Alef Logo
كشاف الوراقين
              

دُوار الحريَّة /2 / 2

مالك داغستاني

2009-11-08


ولنُضف أن هناك أيضاً بحيرة صغيرة ليس لها شكل هندسي محدد، وفيـها سرب من البط، إحداها، وهي أنثى على ما أرجح، كانت بيضاء، بيضاء كالكتابة البريئة، وأن طفلاً كان هناك يحمل عصاً صغيرة ويعابثها بها، ظانَّاً بطفولة لا تُضاهى، أنها كانت سعيدة جداً بمداعباته…
{ يا بني، ارمِ هذه المسطرة المؤذية من يدكَ، وأنت أيتها العفريتة لا تبللي ثوبك الأبيض بالماء.}
وطبعاً كنتِ تلاحظين جيداً أن هذا العفريت الصغير، لم يكن آبِهاً أبداً للحارس الذي كان في تلك اللحظة قد بدأ يغفو فوق كرسيِّه الخشبي العتيق، كما هو واضح من حرية الصبي وحريتي.
وكيما نغني المشهد أكثر وأكثر تعالي نتفق أنه كانت هناك امرأة عجوز، ولنفترض على سبيل التسلية أنها كانت جدَّةَ ذاك الطفل المشاغب وأنها كانت جالسةً على المقعد المجاور وحدها، تحوك قفازين صغيرين لهذا الحفيد المشاكس من أجل الشتاء التالي.
ثم دخلنا كلانا في ذاك الصمت… ربما لأننا رحنا معاً نراقب حركة البطَّات السابحات في ماء البركة بعد أن غادر الصبي الصغير الحديقة، وهو يتنطط قرب جدَّتهِ وتركهنَّ إلى سلام وطمأنينة حياتهنَّ، كان هناك ذكر البط الوقور، وطبعاً لم يكن التأكد من أنه ذكر يحتاج لإعمال الكثير من الملاحظة، فهذه الحركات حول الأنثى البيضاء ذاتها التي كان الولد يشاكسها قبل قليل، لا يقوم بها إلا ذكرٌ، ويجب أن يكون على شيء من الرومانسية الحالمة أو الخشية الداخلية غير المفهومة لدى ذكور البط، وإلا فما الذي يرغمه على المحافظة دائماً على -ت المسافة الفاصلة عن أنثاه، فهو لا يندفع في مغامرة الاقتراب أكثر، ولا تطاوعه روح الحضور الأنثوي على الابتعاد.
كانا يتحركان على وجه الماء بسكون يدعو للحيرة، وكأن خيطاً سحرياً قد ربطه إليها دون أن نتمكن من رؤيته، ولولا اتجاهه الدائم نحوها ولولا أن حركتهُ كانت دائماً تلي بعض اندفاعاتها، لظننا أنهما مربوطان تحت الماء بذراع ما، أو لاعتقدنا أنهما مدربان على هذه الرقصة الساحرة، ورحت أنا أتساءل بماذا وكيف كانت تفكرُ؟ وما الذي كانت تطلبه هذه البطة البيضاء وهي تشعر بملءِ كيانها، وكما ينبغي لأي أنثى، بهذا الانشداد المسحور للذكر نحوها، حين كان يتحركُ كالمُنوَّم وهي تتهادى على وجه الماء بتلك الخيلاء الملكية والشموخ في حركة الرأس؟
هل كانت كتلك الأنثى الصغيرة التي غنت عنها فيروز والتي تسأل كيف اختارها حبيبها من بين الكثيرات؟ هل كانت مثلها تتساءل بذات المكر المراهق والساحر؟ وهي تعرف الإجابة، ومتأكدة أنه اختارها لأنها كانت الأحلى والأروع والأدفأ حضوراً في القلب، ورغم ذلك تطالب الآخرين بأن يجيبوا لماذا دون جميع رفيقاتها، قد أحبها هي؟.
وهذا الذكر الذي بجناحين بُنيَّين، بأي إحساس كان يتمكن من المحافظة على هذه المسافة، وكيف استطاع مقاومة جذب ذاك العنق وهاتين العينين وهذا البياض الباهر وتلك الجدائل (يا للمخيلة الصـارمة، ويا لذاكرتي المحروسة بجديلتين من ذهبٍ... إن مراهقة شقراء صغيرة تشبه بنفسجةً وسنانةً تسكر القلب نسيت ضفائرها ذات حكاية في روحي وذهبت ثم لم ترجع).
ثم أن الوقت بدأ بتبديل ألوانه، وهو يلملمُ أردية النهار، وراحت البطات ينسحبن من ماء البحيرة إلى البيوت الخشبية الصغيرة الموزعة حول هذه البركة الصغيرة، ودخلت بطتنا البيضاء إلى أحد تلك البيوت، وخرج الذكر العاشق من الماء، ووقف متردداً وساكناً على حافة الماء وحده، ونحن متلهفان بصمـت، وأنا أضغط أصابعك في كفي، ونتابع خاتمة المشهد، لدقائق حبس تردده أنفاسنا حتى أوشكنا أن نهتف به أنْ هيا، ثم أنه دخل إلى ذات البيت الخشبي خلف بطته البيضاء، فتنهدنا، وابتسمتُ أنـا، ونظرت إليك، وكانت ابتسامتك أعذب من لون المساء….
{- : أنتما… ما الذي تفعلانه تحت السرير… هيّا أخرجا. وخرجت البنت الصغيرة، خداها مُضرَّجان، تبتسم وتنظر بطرف عينها إلى الصبي الذي خرج إثرها}.
وبعد كل هذا الانتظار، هاهما العاشقان اللذان يحتلان الفسحة الآمنة يهمَّان بالمغادرة، ونحن نسارع نحو مقعدهما قبل أن يصل إليه غيرنا ممن شاركونا هذا الانتظار المُمضّ، وحين أوينا إلى هذا الجزء الغابيِّ من الحديقة، حيث كثافة الأشجار المحيطة تتيح شيئاً من الأمان وقدراً من الحرية، فإن أحد عازفي الغيتار الكثر المتواجدين في الحديقة رآنا وقد انعزلنا فتقدم منا عارضاً أن يعزف لنا....
ولـكن لماذا يخطر لي أن أفترض عازفاً، لماذا لا أقول عازفة ما دام الحدث كله افتراضياً، وما دام كل هذا التقليد غير معروف في مدينتنا، فأنا الذي أعيش منذ سنوات في تجمع ذكوري صرف، يجب ألا أتردد في افتراض عازفةٍ، بل وجميلة أيضاً، فكل داخلي ومشاعري لن توافق إلا على هذا الافتراض، مشاعري التي علمتها هذه العزلة أن الذاكرة وأطراف الأصابع التي لا تلامس الأنثى كل هذه السنوات سوف تجف وتتقرَّن، إن الكفَّ التي لا تعاكس النهد وتقتحم عليه، عنوةً، عزلته تحت الثوب، باحثة عن طراوة تكورّه في الظلمةِ ومكتشفةً رعشة وحرارة انتفاض رفيف الأجنحة الطرية للعصافير الصغيرة في أعشاشها،ولا تستعير شيئاً من لدونة اعتصاره بين الأصابع، ولا تعابث غطاء الصدر/ قبعـة الحواة، الصدفات حافظات اللآلئ ولا تمر على الشفتين، الشفتين طرف دنّ الخمرة وشرح مزايا النبيذ الحلو، سوف يتيبس الجلد فيها.
إني منذ الآن أجزم أنني بعد مغادرتي السجن، لن أتردد في التهرب من دعوة الأصدقاء الذكور حتى ولو إلى فنجان قهوة في مكان ما، وطيلة سنوات، إن من عرف المرأة حقيقةً وبعمق، إن من تسكنه الأنثى في حضورها، سوف يعرف ويجيدُ الشوق لها في غيابها وسيعرف الاحتراق والموت جرّاء هذا الشوق، إن من تحضر في ذاكرته بحةُ الصوت الأنثوي فيشعر أن الألم المبرّح قد غاب، وأنه قد سرى شيء مما يبعث الإغفاء إلى الأعصاب، إن هكذا رجل لابدَّ أن ينحاز لافتراضات أنثى.
كأني الآن أشعر أني مدين لكل النساء اللواتي مررن ولو لمحاً في حياتي فهنَّ من يدفئن أحلامي في هذه الليالي الباردة وهنَّ من يستيقظن الآن في هذي الحكاية، نازعات ما راكمت أعمارهن، يتفاوحن ببخار الأحلام المعطر ويتناوبن على سرير المخيلة المشتعلة.
إذاً ومادمنا قد اتفقنا أنها عازفة غيتار، فلنقل أنها للتوِّ كانت قد غادرت عامها العشرين، سمراء بشعر فوضوي أسود، تبدو عيناها الواسعتان والسوداوان امتداداً لونياً طبيعياً لتلك الظلمة التي تنسدل باستهتار على كتفيها، وأنه كان لشفتيها شكل مميزٌ وخاص، أو إذا أردت التعبير بصورة أفضل وأكثر مقاربة، فإني أقول إن شفتيها مرسومتان بطريقةٍ حادة، وأنهما تسمان كامل الوجه بجمال وحشيٍّ وأخاذْ، وفيهما ذاك النداء الذي يشبه الحمحمة الخفيفة والمتطلبة للفرس التي يجتاح دمها الصهيل، وفيهما ذاك الأنين الذي يمكن للعين المدققة أن تراه.
كانت تلبس بنطالاً أسود مشدوداً على الساقين وقميصاً أبيض فضفاضاً ودون أردان، مما أعطى لوجودها في المكان طابع الألفة المنزلية الدافئة وخاصة حين حضنت الغيتار بذراعيها السمراوين باندماجٍ يزيده نصاعةً اتكاء أسفل نهديها عليه وهو ينشدُّ إلى جسدها فيصبح جزءاً أصيلاً وفتاناً من إغراءات هذا الجسدْ، لاسِيَّما حين بدأت العزف وراحت ذراعاها تنقلان تلك الارتعاشات التي تسببها حركة الأصابع على الأوتار، باهتزازات خفيّة لها سحر وجاذبيةٌ تبعث في القلب، مع تلك النغمات وهذه الأمسية من أيار، شيئاً مما يمكن أن يقول، حين كانت خصلات شعركِ تهتزُ قرب وجهي، بأن الحديقة شيء جديرٌ بأن يهطل على القلب.
كانت للغيتار أوتـار من غناءٍ دافئ، كأنما عتَّقهُ الأسلاف منذ مئة عام أو منذُ ألف عام في خوابيهم وانتظروا كيما يجيء الوقت الأليفُ للحديقة، وأتت اليوم هذه الأنثى لتجنيه نغماتٍ فيها ما يخدِّر حتى الهواء المحيط وما يجعل السروات ينصتن وفيها ما يشبه طعم الأعشاب البرية المغلية مع السكر، وما يدعو للاحتماء والاقتراب من دفءِ رفيق المقعد أَكثر، وفيها ما يقول للعنق أنْ هيَّا واتكئْ على الكتف المجاور، وأنا أمسِّد براحتي شعركِ الذي انسدل الآن كله على صدري، وكان فيها وداعات ولقاءات في أزمان مضت، وردة حمراء تُمنح عند الصبح وقت الذهاب إلى المدرسة الثانوية، وشبّاك يطل على الحديقة المنزلية و(صباح الخير) بصوت هامسٍ وعذب، وفيها موعد أسبوعي يلمُّ عاشقين إلى سريرهما في غرفة صغيرة منذ سنوات بعيدة وكان فيها غياب طويل … طويل.
كنتُ قد شعرتُ حتى قبل أن تمتنعَ بلطفٍ عن أخذ النقود التي عرضتها عليها، بأنها لم تكن تعزفُ لنا لتمارس مهنتها، وإنما شيءٌ ما، يصعب تحديده ووصفه بدقة، كان قد دفعها، وحرَّك داخلها، وجعلها تعزف وجدَ الموسيقى ووجدَ الغيتار خاصة وما اشتعل، أو ما أشعلناه نحن بجلستنا الحانية في أصابعها.
- لا أيها السيد، قالت، اسمح لي ألاَّ آخذ النقود، فأنا التي تودَّ لو تقدم لكما وردةً، فبعدَ هذا الختام الجميل ليوم عملي، سوف أذهب إلى غرفتي، وأستلقي، وأحلم بأن رجلاً عاشقاً بهذا الحنوّ سوف يحبني في يوم ما، ويحضنني بكل هذه الرقة والعذوبة....
{... يا أولاد، ما هذا الذي تفعلونه هناك؟...}.
ثم إنها مضت وأنا أتابعها بنظري محاولاً بيني وبين نفسي، تذكُّر ما قالته ثانيةً بتلك النبرات المدهشة، وفجأةً لمحتُ في عينيك ذاك البريق الذي لا يمكنني لكثرة المراس أن أخطئهُ، وحصل تماماً ما توقعته حين قلتِ
: هل بدأت تفترض بأنك يمكن أن تكون أنت هو هذا الرجل العاشق الذي سيحبها يوماً، وهل تفكر بتحقيق حلمها وتعود مساء غدٍ إلى الحديقة وحدك، ثم... ثم كيف واتتك الجرأة أن تنظر إليها بكل هذه المتابعة وهي تمضي؟
: هل قصدتِ الجرأة فقط؟
: أجل الجرأةُ، وفقط، فأنا أحب هذا منك ولكن…أعني… أعني ليس مع الأخريات.
: لينـجدل الفلُّ مع شعرك أيتها الأميرة، كيف لي هذا، وأنت قربي، وأنا يتصاعدُ من قعرِ الروحِ فيَّ، هذا الـبخار الأزرق، وأنا منذ ((عيناكِ ))بيتي وحتى ما قبل الجنون بحلم بسيط، وأنا غداة نرجسةٍ سكنت روحي، صرتُ أتنفس كل صباح ضحكتكِ وزقزقة العصافير، وصوت انسياب الماء في ساقيةٍ محصبة، وأتنفس كل مالا يمكن أن يخدش صفوَ الصباح الجميل، خديكِ اللذين من ياسمين وجوريٍّ، شفتيك العناب، عينيك اللتين قالهما الله ذات خلقٍ من بعض شهدهِ السماوي، أنا العاشق والمفتون والعطشان والـ… : هل مازلتِ زعلانة؟
: لا… لا فوقت الحدائق لا يتيح الكثير من الخصام.
حين بدأ النهار يميلُ إلى الإغفاء وراح يخلي الفضاء متلعثماً بألوانه ومنسحباً من تمايزات الأبيض والأخضر والأزرق، وشيئاً فشيئاً بدأ الدخول في أسرار ظلمته، حيث يتحول الوجود التفصيليّ للأشخاص إلى وجود مبهم وشبحيّ، في تلك اللحظة اشتعلت مصابيح الحديقة، ورغم أنـها كانت خافتـة، إلا أن المباغـتة أجفلتنا، فنحن كنا في تلك اللحظة قد... أقصدُ أنه كانت هناك نسمة قد هبَّت في هذا المساء، وطبعاً يحدث في مساءات أيار أن تهب بعض النسمات الباردة، وأني كنت قد اقتربت منكِ قليلاً، قليلاً فقط، وكي أَدفئك، قليلاً اقتربت ورأسك يميل إليّ وأنا أستعير من قُدسِ صمتِ اللهِ صمتاً حارساً لهدأة وجهك قبالة وجهي وأهـدهـد خصلات الذهب، وأكتشف بتروٍّ ومثابرة الجوريَّ الذي يفترُّ عن شفتيكِ.
وفائضٌ عن ليل الحديقة القول بأنـه من المخجل أن يدع رجلٌ ما شريكة مقعد الحديقةِ بردانةً. إن الرجل الذي يبقى محايداً وغـير مكترثٍ هـو رجلٌ غير جدير بالحديقة…...
- ليرجع كل الزوار إلى الخلف… إلى الخلف… أنتِ… هيا… أيها الشرطي أحضر القيود وجنزير الربط و……
ثم بعـد ذلك ولولا أن الضابط قد أبعدكِ عني، قصدت أنـه لو كان لديَّ بعض الوقت أكثر، ولو لم أكن مشغولاً ومرتبطاً بموعدٍ لقضاء بعض العمل المسائي، لولا ذلك كنت دعوتك بعد هذا اللقاء الجـميل في الحديقة لتناول كأس من النبيذ فـي ذاك المكان الأليف الذي طالما تعـودنا الذهاب إليه في المساءات، والذي يقع في نهاية الشارع المجاور للحديقة، ويقدم النبيذ في جوٍّ حانٍ وأليف.
كنا سنجلـس، في الركن عن يمين المدخل إلى تلك الطاولة المـلاصقة لنافذة الزجاج المـطلة عـلى الفناء الداخلي الذي تتوسطـهُ مجموعةً من النباتات الاستوائية الجميـلة، والتي تنمـو عادة في الغرف الظليلة، ولكان جـاء النـادل الأسمر اللطيف إيَّاه بأسنانه البيضاء وابتسامته المطمئنة، والذي يجيء إلى طاولتنا عادة فقـط للتأكد من أننا لا ننوي تغيير عادتنا في تناول كأسين مـن النبيذ الأبيض، ونجيبه نـحنُ على عادتنا أيضاً بأنْ نعم كأسي نبيذ.
ثم مضى لإحضارهما وأنا أخذت كلتا راحتيك بين كفيَّ، ورفعت أصابعك إلى شفتي ورحت أُقبِّل البتلات الغضَّة للياسمين، أقبلها بحرقة، ولربما غطيـت بها عيني وبكيت بحرارة، بكاء من ذاك الذي يشبه بأسبابه غير المفهومة بكاء طفل لا يستطيع الإفصاح عما بهِ، وأنا كيف لي أن أقول كلَّ ما بي… لا.. لا إن هذا لا يصلح ولا يناسب مكاناً عاماً، وهو قبل أي شيء، ليس مبرراً بمطلق الأحوال.
إذاً لأعد مع قليلٍ من التعديل، لأقول بأني رفعت راحتيكِ إلى وجهي وبدأت أقبل باطن كفيكِ، وأنظر إلى عينيك اللتين تتوجهان نحوي بأسئلة تعرفين بأني لا أمتلك الإجابة عنها.
كـل ما في داخلي كان يهتفُ: المجدُ لعينيك اللتين تكتفيان بمجدهما ولا تتطلبان أيَّ شيء آخر، والمجد للأسئلة التي لا تفتش عن الإجابات، ثم إني أوجزت كل ما كان يمكن أن أقوله، فاقتربتُ بوجهي منكِ وأصابعك ما تزال في كفي وهمستُ لك"أحبكِ" وأنت، بتعابير وجهك الذي تورد، تحذرينني كي أنتبه، فجميع الجالسين إلى الطاولات الأخرى بدؤوا ينظرون نحونا، وأنا لا آبه لهم……
- رويدك… لا تفعل، فجميع الحراس يحدقون بنا، والضابط سوف……
ورحت أعرض عليك أن نجعل هذه الدقائق إجازة من العقل ودعوة للاحتفال بالجنون، وأنت، وهذا يتوافق مع قابليَّاتكِ، سوف توافقين علـى تنحيته قليلاً، إن العقل الذي نحتاجه لحلِّ المعادلات وفلسفة العلوم الحديثة ولبعض الأمور الأخرى، هذا العقل ذاته هو الذي يفسد أجمل الأشياء التي لا علاقة لها به، إنها في تآخٍ دائمٍ مع الجنون، وفي انجدال مع الهلوسة والهذيان، وثم إن لمغامرة الجنون لذَّة خاصة، فأن يكون الإنسان مجنوناً فهذا يعني أنه يحتاج لقدرات وإمكانيات داخلية خاصة لأجل مجابهة أحكام العاقلين وربما لعنتهم أيضاً، أن يكون الإنسان مجنوناً فهذا يعني خروجه المؤكد عن دائرة التواطؤات المتبادلة بين الناس ومغادرته لكل المواضعات السائدة.
- هكـذا أنـت دائماً أيها الرجل، موجود فـي نهايات الأشياء. فـي نهاية العقل وفـي نهاية الجنون. في نهاية الحب وفي نهاية الهروب. في نهاية الوداعة وعلى الحدود القصوى للنزق وليس هنـاك مـن مكان للاعتدال في روحك.
ثم بعد قليل عاد النادل الطيب بالنبيذ، ووضع قرنفلة حمراء على عادته في الآنية المخصصة على الطاولة قرب كأسي النبيذ وهو يبتسم حين لاحظ أنني لم أستجب لمحاولتكِ تخليص كفكِ، التي كنت أتشبث بها، من يدي حين رأيته متوجهاً نحونا، ثم إنه انسحب مرتبكاً ومسرعاً وأنا أنظر بذهول إلى شعرك وعينيك وابتسامتكِ، وأتساءل هل كان يجب عليَّ أن أغيب لسنواتٍ طويلةٍ حتى أعرف كم هي شيء لا يطاق الحياة بدونك؟ ثم مضيت أبعد من ذلك وتساءلتُ: كيف هي حياة الناس، والرجال تحديداً، الذين لم يعرفوكِ ولو لمحاً عارضاً، ما هو على سبيل المثال، مفـهوم المرأة فـي ذهن رجل لم يركِ ولا مرة واحدة.
وحين يتحدث هذا الرجل أو يكتب عن الخصلات الذهبية فكيف يفكر لحظتها؟ أو بأية خيالات وصور تتفصّد عن ذاكرتهِ يصف تلك الخصلات، أو حين يتحدث عن سحر الابتسام أو حتى عندما سيتحدث عن مفهوم الجمال الأنثوي بشكل عام؟ إن الفارق بين البدائي الذي يعتقد ويسمي الضرب الإيقاعي لعصوين معاً موسيقى، وبين من يعتبر مقطوعات شوبان وموزارت وكورساكوف موسيقى، هو تماماً الفارق بين من يتحدث عن الجمال الشفيف دون أن يراكِ، وبين من يتحدث عنهُ وأنتِ على مبعدةِ قبلةٍ منْ شفتيه.
إنه الجمال الذي كلما ازداد شفافيةً وتوهجاً اقترب أكثر من أن يكون متسلطاً ومهيمناً ويسبب كل هذا التآكل الحثيث للروح.
( يا الله كيف أصوغ حلمي كي يغدو أكثر حرارة، كيف أمضي إلى حيث أجدني.... أنا لست هنا تماماً فكيف أمضي إلى هناك.... أين أبحث عن جسدي وكيف أسدِّده حتى ألتقيه، فأُعطى ما يبرر لي أن أحدو صهيلي وأنا أقترب من شفتيك وأبتعد عن كل ما هو غيرهما وأكفُّ عن أن أكون كلمة مُخبأةً في فمي، ويبوحني فمي فيك، كيف أمضي إلى حيث لن أكون.
أنا لست هنا فمن أي جغرافيا أنتقل إلى هناك، لا رائحة لجسدي هذا المساء، ولا امرأة تستطيب النوم مع رجل شهواته لا ترضُّ الهواء.
أدخلي الحلم إلى صدره، ولا تقفي هكذا بالباب فالمساء بارد. تعالي نرسم موقداً صغيراً وزجاجة نبيذ وجلد خروف يتوسط الغرفة. المساء بارد ومعدن الباب الرمادي المغلق بإحكام لا يبث الطمأنينة، فتعالي نرسم باباً جميلاً ونافذة مفتوحة دون قضبان، عليها أصيص من الحبق..... يا الله أنا لست هنا تماماً، ولا رائحة لهذا المساء).
ثم إن شيئاً من الارتباك قد اعترى نظراتك وكل تعابير وجهك، وانتبهت إلى أنني كنتُ قد سحبت كفّك وضغطتها على صدري وأن الخفقان المتسارع في قلبي قد فاجأك، قلبي الذي كان يحاول أن يعوض كل ما فاته لسنوات، حين كان ينبض ملايين المرات دون جدوى، وأن وجودكِ اليوم قربه يعفيه من إحساسه بعبثية وجوده عندما كان يخفق بتكاسل كل تلك السنوات… {:توقف يا بني...
: يا أمُّ تنحي قلـيلاً عن هذه الحكاية، لقد أدميت كفي وأنا أحاول انتزاع هذا الحلم الحديقة من فم تلك القاعة الكريهة، وأنا أُخلِّع أرض المكان بلاطةً بلاطة وأُركِّب مصاطب العشب لحديقتي، لقد حوّل البرد أصابعي زرقاء، وأنا أحْطُم الصقيع فيها حتى أجلس على هذا المقعد في هذا الركن الدافئ والجميل، والذي أشدته في هذه الحكاية الذهنية المرهقة، كي أجلس أمام عينيها لدقائق فقط.
يا أمُّ كيف سيغدو الحلم لو لم تكن أميرته هي، دعيني يا أمُّ أنقِّب في هذا المقطع للروح التي ذُبحتْ، إنه تجميعٌ ساذجٌ لشظايا من هشيم الذاكرة المتاحةِ وسط هذا التعب.إنهُ شيءٌ ما قد خمَّـش ظهـر القلب فسالت الحديقـة، إنه الحلم يسير حافيا ووحيداً وقد أرمضته هذه المفازةُ الموحشة.....
وهاهي الحكاية الحلـم تمضي وتنبني بدفعٍ مـن خواء الروح، إنها وحشة المكان تدفع لابتكار لحظةٍ تزيد عـن القصيدة، وتقلٌّ قليلاً عن البكاء المـرير، لحظة أُقطِّرها وأرشف مـن وهجها ما سوف يسكرني.
دعيني الآن أيتها الأم فأنا في منتصف القصيدة التي تحيَّرت في أي بقعة سوف تموت، وكيـف ستختار وقفتها الأخيرة حتى يكون مشهد سقطة الموت أكثر احتفاليةً، إنـها فضيحة الـروح فلا ترُجِّيـها أكثر حتى لا يسقط القلب والحلم الذي يراودني في هذه الليلة الفارقة بيـن آلاف الليالي الباردة في هذا السجن.
يا أمُّ إن الجسد يتهدمُ وهو ماضٍ نحو دفء التراب، والروح تمضـي معاكسةً نحـو جاذبية وحنو الرحم، لقـد تجاوزت يفاعتي وهاأنذا أجوس في منعرجات طفولتي، وكأنني راغبٌ في البدء ثانية ومن جديد.
يا أمُّ كل الجدران معادية ولا شيء غير المخيلة تشعل المنائر في الروح، وأنا الذي لم يتصادف لي أبداً أن بدأت شيئاً وأكملته حتى نهايته، أنا الذي لم أعد متأكداً إن كنت سوف أتابع العمر حتى آخره، أحاول هذه الليلة أن أمضي مع هذا الحلم المُشوَّف علَّه يكتمل.
يا أمُّ إن الكلمات نوارج تطحن شراييني فدعيني كي أنزف فوق الأوراق دمي وأستريح، إن شيئاً ما يقرض أطراف أصابعي وأطراف قلبي وروحي وأنا متمدد وقد يبَّسني الشلل، لو أنك أيتها الأم تعطيني الحق فقط لأهتف على حاملي النعشِ: "آه لو يمكنني أن أتراجع عن هذا الموت قليلاً".
يا أمُّ يذبحني الإحساس بأني كأي كرسيٍّ قديم ومخلع، تركه أصحابه لرطوبة الغرف المغلقة وعناكبها كي تُتمَّ ترميده النهائي، يا أمُّ لكأن العناكب قد احتلت كل الفضاء، وكأن عنكبوتاً أسطورياً بنى شب

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

"التوائم السبعة" من تدمر إلى صيدنايا

09-آذار-2019

"يا حرّية" هشاشتي معروضة للجمهور

07-نيسان-2018

قبل ربع قرن، مسرح صيدنايا السرّي

25-تشرين الثاني-2017

دُوار الحريَّة /2 / 2

11-تشرين الثاني-2009

رواية دُوار الحريَّة / 1 / 2

08-تشرين الثاني-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow