Alef Logo
دراسات
              

الموت والآخرة والخلاص في الديانة المندائية

د. خزعل الماجدي

خاص ألف

2010-01-18

أولاً: مثولوجيا الموت Eschatalogy Myth

مثلما تميّز المندائيون بأساطير الخليقة الخاصة بهم فأنهم تميّزوا أيضاً بأساطير الموت والنهاية والفناء. فهم يرون أن عالم النور هو العالم الأساسي الوحيد في هذا الكون أما العوالم الأخرى فيعتريها الفساد والموت والفناء. وينسحب هذا على كائنات هذه العوالم. فالنور هو الذي لا يتفسخ ومنه صنعت كائنات النور أما كائنات الظلام فمصنوعة من الماء الأسود الآسن والطين واللحم..إلخ كذلك كائنات الأرض مصنوعة من اللحم والعظم والدم وهذه كلها موادٌ آيلة إلى التفسخ والموت.

الإنسان يحملُ في مادة جسده الفانية نسمة النور (نشمتا) وهي الوحيدة التي لا تموت ولذلك تخرجُ من الجسد بعد الموت لتعود إلى عالم النور، أما الجسدُ فيفنى.

إن أساطير خروج الروح ومحاولتها للعودة إلى عالم النور تشكِّل المتن الأساسي الأول في ما نسميه بأساطير الموت أو النهاية.

لكن عودة الروح وعروجها تشكّل نصف الدائرة بينما يشكل هبوط الروح من عالم النور إلى الجسد نصفها الأول في بداية خلق الإنسان. ولذلك تتكون دائرة الروح من نصفين مترابطين، وتكون أساطير هذه الدائرة مشتملة على مثولوجيا المبدأ (حيث هبوط الروح في خليقة الفرد) ومثولوجيا المعاد (العروج) (حيث صعود الروح بعد موت الفرد).

إن هذه الدائرة المثولوجية استحوذت على اهتمام استثنائي في الديانة المندائية فقد تكرّست كلّ نصوص كنزا اليسار ونصوص كتاب الأرواح (سيدرا إد نشمثا) وديوان أباثر والمسقثا وغيرها لتتبع أثر الروح من وإلى عالم النور، وظهرت بذلك نصوص أسطورية كثيرة حولها. كذلك انعكست هذه الأساطير على الطقوس والشعائر فتكونت مجموعة منها لتسهيل حركة الروح وطهارتها وذاكرتها.

في المعتقدات المندائية تنزل الروح (نشمتا) من عالم النور إلى الجنين وهو في بطن أمه عندما يكون عمره خمسة شهور تقريباً وهو ما يفسر بدء حركته في الرحم. هكذا يرى المندائيون هبوط الروح من عالم النور قبل الولادة، ولا أحد يعرف ما هي الآلية التي تدخل بها هذه الروح جسد الجنين ولكنها ربما تكون مشابهةٌ لأسطورة النزول التي سنفصّلها في المبحث القادم.

وتشكل دورة الروح المثولوجية للفرد الواحد صدىً أو تكراراً، بدا وكأنه طقسيّ، لحادثة الخليقة الأولى يوم نزلت الروح على يد مندا إد هيي وآدم كاسيا في جسد آدم. إنها دورةٌ مشابهة تتكرر مع كل إنسانٍ لكن صدى أول نزول يشكل نقطة البدء المثولوجية التي يلتفت المؤمنون لها دائماً ويتذكرون مع كل حمل ثم ولادةٍ خليقةُ جديدة مشابهة.

ويعتبر نزول الروح في جسد آدم بمثابة (الوحي) الأول القديم الذي حمل الحياة والمعرفة إلى جسد آدم، ومن هنا جاء دور مندا إد هيي في حمل هذا الوحي فاسمه يشير إلى (المعرفة والحياة) وبذلك تكون الروح المحمولة من قبل مندا إد هيي منطوية على جوهرين أساسيين هما (الحياة والمعرفة)، الحياة لكي نكون مثل بقية الكائنات أحياءً والمعرفة لكي نميّز ونعقل ما حولنا.

إن مندا إد هيي يأخذ مكاناً في (عقل آدم) و(أدكاس- مانا) وهذا البرهان هو هبوط (نشمثا) أو (أدكاس- مانا) في جسد آدم وهو مرتبطٌ بفكرة الوحي القديمة التي تتفق مع مفاهيم الأنثروبولوجيا المعرفية القديمة. وبذلك تتعزز الفكرة التي تقول أن هذه المفاهيم المركزية للديانة المندائية هي في غاية القدم. (1)

يعتبر مندا إد هيي الرسول القديم (شليها قدماي) أي الرسول الأول، ورسول النور (شليها دنهورا) ورسول الحق (شليها كُشطانا). ويعتبر كذلك رب المعرفة أو سيّد العرفان (ماري كشطا). لقد أوصل العرفان أو المعرفة الإلهية بواسطة الكلمة (قالا) التي هي الخالق نفسه.

وقد أخذ الإغريق مفهوم الكلمة (قالا) وترجموها إلى (لوغوس) (ومن لوغوس اشتقت مفردة "لغة" العربية). وكذلك فعل اللاهوتيون المسيحيون حينما قالوا أن الله هو الكلمة. ويتضح كم كان المندائيون يحملون مفاهيم عميقة في الفلسفة الدينية أثرت في غيرهم.

الوحي إذن هو الكلمة (قالا) و(لوغوس) وهو الخالق نفسه عند المندائيين. وأتى يوحنا كاتب الإنجيل بعدهم بمئات السنين ليقول في فاتحة إنجيل يوحنا "في البدء كان الكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس. والنور يضيء في الظلمة والظلمةُ لم تدركه" (2)

ولا شك أن كل من يقرأ هذا المقطع ويحملُ ثقافةً مندائية بسيطة لا يخطر في باله سوى عناصر المندائية المعروفة مثل: المعرفة (الكلمة)، الحياة، النور، الظلمة، ويدرك على الفور علاقة هذه الفاتحة بالديانة المندائية، وكل ما في الأمر أن يوحنا غير المعرفة إلى الكلمة وقد عرفنا أنها ترادفها تماماً.

إن مندا إد هيي هو حامل الكلمة وهو، بطريقة رمزية، الكلمة ذاتها لأنه يحمل المانا في جوهره (كما أوضحنا في توازيات الانثروبوغونيا). وسواء كان الكلمة أو حاملها فهو لوغوس المندائيين وهو الذي يقوم بالوحي وهو الرسول الأول.

أما بعد وفاة الإنسان فهو الذي يقوم بدور المخلِّص أيضاً، إذ أن مندا إد هيي هو الذي يزور الروح قبل خروجها ويذكرها بواجباتها ويعدها بأن يصعد بها إلى عالمها الذي جاءت منه وهو عالم النور.

"إنه مندا إد هيي نفسه

الذي ارتحل ذاهباً لكي يأتي إلى العالم

حقاً، إنه أخذني من الأرض

وانتزعني من الخدعةٍ والتلوين

هو أخذني من قرمة القدم

التي تشبه العالم الممتليء

هو حلّ وثاقي وأربطتي

التي هي طويلة إلى حدٍّ بعيد

هو خلع عني الثوب

المنسوج من كلِّ لونٍ ونوع

إن ذلكم الذي حلني تقدمني ذاهباً

أما ذلكم الذي كان قد ربطني فهو يتبعني ساعياً

إني مضيت واستندتُ إلى ذلك الذي حلّ وثاقي

أما ذلكم الذي كان قد ربطني فهو لم يدركني

إن الحياة استجابت لي من الأثمار

إن البهاء أجاب عليّ من بعيد

من مكانٍ جدّ بعيد

تطلعت أنا ناظراً فعرفتُ أبي"(3)

يطلق لقب (كبرا) أو (جبرا) أي الرجل على مندا إد هيي أما لقب جبرائيل فيطلق على ابنه هيبل زيوا وعلى بثاهيل، ولقب (ابن الحياة) (كاهنون هيي) ولقب (بهير زدقا) أي (ذو الصدقة الباهرة) فهو موزع الصدقات الذي يطابق مفهوم (الآدميين السماويين) وهو الاسم الذي يطلق على (الناصورائيين). ولننظر إلى الروح كيف تنادي على مندا إد هيي عندما تحول عفاريت الأرض والظلام بينها وبين الالتحاق بعالم النور:

"السبعةُ تحيطُ بالجسم من كل جانب

إنها تقعدُ جالسةً وتتحدث قائلةً:

إذا سولت لكِ نفسكِ وخرجتِ، أيتها الروح (نشمتا)

فسوف نقودك إلى الجباة

إذا فررتُ خارجةً وقفت العفاريت في طريقي

وإذا عدتُ من حيث أتيت، لا يجوز، إذ أن عددي قد تمّ

أين هي الحياة التي طالما كنتُ قد أحببتها أنا (في ترجمة أخرى: أين هو ابن الحياة)

وأين هي الحياة التي كانت قد أحبتني؟

أين هو الرجل (جبرا) ذو الخبرة بالعدل والانصاف (بهيرا زدقا)

الذي باسمه كنتُ أنا قد دفعت الصدقات؟

أين هو مندا إد هيي

الذي باسمه كنتُ أنا قد ذهبت إلى النهر؟

أين هو ماء النهر الحي

الذي طالما كنت أنا قد اغترفت من منهله السعادة؟

من منهله اغترفت السعادة

واستلمتُ الإشارة الطاهرة

أين هو المسرى الذي مشيتُ أنا عليه

وأين هي التحية التي ناولت يدي يدها؟

أين هما نعلا رجليّ

تانك اللتان وطأتهما بصحبة أصدقائي؟

أين تمضي ذاهباً، يا ربّ الكوشطا

وها قد تألبت عليّ العفاريت وأحاطت بجسدي؟

ها هي ذي العفاريت تحيط بجسدي من كلّ جانب

وعياني في رأسي تتخضبان بلونٍ آخر

أين أرفع عينيّ إلى العلياء متطلعاً

وإذا بي أبصر الرجل الذي هو عوني" (4)


ثانياً: مثولوجيا الآخرة Eschatolgy

الاسكاتولوجيا هو علم الموت والنهاية والآخرة ويتضمن أساطير وعقائد الموت وما بعد الموت من حساب وعقاب وثواب وجنة ونار..إلخ

ويمكن أن تكون الاسكاتولوجيا امتداداً لمثولوجيا الموت والفناء لأنها ستتناول الأساطير المتعلقة بمصير الروح والجسد والحساب والعقاب والثواب والجنة والنار وهي أمور درجت الأديان القديمة والموحِّدة على ذكرها كلٌّ حسب طريقته.

الديانة المندائية لديها تصورات واضحة جداً حول مصير الروح ومسارها وشكل الآخرة ولذلك فأن الاسكاتولوجيا المندائية غنية جداً وتحفل بالكثير مما يميزها تماماً.

هناك ثلاثة أنواع من الحساب تجري للروح وهي كما يلي:

1. حساب المحاكمة: ويجري هذا الحساب عندما تكون الروح في الجسد حيث يجري تنصيب قضاة من قبل عالم الظلام والكواكب السبعة لمحاكمة الروح، وعادة ما ينطق الحكم بسجن الروح في الجسد بسبب الشهود الكاذبين:

"مَنْ ذا الذي قذف بي بين الشهود الحيّالين؟

مَنْ ذا الذي قف بي وسط الشهود المخادعين؟

الذين لا يملكون حتى ذرة من الاستقامة والصدق؟ " (5)

ولذلك يأتي تحذير عالم النور للروح عندما تهبط بالجسد بأن محاكمتها قد تجري أولا تجري ولن يحكم عليها بالعدل لأن عدالة عوالم الأرض والظلام مزيفة:

"إنك لن تذهبي إلى المحاكمة

ولن يحكم عليك بالعدل

لا، لن يحكم عليك بالعدل

إذ أنكِ مارست القيام بأعمال رجلٍ صادق

ما تتحملين أ،تِ إياه هنا وتصيرين عليه

لن تجديه أمامكِ، أيتها المختارة

فرّي هاربة من عنف وجبروت

الكواكب ذوات السلطان في هذا العالم" (6)

2. حساب بحر سوف: بعد أن تخرج الروح من الجسد فإن أول تحدٍ يواجهها هو بحر سوف السماوي (الذي يقابله البحر الأحمر على الأرض) فإذا كانت الروح مثقلة بالأخطاء فإنها ستغرق في هذا البحر ولن تجتازه صعوداً إلى نهر هيتبون. وإذا غرقت الروح في بحر سوف فإنها ستنحدر إلى عالم الظلام في عبادين السفلى وستقضي حياتها سجينة هناك مع كائنات الظلام وقد تعذب بالنار والماء الحار. أما إذا كانت الروح قليلة الأخطاء فأنها ستواصل الصعود خلال منازل الحراسة.

3. حساب الميزان (أباثر): وهذا هو الحساب الأخير قبل الصعود إلى عالم النور وفيه يتم وزن الروح من قبل الملاك أباثر حيث توضع الروح في كفّة ويكون شيتل ابن آدم في الكفة الأخرى. فإذا كانت أخطاء الروح قليلة جداً فأنها تصعد إلى عالم النور، أما إذا كانت هناك أخطاء معينة فأن الروح تنزل إلى واحد من منازل الحراسة بما يناسب ذنبها (وسنشرح ها مفصلاً) وتقضي زمناً طويلاً هنا
















































































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow