Alef Logo
ضفـاف
              

عن امرأة وشاعرة تدعى "جويس منصور" حديقة هذيان في القرن العشرين شوقي نجم

2010-01-11

"جمالها دفع بالبعض إلى افتراض علاقات غرامية كثيرة لها. كما أن الصحافة التي تعنى بأخبار المشاهير ساهمت في هذه البلبلة عبر تقديم صورة مشوّهة عنها كبورجوازية شاذة وغريبة الأطوار. للتخلص من هذه الآثار الخاطئة اعتمدتُ على قراءتها بشكل دقيق ومعمّق نظراً إلى تجلي شخصيتها وحياتها بشكل بديهي في نصوصها. ولعل هذه البداهة والصراحة هما اللتان دفعتا بالبعض إلى عدم أخذ مضمون كتاباتها على محمل الجد. فأقوالها كانت صادمة الى درجة وُضعت في خانة التحريض المجاني. لكن الحقيقة أن كل شعرها تعبير شخصي أصيل لم يشكّك فيه إطلاقاً جميع الذين عرفوها عن قرب": هذا ما قالته الباحثة الفرنسية ماري لور ميسير، في حديث معها، عن الشاعرة المصرية جويس منصور، لدى نشرها كتاباً عنها بالفرنسية، عنوانه "جويس منصور: آنسة غريبة"، عن دار "جان ميشال بلاس". هذه الصورة التي تسعى الباحثة عبرها الى تشكيل الملامح الحقيقية لجويس منصور، إنما تغاير بعض السائد الذي عرفناه عن الشاعرة. ليس من يقين يحمل القارىء على الجزم بأن جويس منصور شاعرة بنصها فحسب أو بنصها وحياتها معاً، فأي صورة للشاعرة نستنبطها من شعرها وقد وسمت بـ"الاشياء الشريرة"، باعتراف جميع السورياليين؟

ذات مرة، هي نفسها وصفت إنجازها الشعري بالعبارة الاتية: "كل هذا يجعل مني آنسة غريبة". هذه الآنسة الغريبة، جويس منصور، الملهمة، المنغمسة شعرا وحياة، في خلايا الوجود، وباطن الإحساس، كل شيء في شعرها مسموح وممكن: لا حدود في الرغبات ولا محظور في الكلمات. فهل غرابتها انها كانت تمارس التضليل في مقابلاتها، فتقول اشياء غير صحيحة عن نفسها، أو أنها تمارس اللعب من خلال الكتابة الشعرية اولا، وتمزج ثانيا الحلم بالواقع؟!

شاعرة عربية من اصول يهودية، هي شأن الكثير من الشعراء الذين عاشوا منفى اللغة. يفتخر بعض الكتاب العرب بأنها يهودية ولم تهاجر الى اسرائيل، ولم تعمل في السياسة. كانت تعكس في شخصيتها وأدبها واقع الكوزموبوليتية الثقافية في مصر وخصوصا في الإسكندرية حيث كانت تعيش جاليات كثيرة، وبرز فيها شعراء عرب، كتبوا قصيدة النثر بالفرنسية، لكن الواقع الايديولوجي في الزمن الناصري غفلهم، وجعل المتن لكليشيهات "القومجية".

المرأة الشاعرة، المتشبثة باللعنات، ورفيقة السرطان في آخر حياتها. رغم انها اتقنت اللغة الإنكليزية بحكم ترددها الدائم على بريطانيا، فقد التحقت بإحدى المدارس الفرنسية في القاهرة، باعتبار ان الفرنسية تمثل انعكاسا للرقي الاجتماعي اكثر من الانكليزية في تلك الحقبة. قبل وداعها العقد الثاني من عمرها، كانت بطلة مصر في سباق المئة متر والقفز العالي. اثناء ممارستها هواية الرياضة، تعرفت الى الشاب الوسيم هنري نجار فتزوجته في ايار 1947، لكنه لم يلبث ان توفى في العام نفسه: "توفي رجل تحت عجلات طفولتي"، قالت جويس منصور عن هذه الحادثة. سيكون الشعر بالنسبة اليها وسيلة تعزيمية، والكتابة أداة للتحرر من ألم لا يطاق. بالفعل، فإن هذا الالم عبر جميع اعمالها كموجة صادمة. نصوصها الاولى صرخات، في ما بعد تحولت قصائدها نوعا من الصلوات المؤلمة. وعشية أفولها، صارت قصائدها على شكل أنين ويأس، حين علمت انها مصابة بداء السرطان.


أجمل ما قرأت


عام 1948 تعرفت جويس منصور الى سمير منصور الذي تزوجته وجعلها تتقن اللغة الفرنسية، وفي العام نفسه تعرفت الى جورج حنين، الشاعر السوريالي الذي تأثر باندره بروتون، في منزل الشاعرة ماريا كفاديا.

تمتعت جويس منصور بقدر من الجمال قل ان تمتعت به امرأة في عصرها. كثر ممن عرفوها أكدوا ان لا اختلاف بين أناقتها امرأةً، واناقتها شعراً. هذا الجمال كان ايضا مفتاحا لدخولها الى عالم واسع ورحب، اختلط فيه الخلق والثقافة العميقة.

عام 1953، صدر ديوانها الاول، "صرخات"، في باريس، وعلّق بروتون على شعرها بأنه من اجمل ما قرأ في حياته، وطلب لقاء الشاعرة، وراح يعبر عن دهشته لجمالها الفرعوني حين التقاها: "انت اول امرأة تمكنت ان تكتب عملا غريبا كشف عن كل مكنون صدرها".

في العام 1954 نشرت جويس منصور ديوانها الثاني، "تمزقات"، فكتب اليها بروتون يقول: "احب سيدتي، عطر قصائدك الزهري الاسود، الاسود جدا". وكانت الشاعرة ارسلت اليه نسخة من هذا الديوان مرفقة بكلمة تعبر فيها عن احترامها له. منذ ذلك الحين اصبحت جويس وزوجها صديقين حميمين لـ"بابا السوريالية" الذي كان لا يخفي ان المرأة هي ملهمته في كل اشعاره. وانتقل هذا الإلهام الى أكثر الشعراء والرسامين السورياليين الذي اعجبوا بجويس منصور، شاعرة وامرأة جميلة. فراحت تنشر قصائدها في كتالوغات معارض بعض الرسامين مثل الفنان الكندي جان بنوا والاسباني ماتا. ثم كتب بروتون عنها قائلا انها "حديقة هذيان هذا القرن". وكتب لها غاستون باشلار: "تعرف قصائدك الصرخات الجوهرية، الصرخات التي تقول الانفعال داخل دوامته".

في نهاية عام 1955، صدر ديوانها "يوليوس قيصر". وكتب باشلار في هذه المناسبة: "لا بد ان الحبر يغلي في محبرتك". والتقت منصور الرسام السوريالي بيار مولينيي الذي حقق بورتريه رائعا لها. عام 1958 صدر ديوانها "الراضون برقادهم". بين عامي 1960 و1965، واظبت جويس منصور على حضور اجتماعات السورياليين اليومية، الى جانب مرافقتها بروتون بانتظام الى سوق الخردة وصالات العرض. خلال تلك الفترة نشرت الكثير من القصائد والنصوص في مجلات عدة، وصدر ديوانها "المربع الابيض".


الوعي المسطور


لدى وفاة بروتون عام 1966، قالت جويس منصور: "غيّر بروتون حياة جميع الذين عرفوه، ورؤيتهم. كان طائر الايام الجميلة الكبير والقرمزي. جميع الذين اقتربوا منه يعرفون اليوم انهم ابداً، خارج حضوره، لن يعثروا على هذه النوعية من الهواء".

كانت جويس منصور تكتب بلغة تسطّر الوعي البشري كالسرطان، وتصب جهدها لمصالحة رفاقها داخل الحركة السوريالية، وقد تميزت بحبها للفكاهة وكرهها للصراعات والمشكلات والغيرة. بقيت بعيدة عن النزاعات الكثيرة في أوساط السورياليين الا حين كانت قادرة على وضع حد لها. منزلها الذي كانت تستقبل فيه الاصدقاء، شكل منطقة محايدة كان يلتقي فيه المتنازعون، مثل بروتون والان جوفروا او الفنانين ماتا وفيكتور براونر، وهذا الأخير ابتدع مفهوم الواقعية النفسية في الرسم. وكانت الرابط الوحيد بين افراد الحركة السوريالية واولئك الذين بقوا على هامشها، مثل هنري ميشو وجوليان غراك وغيرهما. وبفضل حسها الفكاهي المدهش، كانت تعرف كيف تبدد الارتياب بين اصدقائها، فجمعت في شخصها صورة افتراضية عن شاعرة اللغة "العربية"، وامرأة الحياة المحتشمة.

بعد ايار 1968، ومن دون ان توقف نشاطاتها مع رفاقها السورياليين، تخلت جويس منصور عن مبدأ العمل الجماعي المنظم وتعدت المحيط السوريالي، مما فتح لها الطريق الى مزيد من التعاون مع الرسامين، الذين شكلت اعمالهم عناصر اثارة لشعرها الذي تجدد بانفتاحه على عوالم مختلفة ولدت تحت ريشة خورخي ماشادو، هنري ميشو... لكن انطلاقا من عام 1970، انحصر نشاطها في مجال الفن فمارست كتابة شعرية خاصة لا تتوق الى الإمساك بمعطيات اللوحة بسيرة الفنان. وكانت ابتكرت منحوتات بواسطة مسامير وكريات اقل ما يمكن ان يقال عنها انها مذهلة ومقلقة لا سابق لها داخل الحركة السوريالية. لكنها لم تثابر على هذا النشاط لعدم امتلاكها الامكانات التي يتميز بها الفنانون، فحصرت جهدها بميدان الشعر.


الايروسية المجنحة


كتبت جويس منصور الشعر الايروسي العابق بالرغبات "المجنونة". الرغبة بالنسبة اليها ليست مجردة انما هي الجوهر ذاته، واداة تسمح بإعادة تقويم علاقات الذات مع العالم. حلمت برغبة لا حدود لها، وهذه نقيض الاباحية، ولم تهتم اطلاقا بالمجون، كما انها لم ترفع الاجساد عبر تجميلها بصور زاهية. بدلا من الجماع، رغبت في تمثيل الاحساس واللذة والالم العاطفي بواسطة صور ملموسة لكن غير وصفية. وفي ازاء هذا استخدمت لغة بلا تجميل، ومنحت صوتا للبربرية السليمة الخاصة بالحب والاحساس واللذة والعذاب العاطفي.

يشير مؤرخ الحركة السوريالية في مصر الفرنسي جان جاك لوتي الى ان علوم السحر والتنجيم والتصوف اليهودي تبدو مألوفة لدى الشاعرة، لافتاً الى عنفها الاستفزازي، اذ يجتمع الدم والعرق والدموع مع تيمات الحب والموت، الى سخرية سوداء، داخل كتابة اوتوماتيكية بامتياز. سمّت جويس منصور الاشياء باسمائها ووضعتها كما نراها في كوابيسنا: الحب والجنس والروائح الكريهة، والدم. انها شاعرة تنتشي بلغتها الشعرية الى حد اللذة، وتستقي الصور الإباحية الى حد الشراسة، وتغوص في الفحش الكلامي الى حد الاخلاق، على نسق عبارة "كل كفر تحته ايمان" التي قالها احد الصوفيين.

مرةً أخرى، كل شيء في شعرها مسموح وممكن، وكل شيء مستحيل. لا حدود للرغبات ولا محظور في الكلمات التي تجتمع فيها رائحة الموت، والدم، وحطام الأشياء، والحب والتصوف، والتنجيم، والعنف.

عبّرت جويس منصور عن رغباتها كما هي، ورغبت في تذويب الحبيب ليس من طريق اللمس او الشم والضم. كلماتها تفور الى درجة اسالة الدماء: "فتحت رأسك/ لاطلع على نياتك/ التهمت عينيك/ لأتذوق نظرتك/ شربت دمك/ لأتعرف الى رغباتك/ ومن جسدك المرتجف/ صنعت عزائي".

اذا تخطينا الرجل والحب والجنس، نرى هنا دائما طيف الموت حول شعرها، وهذا ليس فقط في اعمالها الاخيرة، بل حتى في اول دواوينها، وقد يتمثل بعجوز او برغبات ميتة. ربما هذا سبب حدسها السابق لمرضها، كأنها عرفت انها ستمرض وتموت: "انتظرني/ اكاد اشعر ان الزمن يفر/ من حيث تنام دموعي في فراش".

في قصائدها الاولى كانت تستعذب الحب، الا انها في قصائدها الاخيرة استعذبت الالم والمرض، فقد تحولت الاحلام الوردية والمشاعر الحسية التي ملأت ديوانها الاول تأوهات والماً، واختفت مشاعر الحب بشكل واضح. ففي آخر قصيدة كتبتها، نشرت قبل رحيلها:


"نحن لا نعيش مع الموتى، فهم ينزلقون فوق ملاءات النسيان


نحو ثقوب سوداء.

يسبحون ويرتعدون في رياح المساء

وتخوى عيونهم كأنها الحمام.

وتختنق أعضاؤهم


في وحل الذكريات".


الشعر عندها ملفوظ مثل الالم، يعاش مثل الرغبة. وهي تسكن في الشعر، والشعر يسكن فيها. وتنطبق عليها عبارة باسكال التي تقول: "ان العبقري شخص ممسوس او مسكون من الداخل بشيطان العبقرية".


وقد يستطيع أحدنا القول إنها هي الشيطان وعبقريته.



عن المستقبل اللبنانية


الإثنين 5 كانون الأول 2005














































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow