأبواب نحو حرية لم يعرفها الشعر من قبل، وبطريقة يدين لجرأتها العديد من الشعراء إلى يومنا هذا.
سألت مرة الممثل بسام كوسا في سهرة ضمت شخصيات فنية و(مرموقة) عن دورتلفزيوني قام فيه بتأدية دور حشاش. كان السؤال عن مرجعيته لهذه الشخصية وخاصة أن العلاقة مع المخدرات هي علاقة غير شرعية، ومن الصعب الحصول على معلومات ونماذج لموضوع كهذا. لم يتح بقية الحضور الفرصة للممثل للحديث، فكان تشنجهم من طرح السؤال أكثر حدة من أن نستطيع العودة بهدوء إلى موضوع يتعلق بأدائه للدور. ولم تسنح لي الفرصة بعدها للاستماع إلى رأي السيد بسام كوسا بهذا الموضوع إلى الآن. لا أدري ما رأي ممثل نخبوي مثله بموضوع كهذا الموضوع ولا أدري إن كان الممثل قد إجاب عن هذا الموضوع في مقابلة تلفزيونية فاتني حضورها، لا لشيء إلا لأنني لست مدمناً على مشاهدة التلفزيون.

زياد عدوان

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow