ذات صباح أطلت مذيعة لبقة من محطة فرنسية حاملة كتاب «كلمات» للشاعر الفرنسي «جاك بريفير» وراحت تقرأ منه بعض القصائد بانسجام يدل على مدى حبها واقتناعها بما تفعل، ومن بعيد كانت تمر صور لحقول يختلط بهاء منظرها بصوت موسيقى ناعمة تشكل مع صوت القارئة تناغماً قلما يجده المرء في تلفزيون الصباح.
في فضاء عربي شاسع فيه مئات المحطات ماذا يجد المشاهد العربي، مذيعة صارخة الجمال والتبرج، وبثياب نسيت استبدالها عندما نهضت من السرير، ولكنة متصنعة فيها من الدلع ما يفوق دلع البنت الوحيدة في سرايا السينما المصرية، ترغي على دق الطبول والصناجات مقدمة النصائح لنهار سعيد وعمر مديد، طالبة منـ (نا) أن نتصل دون تأخير.
ولتعريف الرغي، هو زبد البحر حين يرتطم الموج بالشاطئ فتنتج عنه فقاعات بيضاء سرعان ما تختفي مثل رغوة الصابون التي يزيلها الماء بسرعة، وكانت نساء الحي (الحتة) إذا أردن التقليل من شأن إحدى الجارات وصفنها بـ (الرغاية) وهي عكس جارة أخرى محبوبة تجيد الإصغاء، لأن القطة أكلت لسانها، أو حسب وصف الجارات (بقها ياكل ما بيتكلمش).
صفة الثرثرة تقدمها المحطات الفضائية العربية بامتياز وتزيدها (الرغايات) بلة عبر الخوض في مواضيع تافهة، حيث لا معلومة و لا هدف سوى تزجية الوقت، يا للخسارة أن يبدأ وقت الفراغ من ساعات الصباح الأولى، فنصرفه دون هدف أو فائدة، فقط الإصغاء لامرأة بثياب النوم تثير فينا ما تثيره أحلام المراهقة في تفتح العمر.
عندما أنهت المذيعة الفرنسية كتابها توجهت بنظرها إلى الكاميرا وعلى شفتيها ابتسامة رضا خفيفة وهي تسأل بخجل إن كانت الحياة تستحق أن نعيشها بحب وأن نبني فيها الصداقات كما كان يفعل الشاعر بريفير مع العصافير والشرفات والأشجار، فقد كانت الحياة حلوة لأنه نظر إليها من الجانب المليء من الكأس ولم ينظر إلى الجانب الفارغ.
ليس من الإنصاف عقد مقارنة بين عالمين أو بين ثقافتين، ولكن من المهم أن نحترم عقل الآخر ونحن نطل عليه من جهاز له سلطة مطلقة في حياة الناس، وأن نقدم له ما يفيده على الأقل من مواضيع قليلة الثرثرة أو لنفسح المكان لفيروز، فقد كانت دوماً تبلسم الجراح قبل الذهاب إلى العمل، ولكن يخشى المرء أن مئات من محطات الرغي العربية لا يوجد في أرشيفها أغنيات لفيروز.

عن البيان