Alef Logo
الآن هنا
              

وداعا نجيب محفوظ .. نحسدك جميعا على توقيت الرحيل

ألف

2006-08-30

رحل الأديب الكبير ، رحل بعد أن رقد مريضا في المستشفى لفترة طويلة، ولكن رحيله جاء في فترة حرجة من فترات الشعوب العربية وهو الذي كتب عن مصر، عن حروبها الصغيرة والكبيرة، عن حكاياها الصغيرة والكبيرة، رحل مع أكبر حكاية من حكايات العصر، حكاية تشرذم ، وانحطاط العرب بأنظمتهم وشعوبهم. أقول وشعوبهم لأنه لو تكن الشعوب في معظمها منحطة لاستطاعت الوقوف بجرأة والقول أنتم غير مرعوب بكم بيننا أيها الحكام الخونة.. المترردون، المرتدون والجبناء. ولأنه كان في المستشفى، ولم يكن بقادر أن يقولها فضل لأن يموت.. لذلك .. نحن نطالب الزعماء العرب وأولهم حسني مبارك ومن لف حوله من المسؤولين المصرين أن يبتعدوا عن تشيعه.. ولكن ذلك غير ممكن فهم لن يفوتوا مثل هذه الفرصة وكما جاء في جريدة الأهرام المصرية أن تشييع الجثمان ستم اليوم بمشاركة رسمية وشعبية " تودع مصر صباح اليوم في جنازة شعبية وعسكرية مهيبة الأديب العالمي نجيب محفوظ‏,‏ الذي وافته المنية صباح أمس عن عمر يناهز‏95‏ عاما‏,‏ بعد صراع طويل مع المرض‏.‏ وقد نعي الرئيس حسني مبارك أديب نوبل الكبير إلي شعب مصر‏,‏ والأمة العربية‏,‏ والعالم‏.‏ ووصف الرئيس مبارك ـ في بيان صدر عن رئاسة الجمهورية أمس ـ الأديب الكبير نجيب محفوظ بأنه علم من أعلام الفكر والثقافة‏,‏ وروائي فذ‏,‏ ومفكر مستنير‏,‏ وقلم مبدع‏,‏ وكاتب خرج بالثقافة العربية وآدابها إلي العالمية‏.‏
أن يتركوا تشيعه لأصدقائ ومحبيه.. ونتمنى لو يرفض هؤلاء أي تكريم يأتي من الخارج، كتصريحات بوش وشيراك والملك عبدالله الذي نشك في أنه قرأ لهو أو لغيره من الكتاب العرب .. فقد ذكرت الجزيرة نت
أن بوش وشيراك وبعض الزعماء العرب أدلوا بتصريحات حول وفاته .. كنا نتمنى لو يطنش الإعلام العربي عن ذكرها ، أو لو أنها لم تصدر تكريما للراحل .. فقد ذكرت الجزيرة الفضائية
أن بوش حزين وشيراك وصفه بالشخصية الكبيرة وايضا تعليقان من هذا النوع لبعض لحكام العرب
ألف
مما جاء في الجزيرة
أعرب الرئيس الأميركي جورج بوش عن حزنه لرحيل الأديب المصري والعالمي نجيب محفوظ ووصفه بالكاتب الاستثنائي الذي تخطى القوالب الجاهزة.
وقالت نائبة الناطق باسم البيت الأبيض دانا بيرينو إن الرئيس عبر عن حزنه لدى سماعه نبأ وفاة الكاتب المصري نجيب محفوظ ووصفه بكاتب الروايات والقصص والسيناريوهات الذي تخطى القوالب الجاهزة.
وأضافت المتحدثة أن أعمال محفوظ -وهو أول عربي يحوز على جائزة نوبل للأدب- أظهرت غوصا عميقا في حياة المصريين والجنس البشري كله.
وقالت بيرينو إن غالبية الشعب الأميركي والرئيس وزوجته يقدمون تعازيهم إلى قرينة محفوظ وأسرته وأصدقائه وإلى الشعب المصري بسبب غياب "فنان استثنائي نجح في نقل روح المجتمع المصري وتاريخه إلى العالم".
وختمت بيرينو قائلة إن أعمال محفوظ ستخلد حبه لمصر أمام الأميركيين وقرائه في أنحاء العالم لأجيال قادمة.
مبدع ورجل حوار
ووصف الرئيس الفرنسي جاك شيراك في بيان صدر بالمناسبة محفوظ "بالشخصية الكبيرة في عالم الأدب ورجل السلام والتسامح والحوار".
وفي عمان وجه العاهل الأردني الملك عبد الله برقيتي تعزية إلى الرئيس المصري حسني مبارك وأسرة الأديب نعى فيهما "أحد أبرز أعمدة الأدب العربي".
وقال الملك في برقيتيه خسرنا بوفاة الأديب الراحل مبدعا كبيرا وأحد أبرز أعمدة الأدب العربي والذي شكل علامة فارقة في تاريخ الأدب العربي في العصر الحديث.
وأشار إلى أن أعمال الفقيد أغنت المكتبة العربية والعالمية بروائع أدبية عبرت عن هموم المجتمعات الإنسانية وحظيت بتقدير وإعجاب الأوساط الثقافية في دول العالم.







وأرسل أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد من جهته برقية تعزية إلى الرئيس مبارك نوه فيها "بالتراث الأدبي المميز" الذي تركه الراحل.
وكان مبارك قد نعى محفوظ في وقت سابق واصفا الكاتب بأنه "علم من أعلام الفكر والثقافة وروائي فذ ومفكر مستنير وقلم مبدع وكاتب خرج بالثقافة العربية وآدابها إلى العالمية".
تعازي الإخوان
وفي القاهرة أعرب المرشد العام للإخوان المسلمين في مصر محمد مهدي عاكف عن تعزيته بوفاة محفوظ وقال إن اثنين من قادة الجماعة سيشاركون في التشييع.
وذكر الموقع الإلكتروني للجماعة في سياق تغطيته لوفاة محفوظ أن روايته "أولاد حارتنا" تتضمن "ما اعتبره رجال الدين انتهاكا للإسلام".
وهنا ننقل أهم ماكتبت الصحافة العربية عنه

رحيل نجيب محفوظ (1911 – 2006)
شيخ الحدوتة المصرية يستريح من الحكاية
النهار اللبنانية
هكذا قدر الكبار، بعضهم في الأقل: أن يغادروا قبل أن يغادروا. أن يطالب الموت برؤوسهم غنائم يتباهى بها وهم بعد احياء بيننا. فموت الكبار ظاهر وفاضح وكشّاف. موتهم أكبر "دعاية" للموت.
تدين مصر لنجيب محفوظ، الذي استسلم قلبه في الأمس بعد طول عناء، بالكثير. تصريح بديهي نعم، لكنه يستحق أن نردده ونصرّ عليه غداة رحيله، وفي كل أوان. فكم وكم من بديهيات جوهرية لامرئية نغفل عنها، لفرط بداهتها بالذات، في حياتنا وثقافتنا ومجتمعنا وفكرنا وعيشنا. لا أتحدث فقط عن المساهمة الفذّة التي ضخّها هذا الكاتب الكبير في ثقافة مصر ودنيا العرب، ولا عن مفاعيل جائزة نوبل للآداب على صورة بلاده وعالمنا في العالم الأرحب، وهو الكاتب العربي الأول (الوحيد حتى الآن) الذي نالها عام 1988. لا، بل إني أتوخى مستوى من التأثير أبسط من هذا، وأقصد فضلاً، أو دوراً، أشد "بدائية" من ذاك. فكثر هم الذين مثلي عرفوا أرض الأهرام بالحدس والخيال قبل أن يعرفوها باللمس والنظر والشمّ والذوق والسمع. كثر على غراري زاروا القاهرة زاوية زاوية وعشقوها حجرا حجرا وخبروا مناخها وتحولاتها وتاريخها وديناميتها الانسانية والمجتمعية والجغرافية والسياسية، حتى قبل أن تطأها أقدامهم ويتنفسوا أهلها وغبارها وضوضاءها وعجقتها وسحرها ونيلها الأزرق. فمثلما صاغ الفراعنة أيقونة مصر القديمة، صاغ محفوظ أيقونتها الحديثة والمعاصرة. هو لم يكتف بأن يأتي بالعالم الى عاصمته، بل أخذ خصوصا عاصمته الى العالم أجمع، على بساط رواياته وقصصه وسيناريواته. كم من الأجيال غير المصرية، العربية والغربية على السواء، تربّت على حكاياته، واعتادت صحبة شخصياته، وتوغلت في ضجيج شوارع مدينته الضيقة والمكتظة بالناس، وفي أندر غراوند الطبقة الوسطى ومشكلاتها و"حدوتاتها" وتعقيداتها التي لا أول لها ولا آخر ظاهراً، ولا خيط ممسوكاً يدل عليها سوى خيطه الروائي المدهش والمتعدد الحبال؟
من "خان الخليلي" الى "زقاق المدق"، من "قصر الشوق" الى "خمارة القط الأسود"، من الـ"ثرثرة فوق النيل" الى "الحب فوق هضبة الهرم"، أخذنا نجيب محفوظ في ألف رحلة ورحلة، وعلّمنا كيف يمكن الكتابة أن تكون "مهنة" ومراساً، لا ترفاً أو نزقاً أو حاجة أو هتكاً أو تقديساً أو شغفاً فحسب. علّمنا معنى الجلوس والتعب والكدّ فوق الأوراق البيضاء حتى تبوح بمكنوناتها، ومعنى حنكة الحكاية التي تأخذ بالتلابيب رغماً عن قارئها. كأني به لا يكتب بالقلم بل بماكينة خياطة: يدرز من هنا، يقطّب من هناك، يرتق ويحوك ويطرّز ويصنع الفتنة. كأني بنا اذ نفتح أحد كتبه ذات العناوين الغامضة والغلافات المثيرة، يطلع لنا منه عالم بكامله، عالم – زوبعة "يشفطنا" شفطاً إليه. كل قارىء رواية من روايات نجيب محفوظ هو "أليس في بلاد العجائب". كل قارىء هو مخطوف، تائه في بحر بلا مرساة. لكنه ليس التيه بالضياع والهلاك، بل بالانسحار والهلوسة. لا تخدعنّكم الصيغ المتاهية بين سطوره، فهو يمسك بيد قارئه جيدا من أول الكتاب الى آخره، وإذا شعرنا أحيانا بأنه أرخى قبضته قليلاً، فإنما يفعل ذلك فقط لكي يمنحنا بعضا من متعة الكشف والغزو والتعرية والاختراع، ولكي يشعرنا، نحن المتورّطين فيه، بفضلنا على كلماته.
لا نخطىء عندما نقول إن نجيب محفوظ روائي بالمعنى الأوّلي، "الكلاسيكي"، للكلمة، أي أنه يكتب لـ"يروي" القصص ويحكيها. قصصه تعني الكائن البشري أينما كان ولأيّ مجتمع وثقافة انتمى، لأنها بقدر ما تشتغل على حماية "محليتها" وعلى تفاصيل "الخارج"، كالمكان والزمان والطبقة الاجتماعية والحيّ والظرف...الخ، تشتغل كذلك على شخصية الانسان، على مشاعره، طباعه، تناقضاته وعذاباته، اي على كل ما يؤلف النواة التي يتقاسمها بنو البشر، أكانوا من "أولاد حارتنا" أم من المقلب الآخر من الكرة الأرضية.
كان نجيب محفوظ كاتباً بالغريزة أيضا. الغزارة عنده (نشر أكثر من سبعين مؤلفا في الرواية والقصة) إن هي الا انعكاس لتلك الغريزة في ذاتها. فقد كان يكتب كمن يتنفّس، بمخيّلة لا تنضب وصبر لا ينفد. وهل يتعب قلبٌ من الخفقان؟ بالغريزة الباطنية نفسها كانت الصور تتوالد لديه، وليس غريبا ان يتحول عدد من رواياته أفلاماً، اذ كانت تلك الروايات أفلاماً جاهزة لا ينقصها سوى بُعد الحركة والصوت.
رغم "عالمية" الكائن الذي جسّده شيخ الحدوتة هذا في كتاباته، إلا أنه كان بامتياز، وفي الدرجة الأولى، صوت بلده وزمنه وشعبه وسياسته ومجتمعه. كان مسكوناً بهمّ الحاضر وحياة المواطن العادي في هذا الحاضر: تاجر الخضر وبائع الحلوى والحلاّق والمكوجي وفتى المقهى والعالمة و"الفتوّات" و"الصيّاع"...الخ. كتب معاناة هؤلاء، مشكلاتهم وتمزقهم بين الحب والكره والزواج والطلاق والدين والحكم والثأر والعار والحسد والجشع والظلم والهوان. رواياته روايات "مدينية" بامتياز، أي انها ابنة القاهرة وربيبتها. ركّز فيها على مصير الانسان "الصغير"، المسحوق تحت ثقل واقعه وتحولات بلده وتطورات زمنه. هكذا، وعلى طول القرن العشرين، كان ناطقا بإسم فئات عريضة من الشعب المصري، ناقلا، بإخلاص المؤرخ وخيانة الكاتب، الصراعات المحتدمة بين الناس والسلطة، بين الخير والشر. لهذا السبب نجد في كتبه الكثير من الثنائيات المبسّطة، حدّ أن بعضها محض كليشيهات: لكن، أليس الكليشيه القماشة الأساسية للحياة "النمطية" أو العادية؟
أظهر محفوظ قدرة فهم وسبر واستنباش بسيكولوجية حقيقية من دون فذلكة، هي أداة كل روائي متمكّن، فعرف كيف يعبّر عن غنى الشخصيات وتنوّعها وتشابكاتها بلغة بسيطة في متناول الكلّ. جمع في أعماله، بُنىً ومضامين ومحاور وأسئلة، بين التأثيرات الثقافية الغربية والعربية، علما أنه كان قارئا نهما للروايات البوليسية الأجنبية في شبابه. شبّهوه ببلزاك وديكنز وتولستوي، وقد تُرجم الى عدد كبير من اللغات، ما كان ليترجم إليها لولا الـ"نوبل" طبعا، ليس لأنه لا يستحق أن يترجم، بل لأن ماكينة الترجمة الغربية نادراً ما تلتفت الى عمل ما، بناء على "استحقاقيته"، بل هي تلهث أكثر ما تلهث وراء معايير الشهرة والرواج والقابلية لـ"التسويق".
عاتبْنا نجيب محفوظ بشدة، في "النهار"، في اوائل هذه السنة، عندما فاجأ الجميع بطلب موافقة الأزهر على إعادة نشر تحفته "أولاد حارتنا". لم نفهم موقفه يومذاك، هو المشاكس وصاحب المواقف الاجتماعية الجريئة التي لطالما كانت محط انتقاد، ولربما طُعِن بسببها، فجعلته يتأرجح في بعض محطات حياته بين التكريس والتجريح. بل ما زلنا لا نفهم موقفه العجيب ذاك، رغم تفسيرات وتأويلات لا حصر لها أعطيت له، وسيظل محفوظ حاملا هذا السرّ معه الى القبر.
كلام كثير كُتب عنكَ يا عمّ نجيب قبل موتك، وكلام كثير سيُكتب بعده، فماذا في وسعي أن ازيد، أنا التي لا يمكن ان تدّعي لقاء بك ولا معرفة شخصية، وجلّ ما يمكن أن تزعمه هو أنها قارئتك "النجيبة" وإحدى الحالمات بمحاورتك؟ لستُ هنا إلا لأرفع كأسك وأشرب نخبك فحسب.
تُراكَ ماذا تكتب الآن وأين؟ في أيّ أزقة تدور لتقطف القصص والحكايات، وفي أيّ مقهى تشرب الشاي وتقرأ جريدة الصباح؟ بأيّ صخب تتلذذ، وفي أيّ صمت يطوف ذهنك الريّان ليحصد الأفكار والأحاسيس والحقائق الانسانية من غمامات هذا العالم القليل؟
"شساعة الأحلام لي"، جملة هي آخر ما قرأته لكَ في "لو فيغارو ماغازين" (عدد 12 آب). حقاً، شساعة الأحلام لك، والحكمة لك، والخصوبة لك، والفتوّة والخيال والهاجس والحماسة. ولك خصوصا، سر الحكاية.
هكذا قدر الكبار، بعضهم في الأقل: أن يغادروا قبل أن يغادروا. أن يرحلوا ويظلوا. هو انتقامهم من الموت، وانتقام الكلمة لهم من الحياة.
جمانة حداد
رحيل نجيب محفوظ الهرم الإبداعي للرواية العربية
القاهرة - جابر عصفور الحياة - 31/08/06//
تخرج مصر صباح اليوم عن بكرة أبيها، مواطنيها ومثقفيها، يودعون نجيب محفوظ (المولود العام 1911) رمزهم الأدبي الأكبر الذي تشاركهم في تقديره الأقطار العربية كلها، والمؤسسات والتجمعات الفكرية والإبداعية على امتداد العالم، وذلك منذ أن انتزع إبداع محفوظ، للمرة الأولى في تاريخ العرب المعاصر، جائزة نوبل التي كان حصوله عليها حدثاً تاريخياً نقل موقع الأدب العربي إلى صدارة المشهد الأدبي العالمي، وفتح الأبواب المغلقة أمام نقل الأعمال الأدبية، خصوصاً الرواية، إلى لغات العالم الحية. ومن يومها تشهد حركة الترجمة الأدبية، في محافلها الدولية، إقبالاً متزايداً على الترجمة من اللغة العربية للأعمال الروائية التي كتبتها أجيال متعددة، استمر حضورها الإبداعي وتواصل، بعد أن قبست النار المقدسة التي أشعلتها أعمال محفوظ على امتداد الأرض العربية...
وكان ذلك في مسيرة استثنائية رادها عقل فذ، قادر على أن يجمع الرؤى الكونية في رموز لا نهاية لثرائها، تبهر القراء بقدرتها على أن تجعل من «الحارة المصرية» تكثيفاً مصغراً للكون، بأسراره الفيزيقية والميتافيزيقية التي لم يتوقف نجيب محفوظ عن قرعها بالسؤال تلو السؤال.
وواصل نجيب محفوظ عمله الإبداعي في نزوع صوفي، يوحّد ما بينه والكتابة، ويجعله يغوص في المحلي المفرط في محليته، والخاص الذي تتجذر خصوصيته، ليصل إلى جوهر العرق الإنساني الذي يكمن في قرارة القرار من المحلي والخاص، مشيراً إلى الكون بالحارة، وإلى رحلة الإنسان لاكتشاف الحقيقة بسعي البطل الحائر الذي لا يكف عن بحثه كي يصل إلى «الأب» في الطريق أو في الحواري والأزقة، بحثاً عن «زعبلاوي» في القصة المسماة باسمه، محاولاً التوفيق بين تمرد «عرفه» (العلم) ومباركة «الجبلاوي»، في المحاولة التي سعت إلى تجاوز الثنائية الضدية بين العلم والدين، وذلك في حيز الحارة الذي يتحول إلى فضاء كوني. ومارس أبطال «الأحلام»، آخر ما كتب محفوظ، رغبتهم في التوفيق بين الأضداد، وعبور ذلك رمزياً إلى تشكيلات حلمية تجاوز الثنائيات الصارمة لحدود العقل المنطقي والواقع العملي في الوقت نفسه.
ولم يتخل محفوظ عن إيمانه العميق والقديم بأهمية الرواية في العصر الحديث، فكان مبشراً بزمنها الواعد، وصعودها الذي لا يزال متواصلاً. ولم يكن من المصادفة أن يدخل في مناظرة، خلال الأربعينات، مع العقاد، حول الشعر الذي تعصب له العقاد بوصفه فن العربية الأكبر مقاماً ورتبة، بينما رأى محفوظ أن الرواية هي شعر الدنيا الحديثة، والتعبير الأقدر عن زمنها القادم. هكذا، ظلت رواياته تتوالى مؤكدة قدرته الرائدة على تأسيس شعرية الدنيا الحديثة بكتابة الرواية التي لم يتوقف عن الإخلاص المطلق لسردياتها المتنوعة.
والنتيجة هي ما أصبحت عليه الرواية العربية، اليوم، بفضل ريادته وإصراره وقدرته على تغيير المجرى واللحمة والسداة، فأصبحت الرواية بالفعل شعرية الدنيا الحديثة التي تتنوع أشكالها إلى ما لا نهاية، ولا تترك شيئاً إلا وتناوشه بالسؤال الذي يبدأ بأن يضع الذات في مواجهة نفسها، والكون في مواجهة الأسئلة التي تسعى إلى فتح مغالقه.
ولذلك يخرج قارئ نجيب محفوظ حائراً بعد أن يقرأ روائعه، خصوصاً تلك التي تطرح من الأسئلة أكثر مما تقدم من أجوبة، فتفتح وعي القارئ على آفاق جديدة، مقترنة بإعادة النظر في كل ما حوله، غير مغفلة آلام وطموحات الإنسان الفرد، أو الطبقة، أو المجموعة الاجتماعية الممزقة بين ما هو أعلى وما هو أدنى، والوطن الحائر بين الثنائيات (العدل/ الظلم، العلم/ الدين، الحرية والعبودية)، والإنسانية التي يبحث مبدعوها عن المثل الأعلى الذي يحقق الأمن والسلام والعدل والتقدم، كأنه «سيد سيد الرحيمي»، أو «الجبلاوي» الذي يظل - على رغم غيابه - موجوداً في كل الوجود، يحث - بدوره - على مواصلة السعي وراء المثل الأعلى الذي يبتعد كلما اقتربنا منه، وينأى كلما توهمنا الإمساك به.
هل كان طول عمر نجيب محفوظ (الذي تجاوز التسعين بسنوات) هو السبب في الثراء الكمي والكيفي المذهل لإبداعاته، والتنوع الموضوعي الذي لا نظير له لأعماله التي تجاوز الخمسين؟ حالة نجيب محفوظ الاستثنائية التي لا نظير لها، تجعلنا نقول: الفن يعطيك كله إذا أخلصت في إعطائه كلك، جاعلاً منه إبداع الدنيا الحديثة في تجددها الخلاّق الذي يسهم في نقل الإنسان من وهاد الضرورة إلى آفاق الحرية.
صلاة الجنازة في «جامع الحسين»... مركز عالمه
غيّب الموت فجر أمس، الأديب المصري العالمي نجيب محفوظ (94 عاماً) في مستشفى الشرطة في القاهرة حيث كان يعالج منذ أسابيع. وسيشيع جثمانه ظهر اليوم في جنازة عسكرية من مسجد «آل رشدان»، في حي مدينة نصر القاهري، يُرجح أن يتقدمها الرئيس حسني مبارك. غير أن صلاة الجنازة ستؤدى في «جامع الحسين»، تطبيقاً لوصية بأن يخرج جثمانه إلى مثواه الأخير من مركز عالمه الروائي قلب القاهرة التاريخية.
ويُنقل الجثمان ملفوفاً بالعلم المصري على عربة مدفع تجرها خيول، على أن يكون العزاء مساء غد الجمعة في مسجد «الحامدية الشاذلية» في حي المهندسين.
وقال مبارك في بيان أمس إن محفوظ «انحاز بقلمه لشعب مصر وتاريخه وقضاياه وعبر بإبداعه عن القيم المشتركة للانسانية ونشر بكتاباته قيم التنوير والتسامح النابذة للغلو والتطرف، وكان حصوله على جائزة نوبل للآداب اعترافا بإسهام الفكر العربي فى حضارة الانسانية وتراثها المعاصر». ووصف محفوظ بأنه «علم من أعلام الفكر والثقافة، وروائي فذ ومفكر مستنير وقلم مبدع وكاتب خرج بالثقافة العربية وآدابها الى العالمية».
ونعى عدد كبير من زعماء العالم الأديب الراحل، ففي باريس عبّر الرئيس الفرنسي جاك شيراك عن تأثره الكبير لوفاة محفوظ، ووصفه بـ «الشخصية العظيمة في حقل الأدب العالمي ورجل سلام وتسامح وحوار». وقال في بيان وزعه أمس قصر الاليزيه ان محفوظ تناول في أعماله «المجتمع المصري برقة وواقعية»، مشيراً الى انه «الكاتب العربي الأول الذي حاز جائزة نوبل للأدب، وأنه أضفى على الأدب المصري شهرة عالمية».
وأعلن البيت الابيض أن الرئيس جورج بوش «شعر بحزن كبير» لنبأ وفاة محفوظ الذي «نقل الى العالم غنى» الثقافة المصرية. وقال بوش في بيان إن «مؤلفات هذا الروائي العظيم تغوص في اعماق حياة المصريين والبشرية أجمع (...) مؤلفاته ستطلع اجيالاً من الاميركيين والقراء في العالم بأسره على مصر التي كان يحبها». ونقل البيان عن بوش وزوجته لورا تعازيهما إلى «الشعب المصري وعائلة محفوظ واصدقائه باسم الشعب الاميركي، بعد رحيل روائي عظيم كشف للعالم غنى مجتمع مصر وتاريخها».
ووجه العاهل الاردني الملك عبدالله الثاني برقيتي تعزية إلى مبارك وأسرة محفوظ، نعى فيهما «أحد ابرز اعمدة الادب العربي». وبعث الرئيس التونسي زين العابدين بن علي برقية تعزية الى نظيره المصري، أشاد فيها بما حققه الاديب الكبير للثقافة العربية.
رحيل مريح
أمينة خيري الحياة - 31/08/06//
بعد دقائق من إعلان نبأ الوفاة، كانت الغالبية العظمى من الفضائيات العربية جاهزة بكامل عدتها: شهادات الأدباء والمثقفين، أفلام توثيقية، ونماذج من أشهر الأعمال.
إذاً... على رغم فداحة الخسارة برحيل الأديب الكبير الحائز جائزة نوبل نجيب محفوظ، إلا أن رحيله كان «مريحاً» بالنسبة الى الفضائيات.
ففي الوعكات الصحية السابقة التي كانت ألمت بالأديب الكبير خلال العقد السابق، كان بعض الفضائيات يبدأ على استحياء في جمع المادة الإعلامية المطلوبة عن مشوار الرجل وحياته الحافلة بالأحداث والأعمال تحسباً لأي «مفاجآت». وفي كل مرة كانت «المفاجأة» ان المفاجأة لم تحدث. لكن في المرة الأخيرة هذه راحت كل الدلائل والمؤشرات تعطي «ضوءاً أخضر» للإسراع في التجهيز للحدث.
فقد بلغ محفوظ الخامسة والتسعين من العمر، وأدخل المستشفى وخرجت البيانات الطبية الخاصة بحالته مقتضبة، ولكن موحية: «الحالة حرجة ولكن مستقرة»، «تحسن طفيف في الحالة مع استمرار الخطورة»، وأخيراً «حالة محفوظ مستقرة ولا داعي لسفره الى الخارج».
في هذا الوقت، نشطت حركة الاتصالات الهاتفية في كواليس مكاتب الفضائيات في القاهرة، الجميع يبحث عن أرقام هواتف المقربين من الكاتب الكبير ويتبادلها، وحدات المعلومات والتقارير تعد السيرة الذاتية والمحطات الرئيسية في حياته الشخصية والمهنية، قسم الأرشيف يتأكد من حالة شريط حفل تسليم جائزة نوبل في الآداب لابنتيه فاطمة وأم كلثوم في استوكهولم عام 1988.
وعلى رغم هذه التحركات المتخفية بعيداً من أعين المشاهدين، تجرأت الصحافة المكتوبة وبدأت قبل نحو عشرة ايام من وفاته في نشر محطات من رحلة الأديب الكبير على صفحاتها، ربما تحسباً لحدوث المكروه ليلاً وفي ساعات الصباح المبكرة في وقت لن تلحق فيه بركب إعلان الخبر والسير في موكب أصحاب السبق الخبري.
وبالفعل رحل محفوظ وبعد دقائق لا تتجاوز اليد الواحدة حشدت الفضائيات المصرية والعربية كل ما جهزته في الأيام السابقة فبدأ الجميع وكأن حالة الاستعداد القصوى معلنة دائماً.
رحم الله نجيب محفوظ وكان في عون العاملين في الفضائيات المضطرين الى تجهيز رثاء البشر ونعيهم قبل رحيلهم.
حرافيش محفوظ في ذمة التاريخ

*‏ كان للحرافيش وزن خاص في حياته‏,‏ إذ تكونت الشلة في بداية الأربعينيات لتضم مجموعة من المثقفين الشبان أصحاب المشاريع الثقافية والفكرية الواعدة‏,‏ وكانت شلة لم يكن لها أي توجهات سياسية‏,‏ وكانت تجتمع كل خميس في منزل أحد أفرادها‏,‏ ضمت الحرافيش التي كانت طوال الوقت قادرة علي التطور والحياة‏:‏ عادل كامل وعلي أحمد باكثير ويوسف جوهر ومحمد عفيفي والفنان أحمد مظهر وأحمد زكي مخلوف وعاصم حلمي‏,‏ بدأت لقاءات الحرافيش أولا علي النيل وفي شوارع القاهرة ومقاهيها‏,‏ ثم بيت محمد عفيفي في الهرم‏,‏ وبعد وفاته انتقلت الي بيت عادل كامل‏,‏ انضم الي الحرافيش لاحقا صلاح جاهين وتوفيق صالح ثم بهجت عثمان‏,‏ ويعترف محفوظ بأن الحرافيش أو الصداقة عموما والتزاماتها لم تعطله يوما عن الكتابة أو القراءة‏,‏ لأن محفوظ أعطي الشلة المساحة الزمنية التي أرادها كل أسبوع في اطار مخطط شامل التزم به طوال حياته‏..‏ الوظيفية حتي خروجه الي المعاش والانتظام في القراءة والكتابة طوال أيام الأسبوع ماعدا الخميس والجمعة‏..‏ كان الخميس مخصصا للحرافيش التي ينضم إليها اعضاؤها وهي لا تقبل أعضاء جددا إلا بصعوبة‏..‏ بينما خصص كل يوم جمعة للقاء دائرة أوسع من الأصدقاء والأدباء والصحفيين‏,‏ كانوا يلتقون أولا في كازينو صفية حلمي في ميدان الأوبرا‏,‏ ثم مقهي ريش‏,‏ وقبيل جائزة نوبل‏88‏ بسنوات انتقلوا الي كازينو قصر النيل‏,‏ وهو اللقاء الأسبوعي الذي انتشر الي خمسة لقاءات أسبوعية عبر كل أيام الأسبوع ماعدا السبت‏(‏ مخصص للأسرة‏)‏ والخميس‏(‏ للحرافيش‏)‏
محمد الشاذلي ‏/ الأهرام القاهرية
وداعاً نجيب محفوظ .. راوي مصر وقمة الرواية العربية
عباس بيضون / السفير
طال عمر نجيب محفوظ واذا كان عمر المرء يقاس بما أثمره، فإن عمر نجيب محفوظ أطول من ذلك بكثير. لقد أنجز مكتبة كاملة وظل يكتب إلى أن شحّ بصره فاستبدل الكتابة بالإملاء وكان من روائع ما أملأ سيرته الذاتية وأحلامه. واذا كان نجيب محفوظ حاضرا في شيء فهو كتبه، الأرجح أنه آثر ان يعيش على هامشها، وان يكون في نهاية الأمر كائنا من حبر وورق وحروف. ليست حياة محفوظ دهليزا ولا سرا غائرا. ظل يقول انها حياة موظف لا حياة كاتب، انها دوام ونظام واجتماعات عائلية واصدقاء طفولة وكتابة. قد تكون حياته اغنى من ذلك كما يلمح آخرون لكن الرجل شاء ان يبعدها عن العيون، وان لا يكون بين القارئ وبين كتابه اي واسطة، وحسنا فعل فإن التشخيص والتجسس على المؤلف والنمذجة البطولية هي ما يتواطأ عليه القارئ والكاتب عندنا. نجيب محفوظ، إذن هو كتابه، وهذا الكتاب يطل عليه ويصفه لنا. يتطوع كثيرون للحديث عن لاعب الكرة القديم ولاعب <القافية> وابن الحارة المصرية وذي الحياة السرية والوفدي والمتفلسف، لكن كل هذا لا يساوي الصورة التي تستنتجها من كتبه. يتراءى ان حياة محفوظ الاغنى والأكثر صدامية موجودة فيها. في هذه الروايات نجد فلسفة وسياسة وتجربة ومواقف نجيب محفوظ. ليس لنجيب محفوظ فلسفة متكاملة ولا تبني الروايات نظما فلسفية على كل حال لكن له مزاجا فلسفيا ومقاربة فلسفية. فالأرجح ان روايات محفوظ، اذا اخذنا ثلاثيته مثلا، تصور التكون الصعب وشبه المأسوي للفرد العربي، كما تصور البحث المضني عن المكان المفقود التاريخي والأنطولوجي والسياسي للعربي المعاصر، كما تصور البناء التأسيسي وشبه العبثي احيانا للمدينة والتاريخ والمجتمع. رواية محفوظ هي رواية هذا التأسيس وهي بالتأكيد ملحمته ولوحة احتدامه وغلياناته التي تنتهي غالبا بأن تأكل نفسها او تتطاحن بلا نتيجة.
لم يقدم نجيب محفوظ نفسه كمناضل من اي نوع، غير انه لم ينحن كفرد لأي نظام وإن يكن تجنب العاصفة. روايات نجيب محفوظ ليست في احتياط نجيب محفوظ وربما حماها بسكوته الشخصي. ما تقوله هذه الروايات بلغة روائية، لا تتساهل في هذه الناحية، نقد عميق وداخلي لخيانة النظم العسكرية التي هي ايضا خيانة طبقية وايديولوجية قدر ما هي افتضاح ثقافة فوقية طنانة. يذهب دارسو محفوظ الى التشديد على تاريخانيته، أي ايمانه بالتاريخ واتكاله عليه ورده العالم والاشياء اليه. والحق ان روايات نجيب محفوظ، عدا عن انها روايات افراد في صراعهم مع شروطهم التاريخية، فإن التاريخ عند محفوظ خال من اي مهدوية او خلاصية. انه مليء بالعكس بالسخرية التي يتقنها محفوظ وبقدرية تشارف العبث او اليأس. طالما عثرنا في روايات محفوظ على الدرويش او الصوفي الذي يتكلم بلغة إشارية احتمالية ناظرة للمستقبل، لنقل ان دراويش محفوظ كانوا غالبا صورة لليأس من اي مهدوية ووقوع التاريخ في عجز نفسه. بدا في وقت بأن رواية نجيب محفوظ هي رواية التأسيس المديني وان الزمن تجاوزها بقدر ما تجاوز هذا التأسيس. اشتبه نقاده وروائيو ما بعد جيله في ان أفراده لا يقولون كلمتهم الخاصة وانهم في حربهم مع ظروفهم يتركون الكلمة الأخيرة لها. لا نشك ان نجيب محفوظ ما كان ليترك للنفس الانسانية ان تنطلق في اغنية غير محدودة، ما كان ليؤمن بعجائب اللاوعي ولا طوفان الشعر الداخلي. رؤيته مليئة بالسخرية والنقد واليأس الصلب. واقعيته اذا جازت التسمية هي واقعية التحولات المسخية والتشوهات التدريجية والخيانة الاصلية (على غرار الخطيئة الاصلية) وكل هذا لا يقال الا بوضوح كامل وعصابي ايضا وبفم مليء بالشكوك وبمحاكمة شبه منطقية. كانت صورة العالم الواضحة المليئة بالزوايا الحادة وبالكتل الصريحة اكثر معاصرة لدى نجيب محفوظ منها لدى كثيرين من منتقديه الروائيين الذين مال بعضهم من حيث يدري ولا يدري الى ريفية كامنة والى نوستالجيا أثرية والى غناء هوية والى تاريخانية خلاصية ومهدوية. والآن وقد اكتمل الاثر المحفوظي وبعد ان زالت ثورات لم يترك بعضها الا الزبد فإن الاثر المحفوظي اكثر ما يكون شبها بنا. واذا جاز للمثقفين مثلا ان يبحثوا عن عارهم الخاص وتاريخهم الفعلي الذي تنكبوا عن ان يكتبوه فعلا فسيرونه في <ثرثرة فوق النيل> و<اللص والكلاب> اكثر مما يجدونه في روايات اكثر شبابا.
نجيب محفوظ مؤسس. ليس قطعا فحسب في الرواية العربية، بل هو الاول في ما ندعوه الرواية العربية المعاصرة. ليس مؤسسا فحسب بل هو صانع هذه الرواية وواضع هذا النوع الذي نسميه الرواية العربية، انها في الواقع لحظة تأسيس تاريخية اجتماعية ايضا. رواية محفوظ تحمل لحظة تبلور المدينة المصرية المعاصرة، صنع محفوظ المقابل الروائي لهذه اللحظة المركبة. لقد وجد النص الروائي، اعطاه اولوية وجعله نهاية في ذاته. لقد خلص النص الروائي من شوائب مراحل وزيادات لاحقة واختلاطات لسواه. خلصه من الشعر الكاذب والتفنن البلاغي والانشاء والنوستالجيا الريفية والمسخ العاطفي والافكار المسبقة والمثالات الضمنية والانحيازات اللاحقة. بدا النص الروائي لذلك صارما حديديا محايدا وشبه لا شخصي، واذا اضفنا قلنا قاسياً وواضحاً. لقد جعل محفوظ الأفكار والمشاعر والشطحات والفيوضات الداخلية لعبة النص الروائي. انها في الغالب ادوار سرعان ما تنتهي الى غايتها وتستهلك نفسها فيه. وُجد الكاتب الذي لا يسلم نصه لأي رهان، الرواية تستنفد كل شيء وتحيله ركاما. الرواية اي اللعبة، اي البناء، اي الميزان والحركة هي الغاية وكل ما فيها تابع لها وليس شيئا سوى مادتها وجبلتها. اخترع نجيب محفوظ الرواية العربية وكان من الدهاء بحيث أمّن لها ان لا يطيح بها حاجز
ايديولوجي او نفسي او أدبي. مع ذلك فإن لنجيب محفوظ رؤية القاع. التهافت والتخلع والانحطاط والخيانة هي الواقع بالنسبة لنجيب محفوظ. انه واقع يتفاعل نزولا وفي تكشف تدريجي لقاعه. من هنا رتابة العالم المحفوظي. انه لا يجد باهرا ولا قفزة حقيقية ولا ابتكارا فعليا في هذا التحول. من هنا فانتازياه الضمنية. من هنا تشاؤم عقلي يجعل محفوظ شبيها من بعيد بسويفت ورابليه، تشاؤم لا يملؤه سوى ذكاء لمّاح لم يعوز نجيب محفوظ وسخرية لاذعة كانت سلاحه الخفي.
بدا نجيب محفوظ وكأنه بين أدبائنا الوحيد الذي يملك نموذجا، لم يكن خاصا لكنه كان متكاملا. كان يمكن ان نقارن نجيب محفوظ ببلزاك، والقول أنه لم يمر بالتأكيد بجويس وفوكز وبروست. لقد تأخر هنا لكنها كانت المسافة ذاتها التي يبدأ منها كل تحديث عربي. مع ذلك فإن المسألة لا تقاس هكذا. لم يكن نجيب محفوظ مستخفا بالشكل الروائي، في الواقع لحق بداريل من دون افراط في ميرامار ولحق بتيار الوعي في <الشحاذ> وغيره. هذه المحاكاة لم تخدم الاثر الروائي المحفوظي ولم تبد لازمة له وان دلت على ديناميته. الآن وقد غدت المغامرة الشكلية هذه في تاريخ الرواية وانطوت في العملية الروائية من دون ان تكون شرطا، الآن يبدو البناء الكلاسيكي المحفوظي اقل قدما. بل يبدو ان العالم الذي يقدمه هو الذي يميز شكله. عالم مقابل بالتأكيد للارتطامات العمياء والدورانية للتاريخ المصري المعاصر ولتاريخنا الحديث كله. عالم اللامكان واللا إسم واللا هوية واللا موقع، عالم البحث عن مكان مفقود والخوض في صراعات زائفة والعودة القدرية الى بدء مستأنف. هذا العالم هو الذي يحدد الشكل المحفوظي الصارم الذي أقام بناء الرواية العربية وكان ثقيلا أحيانا، لدرجة ان أساليب واشكالات عدة خرجت من تصدعاته.
يبدو الأثر المحفوظي متسلسلاً متداخلاً كدوائر الماء وحارات الملك. إنه يكسب في تواتره هندسة مدينية. بل هو نوع من قاهرة مكتوبة فإذا أخذنا الأثر في مجموعة بدا في تواتره ذا مسحة شرقية. بل بدا رغم بنائه الكلاسيكي متصلاً اتصال ألف ليلة وليلة، ألف ليلة وليلة سوداء، تحولاتها بطيئة لكن ماسخة ومهلكة وذات طابع انحداري.
حاز نجيب محفوظ جائزة نوبل له شخصيا وللثقافة العربية وللظروف التي أحاطت بالعالم العربي يومذاك، هكذا يحدث كل مرة لدى منح نوبل. بعض مواقف محفوظ من الصراع العربي الاسرائيلي اعجبت ولم تعجب، لكنها كانت في سياق موقف علماني تحديثي، استحق عليه سكينا في رقبته. لم يسافر لاستلام الجائزة وأوكل ابنته بذلك بدلا عنه. لم يسافر محفوظ الا مرة واحدة مرغما الى اليمن بتكليف من عبد الناصر. لقد نجح وفرض نفسه قمة للأدب العربي بأدبه وحده. من دون سلطة ولا علاقات عامة اعطى نجيب المثل بأن احترام الأدب هو ايضا احترام للذات والتزام بالحرية. بهذا الأدب كان معارضا وناقدا صلبا وواعيا للغاية، وبهذا الأدب كان ايضا قويا بحيث تجنبته شرطة الأدب وحادت عنه. لقد جعل من أدبه سلطة فعلية واليوم نرى موته وكأن امبراطورية هوت والفراغ، الذي يتركه لا يتركه سوى قلائل.











تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow