Alef Logo
المرصد الصحفي
              

اللغة سلاحاً في وجه السير المقدسة

روزا ياسين حسن

2009-10-25

ربما كان من الممكن اليوم مقارنة ردّات الفعل العنيفة التي كانت تثار على كتابة سيرة يسوع بردّات الفعل على إعادة كتابة سيرة محمد اليوم. لكنّ الأمر الذي من الصعب وضعه في ميزان المقارنة هو جرأة النصوص التي تحدّثت عن يسوع، وهي ترفد دائماً بنصوص جديدة تحاول أن تضيف شيئاً إلى تلك القصة اللانهائية، بالخوف الذي ما يزال يسم النصوص القليلة المخلخلة للمقدّس في سيرة محمّد.

لكنّنا في نظرتنا هذه لا يمكن أن نغفل التضحيات الممتدّة التي دفعها العالم المسيحي منذ فرض سيطرة الكنيسة، مروراً بعصر محاكم التفتيش وحتى فصل السيطرة الدينية عن الدولة، لأنّ إعادة النظر إلى المقدس، الذي يرعاه رجالات الدين، يعتبر أينما كان تصرفاً تجديفياً وعلامة واسمة على الكفر أو الارتداد، ربّما لأنه يفيد بمساءلة المبدع الدائمة للحياة والموت والغيب والقدر والسلطة والقمع، ومساءلته لفكرة جوهرية تتلخّص في دوران الحاضر والمصير في دوامة من الأكاذيب المسيطرة. ويمكن القول إنّ طرح الأسئلة عن حقيقة التاريخ الديني وحقيقة قصصه يعني التشكيك في طهرانية من كتبه ونقله، وبالتالي خلخلة الخطاب الديني الحاكم. وسيبدو التاريخ الإسلامي المعاصر على هذا يكرر ما جرّبه قبل قرون التاريخ المسيحي، وسيكون مألوفاً بالتالي أن يعاقب من يتطاول على رجال الدين الذين لا يمتون افتراضاً إلى قدسية محمد والقرآن، ويفصلهم عنه مئات وربما آلاف السنين. ومن نافل القول التذكير بما حدث مع الكاتب البريطاني من أصل هندي: سلمان رشدي وما تعرض له إثر كتابه: آيات شيطانية، الذي يكتب فيه سيرة محمد من منظاره الشخصي. فيما كان معروف الرصافي، الذي لم يعمل على نشر كتابه "الشخصية المحمدية"، ولم ينشر إلا بعد خمسة وخمسين عاماً من وفاته، يعتقد بأننا سنكون في زمن آخر تغدو إعادة كتابة السيرة فيه جزءاً من مساءلة ضرورية للتاريخ. كما بات دارجاً أن تكتب السير الجديدة بأسماء وهمية من مبدأ التقية، كما كتب (أبو موسى الحريري!) كتابه: "قسّ ونبيّ- بحث في نشأة الإسلام" 1979، وكتب "المجهول في حياة الرسول" الدكتور (المقريزي)، وغيرهم.

لكن، رغم كل التضحيات التي قدمها أولئك قرباناً لخلخة القدسية الدينية، إلا أنها تبقى محاولات فردية قليلة ومعتّما عليها، كما كتّابها، في مقابل محاولات جريئة لإعادة كتابة الأناجيل وسيرة عيسى المسيح التي وصلت في القرن العشرين حدّ التشكيك بوجوده أصلاً أو تناول سيرة تلك الشخصية، بعد تجريد القدسية عنها، بسخرية عالية ملؤها التحقير والتشهير. وسيتوضح من خلال استعراض سريع أنّ الذي وضع على مشرحة اللغة كان كتاب العهد الجديد بشكل خاص، ربما بسبب من تخلخل الأنظمة الاستبدادية للسلطات الثيوقراطية المسيحية في أوروبا، فيما لم تتم الكتابة عن التوراة/ كتاب العهد القديم إلا فيما ندر، فالعلاقة الجدلية بين محاولات خلخلة النظام الثيوقراطي المفترض وبين التفكك الذي طال المنظومة الدينية الراسخة تبدو لي هادية للكتابات المسيحية الرحبة، فيما لا تبدو العلاقة قائمة، وربما لخلل في أحد شقّيها، فيما يخص الكتابة عن التوراة وأنبيائها. تجلّى الأمر بوضوح حين كتب "دان براون" روايته الشهيرة، التي أثارت جدلاً واسعاً جعله في عداد أشهر كتاب اليوم، وهي: "شيفرة دافنشي"، حيث باعت أكثر من ثمانية مليون نسخة رغم المنع الذي تعرّضت له في الكثير من بقاع العالم. والرواية تحاول تفكيك بنية ما يسمى: جمعية سيون الدينية، أو جمعية صهيون، ووجهة النظر المتعلقة بمصلَّى صهيون، وهي منظمة أوربية حقيقية تأسست عام 1009، وذلك عبر بطل الرواية لانغدون الأستاذ العالم بالرموز الدينية ودلالتها والذي ينحدر من سلالة مرموقة من الحاخامات. تبدو الدلالة العميقة في الرواية هي قيام واحد من السلالة ذاتها بفضحها وتفكيك بنية تفكيرها، مما يكشف عن أن الانقلاب الأعمق والأكثر خبثاً على المنظومة يأتي من داخلها، وربما يذكرنا هذا بالانعطافة التي حدثت مع الكاتب الكبير عبد الله القصيمي.

بيد أن الجملة الدالة للروائي الأميركي "نورمان ميللر"، التي ختم بها لقاءً أجري معه بعد صدور كتابه الأشهر: "إنجيل الابن"، والتي يقول فيها: "أنا واحد من بين خمسين أو مئة كاتب في العالم يمكنهم أن يعيدوا كتابة العهد الجديد"، تعبّر عن أن الأناجيل، التي نالت حظوة التأريخ للدين المسيحي، لم تفِ بالغرض المطلوب منها، سواء أكانت أربعة أم أربعين، لأنّ الحقّ الذي يتراءى لنا في موضع لا يلبث أن يتوارى في موضع آخر. وهو بقوله هذا يعيد، بصيغة ما، إعادة إنتاج تلك الحكاية المتواصلة والمستمرة، حكاية يسوع النصراني، وربما حكاية المقدّس الديني بكامله التي لا تلبث الحقيقة فيه ما أن تتراءى حتى تتوارى.

يقدّم "نورمان ميللر" برأيه ذاك، بطريقة ما، لتلك الموجة التي حملت كتاب القرن العشرين على العمل لجعل اللغة تتملّص من سطوة الإلهي، كما عمل آباؤهم منذ عصر الأنوار على جعل العقل يتملص من سطوة الميتافيزيقيا، والميتافيزيقيا الدينية أولاً. فأعادوا إنتاج الكتاب المقدس في محاولات مبنية على دلالات الحاضر وعلاماته، وبناء على بنية تفكير مبدعيه ورؤيتهم التاريخية الخاصة خارج سطوة الإحالات المعروفة والمنجزة للنص المقدس، وخارج البنية اللاهوتية التي بقيت تعتصر أدمغة البشر منذ ما يزيد عن الألفي سنة وحتى اليوم. على الرغم من أننا لا نستطيع بحال إغفال المحاولات التي بدأت قبل قدوم القرن العشرين حين أصدر "أرنست رينان" في العام 1863 كتابه الرائد: "حياة يسوع".

ربما أمكننا اعتبار كتاب: "المسيح في مرآة العصر"، الذي كتبه الفرنسي "ليو تاكسل" وترجمه حسان اسحق، من أعمق الكتب الأوروبية تطرقاً للموضوع، وأكثرها اشتغالاً على الناحية التأريخية والموضوعية، وقد ظل الكتاب قيد الصمت نوعاً ما تجاه شهرة الكتب الأخرى، ربما بسبب كونه يشكك أصلاً بوجود المسيح، كشخصية تاريخية أولاً، أو لأنه كتاب أشبه بالتوثيق منه بالرواية، وفيه يعيد تاكسل إنتاج قصة الأناجيل عبر شخصية يسوع المسيح، حيث يعرض لثلاث نظريات عمّت الفكر الأوروبي تجاه المسيحية، الأولى تعتقد بأنّ يسوع هو عيسى بن مريم: ذات إلهية تجسّدت في صورة إنسان ونزلت إلى الأرض لبعض الوقت، وهي في النهاية رؤية الكهنوت التي تنطلق من دوغما الثالوث القدسي ومن فكرة أن الإله المسيحي واحد ولكنه ثلاثي الأقانيم: الإله الآب، الإله الابن، وإله الروح القدس. النظرية الثانية التي تبناها مؤرخو المسيحية الليبراليون في القرن التاسع عشر تتحدث عن كون يسوع مبشّرا يهوديا ليس إلا، أو ما يمكن تسميته شخصية تاريخية حقيقية اضطهد في حياته وأصبح صاحب نظرية في التحرر الاجتماعي، وكان ذا أخلاق وسموّ وعمق ذاتي جعل أنصاره يلتفون حوله ليقولوا بفلسفته أو بديانته الجديدة وسموا تلامذته. والنظرية الثالثة تقول إنه لم يكن هناك أي وجود حقيقي في أي زمان ومكان لتلك الشخصية المسماة يسوع، بل هي أسطورة عمل على فبركتها أناس لاستخدامها لأغراضهم الشخصية، وإن المسيحية نشأت في عصر سقوط الوثنية عندما كان المنتفعون من الغباء الإنساني بحاجة لدين جديد، وبالتالي يغدو الدين المسيحي ثمرة خداع. وللدلالة على ذلك يورد تاكسل أن الرُّقُم الآرامية، التي وثّقت لحريق أورشليم ولصلب المجرمين ولتفاصيل وجود بيلاطس البنطي، لم تتحدث عن وجود نبيّ يسمى يسوع، خصوصاً وأن معجزاته التي عمّت الآفاق، والتي ذكرتها الأناجيل بالتفصيل، كانت أهمّ من أن يهملها التاريخ الآرامي الموثق لكل تلك المرحلة الدقيقة من حياة أورشليم والناصرة والمنطقة عموماً.

أما الكاتب اليوناني الشهير "نيكوس كازانتزاكيس" فقد أخذ على عاتقه، وعبر معظم رواياته، التعبير عن فكرة الله وجوهر المسيحية الحقيقي وقدّسيتها، وفكفكة ذلك الإيمان المغلف في دواخل الإنسان. من أعماله التي اختصت بإعادة تدوين قصة يسوع روايته البديعة: "الإغواء الأخير للمسيح"، التي قدَّم فيها رؤيته الخاصة للعلاقة، أو ربما العشق المضمر، بين يسوع ومريم المجدلية وما اكتنفت عليه من غموض وجمال. كما كتب رواية: "المسيح يصلب من جديد"، ويكاد لا يخلو كتاب من كتبه من تلك النفحة اللاهوتية الخاصة والخارجة عن اللاهوت الرسمي المكرّس، ومن تقديم وجهة نظره في عالم أعيد تشكيله بناء على جملة أفكار دينية وثيوقراطية وميتافيزيقية.

أما رواية: "الإنجيل كما يرويه المسيح"، التي كتبها "خوسيه ساراماغو" الكاتب البرتغالي الشهير والحائز على جائزة نوبل للآداب 1998 وترجمها سهيل نجم، فهي محاولة لإعادة كتابة سيرة يسوع المسيح بلسان راوٍ عارف بالبواطن، يحاول أن يعيد بناء القصة بمجملها بالاعتماد على ما وصل من سيرة المسيح التخييلية وليس بناء على ما أتت به الأناجيل التي تبدو مجرد خلفية ظليلة للسيرة الأحدث. إنها سيرة محسوسة أرضية، إن صح التعبير، وليست سماوية منجزة، ما يجعلها بعيدة عن قدرية السير اللاهوتية وعن إنشائها وتبشيريتها، ويتحدث ساراماغو فيها عن المسيح عبر قسمين من حياته القصيرة، حيث يغدوان بمثابة حياتين، الأولى باعتباره عيسى بن يوسف النجار الأب، الذي سيصلب قبل ابنه وبالتالي سيثير في داخل الأخير أسئلته الوجودية الأولى، ويثير فيه أفكاره ونقده، ويفضي به إلى حياته الأرضية الثانية حيث يبدأ البحث عن حقيقة الله والحياة والموت وحينها فحسب سيبدأ بجمع أتباعه حوله. وتنتهي تلك الحياة بصلب الابن بعد الأب في المصير ذاته، كأنه أضحية للإله أو كأن مصير الإنسان غير المسلّم/ المشكك والسائل يصل دوماً إلى الصلب وبكافة تمظهراته.

في رؤية أخرى وبالعودة إلى رواية: "إنجيل الابن"، التي كتبها نورمان ميللر وترجمها ئائر ديب، يعيد الكاتب المشاغب خلق سيرة يسوع المسيح التي يرويها الأخير بلسانه ومن وجهة نظره المفترضة. يسوع، الذي يجتمع فيه الإله مع الإنسان والله مع الشيطان، تحكمه الشكوك كما يحكمه الإيمان والتسليم، لديه أهواؤه ومتعه وينوس بين عشقه للنساء، وأكثرهم مريم المجدلية، وبين تعففه، وينوس بين الكره وبين الحب، يجمع تلامذته حوله لكنه يلمس غباءهم ومصالحهم الدنيوية. إنه باختصار يسوع المصدق ويسوع غير المصدق. ويحاول ميللر في روايته تلك ألا يتكلم عن المسيح فحسب بل عن الجو المحيط فيه والذي ساهم بخلقه، يتكلم عن الجليل وأورشليم قبل ألفي سنة حيث الزمن الروائي مفتوح على مختلف الاحتمالات والافتراضات. وكما اجتمعت التناقضات في قلب يسوع ميللر تناقضت آراء النقاد حول الرواية، بعضهم رآها نوعاً من الإعجاز في الأدب، وبعضهم رآها رواية سطحية لا ترقى للتأريخ لشخصية درامية كيسوع.

ربما أمكننا النظر إلى تباين تلك الآراء حول رواية ميللر باعتبارها سمة أساسية تجمع ما يسمى: إعادة كتابة السير المقدسة. تلك السمة هي باختصار فصم التكتل، وخلخلة ما سبق وكان مطلقاً غير قابل للسؤال أو للتشكيك. وحركة التاريخ المتكررة هي وحدها التي تؤكد بأن زمناً قادماً سيأتي على المسلمين وستكون مساءلة السيرة المقدسة فيه ضرورة حقيقية للمضيّ قدماً بعيداً عن أغلال الماضي.

عن موقع الأوان










تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

عن إرث قاتل سموه ذاكرة

09-تشرين الثاني-2019

حكاية (أبو حاتم): أشياء عن الكرامة والحب

15-كانون الثاني-2013

ثقافة المجازر في سوريا: ألبومات للموتى

07-تشرين الأول-2012

نبض الروح

04-تشرين الأول-2012

إنهم السوريون وهم يحصون مجازرهم

28-آب-2012

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow