Alef Logo
المرصد الصحفي
              

البئر المهجورة!

أمجد ناصر

2009-10-30

قرأتُ، مرةً، حواشي كتبٍ قديمة وما سطَّره، أو شدَّد عليه، العابرون قبلي على صفحات حالت ألوانها واصفرَّت، أو فاحت منها رائحة حيوات سابقة لا أدري ماذا صنعت بها الأيام. الآن أقلب، بلا سببٍ واضحٍ، العدد الثاني من مجلة 'شعر' (ربيع 1957) فطالعتني أسماء كثيرة. بعضها صار علماً في حياتنا الثقافية وصنع انعطافة في قضية تجديد الشعر العربي، وبعضها طواه النسيان. لا أدري كيف وصل إليَّ هذا العدد. مَنْ هو مقتنيه السابق. لعله نجا، بين كتب قليلة، من تنقل المنازل والقلوب.
يبلغ هذا العدد، من تلك المجلة ذائعة الصيت، عمري تقريباً بما فيه من صبوات وانكسارات، وينطوي، أيضاً، على عمر تلك الحداثة التي تصدى لعبئها شبان لبنانيون وسوريون وعراقيون ومصريون وفلسطينيون، جاء بعضهم من جامعات الغرب وطلع آخرون من الدساكر والأرياف فتواضعوا على حلم أكبر من أعمارهم وأكثر خفَّة من زمن مثقل بميراث القرون. سأتوقف، مرة عند محتوى العدد ومرة أخرى عند فهرسه.
يستهل يوسف الخال العدد بقصيدته الشهيرة 'البئر المهجورة' التي كتبها، كما هو مؤرَّخ في نهايتها، في 3/3/57، أي مباشرة قبل صدور هذا العدد، الذي ضم اعلانات تجارية، وأخباراً أدبية متفرقة من العالم العربي.
يخطر ببال من يطالع هذا العدد من مجلة 'شعر' سؤال بقاء الكتابة، وزوال أثرها، الأسماء التي اشتهرت، أو تواجدت في لحظة تاريخية معينة، ثم تغمّدها النسيان، التقادم الذي يطرأ على العمل الابداعي ويجفو به عن ذوق زمن آخر (قادم، لا محالة!).
تغريني قصيدة يوسف الخال الشهيرة (في حينها) بوقفة قصيرة، وها هو مطلعها:
عرفتُ ابراهيمَ، جاري العزيز من زمان،
عرفته بئراً يفيض ماؤها وسائرُ البشرْ
تمرُّ لا تشربُ منها لا ولا ترمي بها،
ترمي بها حجر.
هناك شيء اسمه التقادم، وهذا قانون يطال، تقريباً، كل شيء، يسري في عروق البشر، كما يسري في المادة، مثلما يتفشى في نسغ القصائد، ويلفح وجه الحجر بهباء الأيام الآفلة.
واضح أن يوسف الخال أراد أن يستخدم أقرب الألفاظ والمعاني المتداولة في الحياة اليومية والأمثال الشعبية السائرة في قصيدته. استخدامه كلمات مثل 'جار'، 'عزيز'، 'من زمان'، يعبر عن جرأة في محاولة زج القصيدة في ما يمكن أن نسميه 'اللغة اليومية'. هذا وعيٌ سيتطور عند الخال حتى يصل في أواخر أيامه الى اطلاق دعوته الشهيرة باستخدام اللغة المحكية في الكتابة الشعرية باعتبارها لغة الحياة والناس، فيما الفصحى لغة متعالية، إن لم نقل لغة ميتة تتمدد، باسترخاء الجثة، في قبرها التاريخي.
لن أناقش دعوى يوسف الخال لاستخدام اللغة المحكية، أو اللغة الوسطى بين العامية والفصحى، فقد تكفلت الكتابة الشعرية العربية (حتى الآن) بالرد عليها، ولكن ما أود الوقوف عنده، سريعاً، هو تداخل الوعي النظري المسبق في العمل الابداعي.
يبدو أن يوسف الخال بمحاولته زج القصيدة في 'اليومي' واستخدام معجمه ومجازاته قد نجح في الدعاوى ولم ينجح في الشعر. أي أن بيان القصيدة هو الذي نجح وليس شعرها. فدعواه، أو بيانه، كان، في رأيي، ناقصاً، فقد أعاق الوزن (أو ضعف الموهبة في السيطرة على الوزن) تدفق القصيدة، وجعلها تتلكأ في مقطعها الأول، وإن كان يوسف الخال، سيحاول، في حيلة شعرية يعرفها الضالعون بالشعر، استخدام هذا المقطع كلازمة، غير أن هذا لا يحول دون تبدد احساس من يقرأها بالعسر: فتكراره لـ 'لا' النافية مرتين، وتكراره لـ 'ترمي بها' مرتين من أجل أن يصل الى ما يريد: 'حجر'، يضعنا أمام احتمالين: إعاقة الوزن لتدفق المعنى واكتماله، أو ضعف أدوات الشاعر.
ما أردت قوله بـ 'نقصان' دعاوى يوسف الخال يتعلق بـ 'انزاله' اللغة من برجها العاجي ولكن مع ابقائه على الوزن، في اللحظة نفسها التي تحتضن فيها المجلة دعوى أكثر راديكالية من ذلك: قصيدة النثر.
' ' '
يحفل عدد مجلة 'شعر' الثاني بأسماء عديدة نذكر منها كما ورد في فهرسها: خليل حاوي، شفيق المعلوف، بدر شاكر السياب، ثريا ملحس، جورج جحا، نزار قباني، جورج صيدح، فدوى طوقان، رزق فرج رزق، ادفيك شيبوب، صلاح ستيتية، نذير العظمة، عزيزة هارون، فؤاد رفقة، جبرا ابراهيم جبرا، أدونيس، خزامى صبري (خالدة سعيد)، أنسي الحاج، أسعد رزق، ابراهيم شكر الله.
هذه أسماء نعرف بعضها، فهم نجوم شعرنا ونقدنا، ولا نعرف بعضها الآخر، رغم أنهم كانوا معروفين في لحظتهم. فمن الذي بقي على 'قيد الشعر' من هؤلاء، ومَنْ تحول إلى غيره وبرع فيه؟
والسؤال عن البقاء على 'قيد الشعر' لا يعنــــي تواصـــل الكتابة فقط، بل تحوّل تلك الكتابة، إلى اسهام ريادي أيضاً. هناك أربعة أو خمسة أسماء هم رواد فعليون لما نسميه الحداثة الشعرية العربية والباقون لعبوا دور 'السنيد'، وهذا، على ما يبدو، حال أي مرحلة شعرية. كثيرون يمشون في الطريق وقليلون هم الذين يصلون.. أو يبلغون تلك المنطقة التي تتحول فيها أعمالهم أحجار أساس في البناء الشعري.
ومع ذلك فإن دور اولئك الذين يمشون خطوات، قد تطول أو تقصر، لا يقل أهمية، في نظري، عن الذين يصلون، فمن دونهم لا تكون الحركة حركة ولا المسيرة مسيرة.
' ' '
لفت نظري في هذا العدد، غير الاعلان التجاري لطيران الشرق الاوسط اللبناني إلى الأراضي المقدسة (فلسطين) وما له من دلالة اليوم، ثلاث قصائد لثلاثة من أبرز الشعراء العرب في القرن العشرين: قصيدة 'النهر والموت' للسياب التي على قصرها تعد واحدة من أهم قصائده، يقول مطلعها:
'بُويَْبْ
بُوَيبْ.
أجراس برج ضاع في قرارة البحر.
الماء في الجرار، والغروب في الشجر
وتنضحُ الجرارُ أجراساً من المطر'.
ثم 'سمعته وفمه حجارة' لأدونيس، وأهميتها عندي، انها تحمل البصمة الكاملة للشخصية الأدونيسية المولعة، بالتغيير والتفجير (أغيِّر الحياة (...) أغيِّر التغيرا)، والثالثة لنزار قباني عنوانها 'شؤون صغيرة' أدهشني مطلعها:
'شؤون صغيرة..
تمرّ بها أنت دون التفاتِ
تساوي حياتي،
جميع حياتي'...
فقد ظننت، وأنا أقرأ العنوان والمطلع، أنه يتحدث عما نسميه، الآن، تفاصيل الحياة اليومية .. الى أن يصل نزار الى هذا المقطع الذي يحمل، أيضاً، البصمة القبانية الكاملة في خصوص المرأة:
'فحين تدخن أجثو أمامك
كقطتك الطيبة
وكلي أمان
ألاحقُ مزهوة معجبة
خيوط الدخان!!'.
ما أدهشني أكثر هو أن المرأة في القصيدة التي تستعير كتاباً من صديقها (حبيبها) تبحث، كما فعلتُ في مقالتي 'قراءة الحواشي'، عما تركه القارئ السابق من آثار مرور عفوية أو مقصودة على صفحات الكتاب!
وها أنذا، من دون قصد أو تخطيط مسبق، أعود إلى تلك الجملة التي خطتها يد عاشقة في آخر صفحة من رواية لاتينية كانت وراء 'قراءة الحواشي' وآثار العبور ظلت، تطنُّ، في فراغ المسكوت عنه!
جريدة القدس العربي




تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نصوص قصيرة

29-كانون الأول-2018

أربع قصائد نثر

22-كانون الأول-2018

إن كنت عابراً في روما

15-كانون الأول-2018

بذاءة.. وبلاهة وماذا بعد؟

21-أيلول-2012

عاجل عاجل للمعارضة السورية

04-آذار-2012

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow