Alef Logo
الآن هنا
              

فيلم على اللائحة الزرقاء

2006-07-12

مقدمة : شيخ العصاة غراهام غرين ـ صالح الرزوق

كان غراهام غرين في حياته مثالا للتناقض ، يبحر في زورق كاثوليكي ضمن مجتمع يؤمن بالبروتستانتية. لذلك كان ثوريا و ليس إصلاحيا. دفعته انتماءاته و تجربته في وزارة الخارجية إلى التشتت بين الإلحاد الإيماني ، و العصيان ضد المجتمع و الدولة. و لقد وجد الملاذ بين العاهرات و في معسكرات الجذام. ثم في التلال مثل همنغواي ، بين خارجين على القانون ، و لهم قضية – ضد. و في سبيلها يولدون ثم يموتون.
طوبى لك أيها الشيخ الجليل الذي شاءت المقادير أن أسير على دروبه.. خط من الدموع ، يوازيه خيط من دم أحمر ، ربما هو لا معنى له ، ولكنه يقودنا دائما إلى حيث توسد الرب ، في الأعالي. سوف نلتقي يوما هناك.
فيلم على اللائحة الزرقاء
قالت السيدة كارتر: الآخرون يبتهجون بأوقاتهم
أجاب زوجها: آه. و نحن كذلك…كانت لينا فرصة لمشاهدة...
قاطعته السيدة كارتر تقول : بوذا المتربع على عرشه، و بوذا الزمردي، و الأسواق العائمة. كما
أننا تناولنا طعام العشاء، ثم ذهبنا إلى الفراش لننام.
بالأمس ذهبنا إلى حفلة شيز...
علقت السيدة كارتر على ذلك بقولها : لو لم تكن برفقتي، لكنت… أنت تعلم قصدي ، في بؤرة ما.
هذا تفكير صحيح، خطر ذلك لكارتر، و هو يقيس زوجته المشغولة مع فناجين القهوة بنظراته. كانت أساور معصمها في هذه اللحظة ترن كلما لمست ملعقة تحريك السكر؛ و لاحظ أنها امرأة مستقرة وصلت في هذا العمر إلى ذروة الجمال، على الرغم من تجاعيد الإجهاد التي حفرت خطوطها. و لما وصل بعينيه إلى رقبتها، جاء إلى ذهنه كم هو صعب أن تطلق سراح ديك رومي من عقاله. هل هذه خطيئتي، تساءل باستغراب، أم هو خطؤها. لعله خطأ بالولادة، أو عجز غير مشروط ، أو أنه ربما مجرد صفة موروثة ؟ من المؤسف أن المرء في شبابه، غالبا ما يعتبر، على سبيل الخطأ، علامات الترفع نوعا من التميز.
و هنا قالت السيدة كارتر : لقد وعدتني بتدخين الأفيون.
ليس هنا يا عزيزتي، بل في سايغون. لا يليق بنا التدخين في هذا المكان.
يا لك من رجل محافظ.
قال كأنه يرمي ورقة رابحة : هذا لا يصح إلا في أماكن عربدة سخيفة ، و هكذا نلفت إلينا الأنظار . ستكونين محط أنظارهم.
لو لم أكن برفقة زوج، لتلقيت دعوات إلى أكثر من خشخاشة أنس واحدة.
حاول أن يقول بلهجة متفائلة : حيث عارضات الستريبتيز اليابانيات ..
قاطعته بقولها باحتجاج : يا لهن من نساء قبيحات خلف القضبان.
لقد سمعت بكل التفاصيل عنهن إذا. زاد هذا من اضطرابه. و بدأ يفكر بالمبالغ التي أنفقها على زوجته في هذه الرحلة ليرضي ضميره، فقد اعتاد مرارا على السفر من غيرها، إن رفقة امرأة لا تريدها تورث في قلبك اليأس. حاول أن يشرب قهوته بفتور، و مع ذلك رغب لو يعض بأسنانه أطراف الفنجان. نبهته السيدة كارتر بقولها : إنك تسكب القهوة خارج الفنجان..
أجفل و نهض على قدميه. ثم قال: آسف. لا تهتمي بذلك. لديّ ما أقوم به. انتظري ها هنا.
و مال عليها من فوق المنضدة و همس لها : من الأفضل أن تحتفظي بهدوئك. لقد أعذر من
أنذر. ردت السيدة كارتر بابتسامة لطيفة : بالعادة لست أنا التي ترتعد من أمر طارئ ..
غادر كارتر الفندق، و سار باتجاه نيو رود . تعلق به صبي صغير و سأله : هل تبحث عن بنت شابة ؟.
أجاب كارتر بصوت باهت : و لكن لدي امرأة تخصني وحدي.
هل تريد ولدا إذا ؟.
لا . شكرا .
أفلام فرنسية ؟.
جمد كارتر في مكانه و سأل : بكم ؟.
في زاوية داكنة من الشارع وقفا يتساومان لمدة لحظات. مع التاكسي و الدليل و الأفلام سوف تصل المصاريف إلى ثمانية جنيهات تقريبا. غير أن الأمر كان يستحق هذا العناء. هذا ما تبادر إلى ذهن كارتر . بذلك سوف تقفل المرأة فمها ، و لن تلح في مسألة البؤر- أو الخشخاشة . و هكذا عاد إلى السيدة كارتر ليأخذها معه . قطعت السيارة مسافة طويلة، ثم توقفت قرب جسر معلق فوق قناة . حيث هبت ، من زقاق متسخ بروث البهائم ، روائح لا يمكن التكهن بها . قال المرشد : اتبعاني .
قبضت السيدة كارتر على ذراع السيد و سألته : هل تظن أن المكان آمن ؟.
تجمد تحت لمساتها ، و أجاب : كيف لي أن أعرف؟.
سارا حوالي خمسين ياردة يهمين عليها التعتيم، ثم وقفا أمام سور من الخيزران . دق الدليل عدة مرات . و حينما سمح لهما بالدخول، لاحظا أن المكان عبارة عن مجرد كوخ جدرانه من الخشب و أرضه من التراب الغضاري. شيء ما - على الأرجح ينمّ عن بشر ـ أصدر ضوضاء ناعمة في العتمة تحت منخل بعوض ، ثم قادهما سيد الكوخ إلى غرفة ضئيلة فيها كرسيان و لوحة عليها صورة للملك. هناك كانت شاشة العرض بحجم صفحة من دفتر . كان الفيلم الأول على قدر من البرود و الملل، فيه امرأتان شقراوان تعيدان الشباب بواسطة المساجات لعجوز مسن تقدم به العمر . و من طراز التسريحة النسوية قدر أنه فيلم يعود إنتاجه إلى فترة العشرينيات. كتم الخجل أنفاس كارتر و زوجته حينما وصل الفيلم إلى صدى النهاية ، الدورة الأخيرة للبكرة . .
قال كارتر و كأنه على دراية تامة بما يقول : هذا فيلم غير جيد.
أما السيدة كارتر فقد قالت : إذا هذه هي الأفلام الممنوعة التي يسمونها زرقاء. . إنها مربكة و ليست ممتعة أبدا. ثم بدأ تشغيل فيلم آخر، قصته في غاية البساطة . شاب في مقتبل العمر ـ ليس بوسع المرء أن يرى وجهه بسبب قبعة موسمية ناعمة ـ أخذ امرأة من الشارع ( لها قبعة كلوش واسعة أصبحت تبدو بها مثل قطعة من اللحم في قدر تحت غطاء ) و رافقها إلى غرفتها . كان الممثلان كلاهما في سن الشباب، لذلك توفرت في التمثيلية مسحة من الجاذبية مع قليل من الإثارة . خطر لكارتر ، حينما خلعت البنت قبعتها ، أنه يعرف هذا الوجه. و أيقظ ذلك فيه ذاكرة كانت دفينة بين أنقاض ما يزيد على ربع قرن.. دمية قرب جهاز الهاتف ، و امرأة عمومية من بنات تلك الأيام، على سرير مزدوج. تتخلى الفتاة عن ثيابها، ثم تطويها بلباقة، و تميل على السرير لترتبه . و هكذا تكشف ما خفي من ذاتها أمام عين الكاميرا و عين الشاب، الذي لم يسفر عن وجهه حتى الآن . بعدئذ تساعده في التخلص من ثيابه.
في هذه اللحظة و حسب أصبح بقدرته أن يتذكر ؛ لهو و عبث لا تدانيه الشكوك، و تؤكده الوحمة الموجودة على كتف الرجل. هزت السيدة كارتر الكرسي قليلا، و ند عنها صوت خشن له نبرة صهيل حصان و هي تقول: لا أعلم كيف تقع أيديهم على مثل هؤلاء الممثلين.
قال : إنها غانية و لا شك . في هذا قدر من الفظاظة . أليس كذلك ؟.
ثم أضاف بصوت له نغمة من يطلب أو يقرر : ألا تفكرين بالانسحاب ؟.
كان ، في الحقيقة ، ينتظر أن يدير الرجل رأسه. إلا أن الفتاة ركعت على السرير و تمسكت بالشاب من خصره . كان عمرها بالكاد عشرين سنة . بعد حسبة سريعة رجح لديه أنها في الواحدة و العشرين . قالت السيدة كارتر و هي تضع على ركبته يدا متيبسة و ساخنة : سأنتظر إلى النهاية . لقد دفعنا .
- و لكن من المؤكد سوف نجد مكانا للتسلية غير هذا.
-كلا ، سأتابع .
استلقى الرجل الصغير على ظهره ، و تشاغلت عنه الفتاة لفترة قصيرة.
و كما لو أن هذا حصل من تلقاء ذاته ، و جّه إلى الكاميرا نظرة عاجلة و مختصرة ..
ارتعشت يد السيدة كارتر على ركبته و سمعها تقول : يا إلهي الطيب . إنه أنت .
قال كارتر : بل كنت أنا، مضى على ذلك ثلاثون عاما .
و كانت الفتاة قد عادت إلى السرير .
قالت السيدة كارتر : إنه نوع من تجاوز الحدود .
علق كارتر : هي نزوة غير أصيلة ، لا غير .
- أعتقد أنكما ، أنتما الاثنان ، كنتما ثملين بذلك.
- لا تراهني على كلامك . لم أشاهد هذا العرض من قبل على الإطلاق.
- و لم قبلت به أصلا ؟ إني لا أجرؤ على وضع عيني بعينك بعد الآن . إنه مهين.
- لقد نبهتك إلى ضرورة الانسحاب .
- هل دفعوا لك لقاء ذلك ؟
- بل دفعوا لها . خمسين جنيها . كانت بحاجة ماسة إلى النقود .
- و حصلت بدورك على متعة مجانية ؟.
- نعم .
- ما كنت لأتزوج منك لو علمت بذلك .. أبدا..
- مع ذلك ، مضى على الموضوع زمن طويل .
- ما زلت تدين لي بتفسير منطقي . هل لديك عذر من أي نوع ؟..
و لم تتم كلامها .
انتبه كيف مدت رأسها إلى الأمام لتركز على المشاهدة ، لقد استحوذت عليها إذا هذه الذروة الساخنة التي تعود إلى ما يزيد على ربع قرن من الزمن .
قال كارتر : لم يكن أمامي من سبيل آخر لأمد لها يد المساعدة ، كما أنها لم تمثل في فيلم آخر من قبل . كانت في الواقع بحاجة إلى صديق .
رددت السيدة كارتر وراءه : كانت بحاجة إلى صديق ..
- و أنا أحببتها.
- ليس بمقدورك أن تحب تورتة .
- بل عليك أن تثقي بي في هذا الشأن . لا تقعي في أخطاء بهذا الخصوص.
- أفترض أنك وقفت بالدور لتحصل عليها.
قال كارتر : لك تعابير نابية حول ذلك .
- و ماذا كان مصيرها ؟ .
- لقد اختفت . إنهن تتلاشين دائما.
مدت الفتاة قامتها فوق جسم الرجل، و أطفأت الضوء ، و بذلك انتهى الفيلم . و هنا قال السيامي و هو يجعل من كتفيه على شاكلة قوس ، جسر إلى الخلف : ستصلني أفلام جديدة في الأسبوع القادم.
لكنهما تبعا الدليل عبر الزقاق المظلم إلى التاكسي .
سألت السيدة كارتر في السيارة : هلا أخبرتني باسمها ؟.
كان الكذب أسهل فقال : ما عدت أذكر .
و ما أن أصبحا في نطاق نيو رود من جـديد حتى تخلصت من الصـمت المرير الذي أمسك بزمامها ، و قالت : كيف تسنى لك و انحدرت بنفسك إلى هذا الدرك ..؟ هذا إسفاف محبط . ماذا لو شاهدك امرؤ تعرفه ، و له معك علاقة عمل ؟ .
- الناس لا يتباهون بالحديث عن مشاهدة أشياء من هذا القبيل . على كل حال لم أكن معك ، في ساحتك تلك الأيام .
- ألا يقلقك هذا .
- لا أعتقد أني فكرت به مرة واحدة في ثلاثين عاما.
- كم امتدت فترة علاقتك بها ؟ .
- ربما حوالي اثني عشر شهرا .
- إذا ما بقيت على قيد الحياة حتى الآن ، لا بد و أنها تبدو على قدر كبير من البشاعة . في النهاية كانت مذ ذاك امرأة عمومية .
رد كارتر قائلا : أعتقد أنها كانت تبدو لذيذة و مهضومة .
صعدا على الدرج ، و معا ، بصمت . و ذهب هو على الفور إلى غرفة الحمام و أغلق الباب من الداخل . كانت يرقات البعوض قد اجتمعت حول المصباح و حوض الماء الواسع .
و ما أن تخلص من ثيابه حتى لمح نفسه في المرآة الصغيرة . لقد مر عليه ثلاثون عاما صعبا . و استيقظت مشاعره على زيادة الوزن و على الحلقة المتوسطة من العمر التي وصل إليها .و قال بسره : أبتهل إلى الله أن تكون ميتة . أرجوك ، يا إلهي ، قال بسره أيضا ، خذها إلى جوارك . إن الغمز و اللمز سيبدآن حالما أعبر من هنا إلى الطرف الآخر هناك . غير أنه حينما عاد إلى زوجته السيدة كارتر ، رآها واقفة بمحاذاة المرآة . كانت قد تعرت من نصف ملابسها، و ذكرته ساقاها الرقيقتان و العاريتان بلقلق ينتظر في الماء سمكة . تمخترت باتجاهه و عانقته بيديها .
رنت الأساور من جديد حينما لمست كتفه . و قالت : فاتني أن أعبر لك كم كنت رائعا.
- .. أنا آسف . لا أحد يبقى ظاهره كما هو.
- لم أقصد هذا . بل أنا أرغب بك كما أنت حاليا.
كانت الآن جامدة و تغلي في نفس الوقت ، و في أوج رغباتها..
قالت له : هيا ، لنبدأ ، لم لا نتابع أحداث الفيلم هنا ..
ثم صاحت من أعماقها كأنها طائر حانق و مهيض الجناح. و تابعت تقول بنفس واحد : لا شك أنه مضى على ذلك سنوات .
و أعقبت ذلك ثرثرة مجانية لمدة حوالي نصف ساعة من الزمن كانت في صالحه على ما بدا له. و لكن كارتر قابل حماستها بالاستلقاء مهموما على ظهره و في عتمة مطبقة . كان صامتا ، تستحوذ عليه مشاعر قوية بالعزلة و الإثم .
كان في الحقيقة يخامره اعتقاد قوي أنه خان في تلك الليلة المرأة الوحيدة التي وقع في غرامها.
1954
* صدرت لغراهام غرين قبل وفاته مجموعتان من القصص القصيرة و هما : إحدى و عشرون قصة ( الطبعة الأولى 1954 ، و كانت صدرت من قبل بطبعة أولى تحت عنوان تسع عشرة قصة عام 1947 ).
و هل نستطيع أن نحوز على زوجك و قصص كوميدية أخرى عن حياتنا الجنسية .
ثم في ذكرى مئويته صدرت مجموعتان إضافيتان هما : قصص مختارة ، و الكلمة الأخيرة و قصص أخرى.

* هذه هي الترجمة الكاملة لقصة:
* The Blue Film ( 1984) : Graham Greene – from : Twenty One Stories – Penguin – England.
ترجمة : صالح الرزوق




تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow