Alef Logo
الآن هنا
              

هل ستصبح القومية إرثاً من الماضي؟

نضال نعيسة

2006-10-07

لعل أبرز ما يميز المجتمعات الحديثة هو تلك التعددية، وذاك الاندماج الكبير، والتزاوج، والتداخل بين الشعوب، والأمم، والبشر، والقوميات، في ظل سقوط جميع الحواجز والجدران التقليدية. وتبرز الانسيابية الكبيرة، والتوحد القائم على مصالح سياسية، واقتصادية كإحدى أهم سمات المجتمعات الحديثة لا بل تتقدم في كثير من الأحيان المصالح الاقتصادية على المصالح الوطنية، والقومية، ولعل الوحدة الأوروبية خير دليل على ذلك حيث ترك الجميع قومياتهم وأصولهم العرقية أمام الجنسية الأوروبية الموحدة التي تجمعهم تحت علمها، ويجدون فيها الخير والأمان.
والعالم يشهد اليوم أكبر عملية تواصل، وتقارب في تاريخ البشرية. هذا التواصل الذي يُمكـّنك أن تفطر في دمشق، وتتناول طعام الغذاء في فرانكفورت، وتنام في نيويورك قاطعاً آلاف الأميال، دون أن تخطو خطوة واحدة سيراً على الأقدام. إن سهولة التنقل، والتواصل بين الدول، أوجد تلك الحالة من القابلية للتأقلم، والألفة، والاطلاع على ثقافات وعادات الشعوب الأخرى، التي لم تعد شيئاً غريباً البتة، وكما كان عليه الحال قبل عقود قليلة من الزمان. كما أن وسائل الإعلام الحديثة جعلت من اليسير التعرف، والاطلاع على كل ما يدور في العالم من حولنا من أحداث، بما يخلق تلك الحالة من الشعور الجمعي العام، الذي يتجاوز الحدود المحلية، وربما يجعل الهم المحلي مؤخراً، وفي مرحلة دنيا أمام الهم الأممي الأوسع العام. فنرى مثلاً أن هناك اهتماماً عالمياً عاماً، وربما يكاد يكون شعبياً، في بعض القضايا، كالحروب، والمجاعات، والبيئة، والتسلح النووي، والتسخين الحراري. فيمكن أن يتناول هذا الموضوع، مثلاً، في ذات اللحظة تلفزيون في جنوب أفريقيا، وجريدة في ماليزيا، وراديو في القوقاز.
كما أن الظروف الاقتصادية، والهوة الحضارية، والمدنية، والإدارية العميقة بين الشمال والجنوب، دفعت بالملايين من البشر للهجرة، باتجاه الدول الغربية المزدهرة، والعالم المتحضر، متخلـِّين عن هوياتهم، وثقافتهم، وأرض أجدادهم في سبيل لقمة العيش، والوفرة، والاستقرار الاجتماعي، والأمان الجماعي. هذا، وبالرغم من صعوبة الاندماج لدى بعض الأقليات في المرحلة الأولى من الهجرة، فإن الجيل الثاني، والثالث، من أبناء أولئك المهاجرين، قد لا يكون على أية دراية بهويته الأصلية، وربما لا يريدها في بعض الحالات. وبرغم حصول حالات من العودة الفردية هنا، وهناك إلى أرض الأجداد، فإن فئات واسعة من هؤلاء المهاجرين، لا تريد، بل ترفض العودة إلى مهد آبائها بسب ارتباط ذلك بتاريخ من القمع، والاستبداد، والفقر، وسو الحال، وانعدام الفرص لحياة حرة وكريمة، واستئثار النخب السياسية، والاقتصادية بكل مفاتيح المال، والشهرة، والجاه. ومن هنا يعيش كثير من هؤلاء المهاجرين بين خيارات مؤلمة، وحاسمة، ولا بديل عنها. فإما الاندماج، بكل ما يعنيه من تخلٍ تدريجي، شاؤوا أم أبوا، عن الكثير من التقاليد والعادات، والأعراف، ومن ثم ضياع الهوية الوطنية والقومية، وإما العودة بكل ما تعنيه من إياب للمربع الأول، ونقطة الانطلاق من الفاقة، والقلة، والإملاق، وشظف الحياة.
ولقد ولدت هذه الحالة نوعاُ من الضياع الاجتماعي والثقافي للجيل الأول من أبناء المهاجرين، برزت عندها الرغبة بالاندماج كحل بديل لهذه المعاناة. ولعل زيارة واحدة لأي من عواصم العالم الأول تبرز تلك الحالة الفسيفسائية التي أصبحت عليها هذه المجتمعات، وتبدو عليها هذه الدول في ظل الهجرات الكثيفة، والكثيرة التي حصلت بها، بحيث صار من الصعب تحديد هوية عامة غالبة تطبع معظم هذه المدن التي غصت بكل ما هب ودب من هذه القارة، أو تلك، أو هذه الجنسية، والعرقية، والقومية التي لا مجال لأن تبرز أمام طوفان، وتعدد القوميات الأخرى، وأصبحت مجرد الإشارة لقوم أو عرق أو جنس جريمة بحد ذاتها لا يقدر على تبعاتها القانونية أي كان. ولقد أصبحت بعض الدعوات القومية، ولاسيما في أوروبا، التي عانت الأمريّن من هذا الوباء الفكري، والآفة الإنسانية الجرباء، مدعاة للخوف، والفزع، والتوجس، ولاسيما تلك التصفيات، والحروب الدموية التي قامت على أساس قومي مؤخراً كما حصل في البلقان، حيث أرادت قومية ما فرض وصايتها، وثقافاتها على قوميات أخرى، وانتهت الحال على ما انتهت عليه من كوارث، وويلات،وبلاء. كل ذلك بسبب النزعات القومية المتطرفة الرعناء لبعض الشوفينيين القوميين المرضى بهذا الوباء العنصري. فهل نحن في الطريق نحو الدولة اللاقومية مستقبلاً التي تضع العلمانية، كخيار بديل، وأوحد، عنواناً ًلها في ظل هذا الانفتاح العولمي الكبير الذي يجتاح العالم من أقصاه إلى أقصاه؟

من كل ما تقدم يصعب القول أن هناك مجتمعاً خالصاً، وعرقاً صافياً، وفرقة ناجية، وطائفة نقية، وسلالة نبيلة، إلا في تلك المجتمعات المغلقة، والتي ترفض الانفتاح، والاندماج والتعايش مع الناس. وإن الدول التي ترفض إجراء عمليات تجنيس، وحل الكثير من هذه الملفات الشائكة،"مشاكل البدون مثلاً في الخليج"، ومشاكل بعض المهاجرين، والأقليات في الغرب، ستجد نفسها أمام قنابل، وألغام ديموغرافية مستقبلاً قد تأتي على الكيان الوطني برمته، إضافة لتلك المعضلة السكانية المتنامية والتي تتجلى بتلك الأعداد الهائلة من العمالة الأسيوية التي من المستحيل التعامل معها، واقتلاعها من هذه المجتمعات، وصار هناك منها جيل ثان، وربما ثالث لا يعرف شيئاً عن أصله وفصله، وأرض آبائه، وأجداده. وستضطر تلك الدول، التي تكابر حالياً، وتخفي هذه المسألة العويصة، أن تتنازل أمام قوة الضغط الديمغرافي الهائلة تلك، لإيجاد حل مناسب لهذه القضية الحساسة التي تتناقض كلياً مع مفهوم الوطنية والقومية. ومن هنا لن يمكنها الادعاء، بعد ذلك، وكما كانت تفعل سابقاً، بتلك الدعاوي القبلية، والشعبوية، والعشائرية، والفئوية الضيقة، القائمة على صفاء السلالات، وبقاء النوع، بل ستتحلل ديموغرافياً، حتى تلك المجتمعات الرعوية الأبوية وتضيع في ظل هذا الانفجار والانفتاح العولمي الكبير. ويكاد من الصعوبة بمكان، حالياً، إيجاد أية دولة من دول العالم المندمج، والمنفتح حالياً لا تحتوي على خليط إثني، وعرقي، وديني متعدد، وهو بالمناسبة مظهر حضاري تتباهى به كثير من الدول حالياً، وبالكاد يمكن إجراء عمليات فرز واضحة لهذه القومية أو تلك، اللهم إلا في أدغال أفريقيا، والأمازون، حيث لم تلج شمس العولمة والانفتاح بعد، ولم تمتد لها يد الحضارة المباركة. ويعزز هذا الوضع المتنامي من التحولات الاجتماعية، والديموغرافية الاتجاه نحو قوانين أكثر انفتاحاً، ومرونة، تراعي هذا الوضع الجديد.

من هنا تبرز العلمانية، وبالرغم، أيضاً، من بروز يائس، وأخير لبعض التيارات الشوفينية واليمينية القومية المتشددة، كخيار أوحد يستظل الجميع بظله. هذا الخيار الذي يراعي حرمة الأفراد والجماعات أيا كانت انتماءاتهم، ومنبتهم، ويحرّم التمييز، والتفرقة العنصرية، والعصبوية، والشوفينية، والشعبوية، والدعوات القومية بكل أشكالها، وأصنافها المعروفة، والتي جرّت على البشرية الحروب، والكوارث،والويلات. ويتيح للجميع التعايش والتفاهم، والمساواة تحت مظلة هذا القانون الإنساني النبيل الذي لا يفضّل قوماً على قوم، ولا عرق على عرق، ولا قبيلة على قبيلة، ولا فخيذة على فخيذة، ولا دين على دين.


إنه عصر أفول القوميات الشوفينية؟



















تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الدعارة الحلال

24-أيلول-2007

هل المثلية الجنسية عيب وعار؟

04-أيلول-2007

ردود الفعل على قرارات صباح عبيد / إمارة 'فنـّستان' السورية

17-آب-2007

الحركات الجهادية والشرق أوسطية

25-تموز-2007

وزارة قطع الكهرباء

21-تموز-2007

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow